:مصدر المقال
https://ajalia.com/article/1305

ازمة الفكر والممارسة الصهيونية: الماركسية والصهيونية بين <<اليسار الصهيوني>>واليسار المناهض للصهيونية -الحلقة الاولى

2013-08-10

*بين "اليسار الصهيوني" واليسار المناهض للصهيونية*
*نظرة الى التاريخ*
تحمل مقولة "اليسار الصهيوني" تناقضات داخلية وتركيبة هجينة، ولا تسمح هذه التناقضات بالقفز مباشرة الى مناقشة العلاقة بينها وبين اليسار المناهض للصهيونية، من دون أن نتوقف لتفكيك مصطلح "اليسار الصهيوني". فالصهيونية في جوهرها وفي جيناتها نشأت في رحم الامبريالية، كحركة يمينية موغلة في الرجعية، واصطدمت على طول الطريق مع الحركة العمالية الثورية التي كانت في أوج انطلاقتها نحو الثورة الاشتراكية، ابتداء من النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
التقت الحركة الصهيونية بكل تياراتها على ثلاث فرضيات تتناقض مع كل ما هو يساري وعلمي ومع التحليل المادي التاريخي للمسألة اليهودية:
فرضية وجود شعب يهودي عالمي. أمة عالمية واحدة فريدة! لا تسري عليها القوانين الموضوعية أو التعريفات المختلفة.
وفرضية أن اللاسامية واضطهاد اليهود على أساسها تشكل ظاهرة ابدية، خالدة، ولا تاريخية، ناتجة عن مجرد وجود اليهود بين الأغيار من الشعوب الاخرى، ولذلك لن يتحقق اندماجهم بالشعوب التي يعيشون بينها.
وفرضية ان حل المسألة اليهودية يكون بسلخ اليهود عن مجتمعاتهم وتركيزهم في دولة يهودية في فلسطين- "أرض إسرائيل" على اعتبار أن فلسطين كانت إقليم الدولة العبرية القديمة . وهي مهمة تاريخية تؤديها "حركة تحرر قومي عالمية" لشعب يهودي عالمي،عابرة للحدود والدول متمثلة بالصهيونية. (إميل توما – الصهيونية المعاصرة).
ومن دون التوسع في معالجة هذه الفرضيات هنا، أكتفي بتسجيل الحقيقة التاريخية الساطعة، بان اليسار المناهض للصهيونية رفض دائما هذه الفرضيات جميعها ودحض أسسها، وفنّد منطقها، وفضح طابعها الرجعي، ودورها التضليلي، ومنهجها غير العلمي و اللاتاريخي. إن استناد أي تيار صهيوني الى هذه الفرضيات جميعها او اي منها، يتناقض مع المنطلقات اليسارية العلمية والمفاهيم الثورية ولا يمتّ اليها بصلة.
لقد رفض اليسار المناهض للصهيونية فكرة وجود شعب يهودي عالمي، واعتبر ان حل المسألة اليهودية يكون باندماج اليهود في مجتمعاتهم والمشاركة في المعركة الطبقية التي تدور في اوطانهم كجزء من الطبقة العاملة المحلية. وشدد اليسار الماركسي اللينيني على أن اللاسامية ظاهرة تاريخية لها جذورها الطبقية، تلجأ اليها البرجوازية الكبيرة الحاكمة والمأزومة، وتستثير أحقادًا متخلفة دفينة لدى شعب الاكثرية الواقع تحت استغلالها البشع، للتستر على مسؤولية الطبقات الحاكمة عن البؤس الذي يعاني منه الشعب وطبقاته العمالية الفقيرة، ولإبعاد انظار الشعوب عن عمق الاستغلال البشع الذي يتعرضون له، وتوجيه احقادهم الى الاقليات القومية والعرقية والدينية بمن فيهم اليهود، بدلا من توجيهها الى الطبقة الحاكمة والمطالبة "بإسقاط النظام".
وبدلا من دعوة العاملين اليهود للاندماج في المعارك الطبقية الطاحنة في أوطانها، في مواجهة البرجوازية الكبيرة، لتغيير نظام الاستغلال القائم في مجتمعاتها التي تعيش فيها، فإن الصهيونية تستثمر معاناة الجماهير اليهودية العاملة والفقيرة، وتستثمر اللاسامية، وتتستر على جذورها الطبقية من أجل تبرير الصهيونية لذاتها وترسيخ أسسها، بصفتها "تيارا سياسيا رجعيا، وحركة قومية متعصبة، وأداة هامة للبرجوازية اليهودية، يستغلها الاستعمار ضد القوى الثورية في عصرنا " كما عرفها الحزب الشيوعي الاسرائيلي في مؤتمره الـ 16 (عام 1969)،
ويعتبر المفكر الماركسي اللينيني وولف إيرليخ في كتابه "قوة الفكرة" أن النشاط الصهيوني يشكل جزءا لا يتجزّأ من الاستراتيجية الامبريالية الكونية. ولا يعني ذلك أنه لا توجد للقيادات الصهيونية ولكبار اصحاب رؤوس الاموال اليهود في البلاد وفي الاقطار الرأسمالية الاخرى، مصالح خاصة بهم، كالمصلحة في ترسيخ قاعدتهم المادية في اسرائيل، واستغلال جماهير العاملين في البلاد وسياسة التوسع والاحتلال. ان هذه المصالح الطبقية هي التي توجه نشاط القيادات الصهيونية ومشاريعها. ولكن في نهاية المطاف فإن كل نشاطاتهم وبرامجهم تخضع للاستراتيجية الامبريالية الكونية. وتستطيع هذه البرامج ان تتحقق فقط كجزء من الاستراتيجية الامبريالية الشاملة.
*ليست حركة تحرر قومي بل حركة اضطهاد قومي!*
وتاريخيا، لم يعلُ صوت على صوت الحركة الشيوعية في البلاد، في رفضها للصهيونية والصراع ضدها في الفكر والممارسة، وتقويض فرضياتها جميعا. فمع نشوء نواة الحزب الشيوعي الفلسطيني في عام 1919 كجزء من هذا الصراع وفي إطاره، ثم نشوء عصبة التحرر الوطني الفلسطيني عام 1943، وقيام الحزب الشيوعي الاسرائيلي نهاية العام 1948، دحض اليسار الشيوعي المناهض للصهيونية مقولتها التي تدعي أن الصهيونية هي حركة تحرر قومي يهودية. واعتبرها على نقيض ذلك، حركة اضطهاد قومي. واذا كان المحك لحركة التحرر الوطني ولقوى اليسار هو الموقف من الاستعمار، ومن النضال المعادي للاستعمار من جهة، والانحياز الى حركات التحرر الوطني في المستعمرات ضد مستعمريها، والتحالف مع قوى الثورة الاشتراكية المنتصرة بعد ثورة أكتوبر 1917 من الجهة الاخرى، والاندماج في الصراع الذي تخوضه الطبقة العاملة عالميا في مواجهة البرجوازية الحاكمة في المراكز الرأسمالية، فإن نجاح الحركة الصهيونية قام تاريخيا على عكس ذلك. فالصهيونية قامت على التعاون مع الاستعمار والاندماج في المشاريع الامبريالية ومعاداة الثورة الاشتراكية. وقام نجاحها في داخل الدول الرأسمالية على تعاون الصهيونية مع البرجوازية المحلية ضد حركة العمال الثوريين. وفي الشرق الاوسط، كانت الحركة الصهيونية منذ أيام الحكم العثماني، وخلال فترة الاستعمار البريطاني وحتى يومنا هذا، حليفا أمينا للمستعمرين على اختلافهم في مكافحتهم حركة التحرر القومي للشعوب العربية، ورأس حربة لمشاريع الهيمنة الامبريالية على المنطقة وتفكيكها وبسط نفوذها عليها.
ومقابل هذه السياسة طرح اليسار الشيوعي الاممي، اليهودي العربي المناهض للصهيونية في اسرائيل شعاره التاريخي: "مع الشعوب العربية ضد الامبريالية وعكاكيزها في المنطقة، وليس مع الامبريالية وعكاكيزها ضد شعوب المنطقة".
*اليسار الصهيوني – صهيوني اولا ويطمح ان يكون يسارا ما استطاع الى ذلك سبيلا!*
إن مصدر المزاوجة بين اليسار والصهيونية ملتبس يرتبط بطبيعة المرحلة التي نشأت فيها الصهيونية نهاية القرن التاسع عشر، حيث برز المد الثوري العمالي الاشتراكي وبدا ان المستقبل مرهون بالتحدي الكبير الذي تفرضه الطبقة العاملة وقواها الثورية في مراكز الرأسمالية، لانجاز الثورة العمالية وتجاوز النظام الرأسمالي العالمي، الآخذ بالغوص في تناقضاته في أعلى مراحل تطوره.
وقد تميزت الصهيونية منذ بدايتها وحتى وقت قريب بوجود تيار يحاول بعناد، التوليف بين الصهيونية والاشتراكية. والتف هذا التيار حول دعوة أحد آباء "الصهيونية الاشتراكية" البارزين – نحمان سيركين الذي كتب في العام 1898 : "ان الصهيونية تستطيع ان تتحقق فقط من خلال إقامة"ًدولة يهودية اشتراكية"ً، بمعنى دولة الطبقات العاملة"، وقال في الوقت نفسه إن "الصهيونية هي مشروع بناء "لليهود"، وهي مع ذلك لا تتناقض مع فكرة صراع الطبقات، لكنها تقف فوق صراع الطبقات هذا، وبفعل فرادة الحالة اليهودية فإن قوانين الصراع الطبقي لا تنطبق عليها، ولا يشكل تناقض المصالح الطبقية في إطارها تناقضا رئيسيا.. بل تتعايش الطبقات القائمة في الشعب اليهودي بوئام وتصالح، بغض النظر عن انتمائها وموقعها الطبقي.
هذا الالتباس الفكري وما يحمله من تناقض بنيوي، هو الذي تخبط في اطاره "اليسار الصهيوني" من بدايات الصهيونية، وحتى اندثار حزب مبام، وحركة هشومير هتسعير، والى ان تخلت "حركة العمل" نهائيا، عن اي ادعاء فكري او سياسي يساري، وإلى أن أخذت زعيمة حزب العمل الحالية تتوعد علنا إحدى المرشحات في قائمة العمل للانتخابات البرلمانية الاخيرة، لمجرد انها تجرأت في مقابلة صحافية على تعريف نفسها كيسارية، بعد ان كانوا أكثر من حمل هذا المشروع وحاول التوليف غير الواقعي، بين الدولة اليهودية الصهيونية وبين الاشتراكية، والتنظير لاشكال الاستيطان الاشتراكي التعاوني في "الكيبوتس" و"الموشاف" وغيرها من البنى التعاونية . (يتبع)
(قدمت هذه الدراسة في مؤتمر ماركس السادس الذي نظمه معهد إميل توما للدراسات الفلسطينية والاسرائيلية 6.7.2013)