:مصدر المقال
https://ajalia.com/article/1306

ازمة الفكر والممارسة الصهيونية: الماركسية والصهيونية بين <<اليسار الصهيوني>>واليسار المناهض للصهيونية -الحلقة الثانية

2013-08-10

  • أوصت عصبة التحرر الوطني بإقامة دولة ديمقراطية مستقلة لجميع سكان فلسطين عربا ويهود. وأكدت: "بأن يضمن أي حل، الحقوق الوطنية للشعب العربي في فلسطين، وفي الوقت نفسه، أن يؤمّن الحل الحقوق المدنية والحريات الديمقراطية للسكان اليهود في فلسطين، هذه الحقوق وتلك الحريات التي لا تتعارض أبدا مع أماني الشعب العربي القومية".
*"نظرية المراحل" – والتباس "اليسار الصهيوني"*
إن "نظرية المراحل" التي طرحها مئير يعاري في العام 1927، في الجلسة التأسيسية لحركة الكيبوتس القطري، التي تعالج التناقضات التي تخلقها محاولات التوليف بين الصهيونية والاشتراكية، قد وجدت ضالتها في الدعوة الى تأجيل النضال من اجل الاشتراكية وتأجيل النضال الطبقي حتى الانتهاء من المرحلة الطلائعية (الصهيونية). وهو ما نهج عليه "اليسار الصهيوني" بكل تجلياته، بحيث جرى إخضاع المطالب الطبقية للاهداف الصهيونية دائما وإخضاع النضال المعادي للاستعمار لمتطلبات المشروع الصهيوني أيضا.
وحتى نلمس ماذا يعني هذا في التطبيق، يكفي التوقف عند الشهادة التي أعدها مردخاي بيطون وقدمتها حركة "هشومير هتسعير" من "اليسار الصهيوني" أمام لجنة الامم المتحدة لتقصي الحقائق بشأن فلسطين (اليونيسكوب) في تموز عام 1947 عشية اتخاذ قرار التقسيم،وفي صلبها " مطلب هشومير هتسعير بتمديد بقاء الانتداب البريطاني (اقرأ الاستعمار البريطاني)، وتأجيل جلائه عن فلسطين لمدة عشرين الى خمسة وعشرين عاما أخرى، وذلك لضمان تشكل أكثرية يهودية مطلقة في فلسطين وشرقي الاردن يتم على أساسها وعلى اساس التوازن السكاني حينها حسم مصير البلاد.
ومقابل هذا الموقف الملتبس، (وربما المتلبس) لليسار الصهيوني فقد راوحت توصيات اليسار المناهض للصهيونية أمام اللجنة الدولية لتقصي الحقائق نفسها في تموز 1947، بين موقف الحزب الشيوعي الفلسطيني (الذي تشكل في هذه المرحلة بالأساس من الشيوعيين اليهود) الذي طالب في شهادته أمام اللجنة الدولية، بإنهاء الانتداب البريطاني فورا، وبضمان حق تقرير المصير لفلسطين كوحدة إقليمية واحدة. وبالرغم من اعترافه بوجود تجمُّعين قوميين في البلاد، فقد استمر في معارضة تقرير المصير المنفصل للعرب واليهود كل على حدة.
أما موقف عصبة التحرر الوطني الفلسطينية (التي تنظم في إطارها الشيوعيون الفلسطينيون العرب) فقد أوصت أمام اللجنة الدولية "باتباع سياسة تضمن انهاء الانتداب البريطاني فورا، وإقامة دولة ديمقراطية مستقلة لجميع سكان فلسطين عربا ويهود. وأكدت مطلبها: "بأن يضمن أي حل، الحقوق الوطنية للشعب العربي في فلسطين، وفي الوقت نفسه، أن يؤمّن الحل الحقوق المدنية والحريات الديمقراطية للسكان اليهود في فلسطين، هذه الحقوق وتلك الحريات التي لا تتعارض أبدا مع أماني الشعب العربي القومية".
لقد بات واضحا بعد هذه المقارنة، أن المزاوجة المضغوطة التي تتم بين الصهيونية كحركة موالية للامبريالية العالمية ولمصالح رأس المال الكبير (اليهودي والعالمي)، وبين نقيضها - الاشتراكية، هي مزاوجة هجينة كانت تهدف الى تشويه الاشتراكية وتضليل الطبقة العاملة اليهودية وجذبها وسلخها عن مجتمعاتها، وعزلها عن معارك الطبقة العاملة في أوطانها الأم، ومحاربة اندماجها فيها، واقتلاعها منها، لتصبح أداة "طلائعية" طيعة وخاضعة لمشاريع الصهيونية التي تستهدف بناء وطن قومي يهودي في فلسطين على حساب وجود الشعب الفلسطيني وعلى أرض وطنه.
وإذا كانت الصهيونية "تشكل تيارا سياسيا رجعيا، وحركة قومية متعصبة، وأداة هامة للبرجوازية اليهودية، يستغلها الاستعمار ضد القوى الثورية في عصرنا "، وإذا كانت الصهيونية تنفي الصراع الطبقي داخل الشعب اليهودي وتروِّج لتصالح وتوافق طبقي في اطار الدولة اليهودية، واذا كان الصراع بالنسبة لمفكري الصهيونية، ليس صراعا طبقيا بين جبهة أممية تتشكل من العامل اليهودي والعامل العربي والعامل الفرنسي مثلا، ضد العدو الطبقي الذي يمارس الاستغلال والاضطهاد، وضد الامبريالية، وإنما جبهة يتحد فيها العامل اليهودي المستغل (بفتح الغين)، والرأسمالي اليهودي المستغل (بكسر الغين)، في مواجهة مع الفلسطينيين كل الفلسطينيين، ومع العرب كل العرب، ومع الفرنسيين كل الفرنسيين (بحجة اللاسامية). واذا كانت الصهيونية مسكونة بالقلق، من فكرة ان كل صراع طبقي جذري في اسرائيل يضعف الوحدة القومية في مفهومها الصهيوني، ومن شأنه أن يشكل خيانة قومية، واذا كانت هذه مواصفات الصهيونية الجوهرية التي تلتقي عليها تياراتها جميعا، فماذا يبقى من يسارية "اليسار الصهيوني"، وما هي حدود العلاقة بين بعده اليساري وبعده الصهيوني؟.
*هل نتخلى عن المعركة على الجمهور الاسرائيلي؟!*
لقد ثبت بالفكر وبالممارسة التاريخية أن هذا التزاوج بين اليسار والصهيونية هو تزاوج هش لم يصمد في الامتحانات الحقيقية. وفي كل مرة اصطدمت القيم الصهيونية مع القيم الاشتراكية انتصرت مؤسسات اليسار الصهيوني لقيم الصهيونية، بينما وجد بعض من اعتبروا أنفسهم صهيونيين، أنهم مضطرون الى الاختيار بين الانسلاخ عن الصهيونية والانضمام الى المعسكر المناهض للصهيونية من جهة، أو الى التخلي عن اليسار والغوص في مستنقع المفاهيم الصهيونية اليمينية الرجعية الموالية للامبريالية من الجهة الاخرى، وخصوصا حين تقصف المدافع ويعلو التوتر الامني ويسيطر خطاب العسكرة.
لا توجد صعوبة في إبراز التناقض الوجودي القائم بين مصالح الشعب الفلسطيني والفكر والممارسة الصهيونية، التي جعلت من الشعب الفلسطيني عدوها وضحيتها الاولى. إلا ان أحد الاهداف الاصعب في المعركة ضد الصهيونية التي يخوضها العرب واليهود في اليسار الشيوعي المناهض للصهيونية، هو فضح التناقض بين مصالح الجماهير العمالية و الشعبية اليهودية المنضوية تحت يافطة الصهيونية، وبين المؤسسة والأيديولوجية الصهيونية الحاكمة في اسرائيل، وسلخ قطاعات أوسع من اليهود الذين اهتزت قناعاتهم بصدقية الصهيونية، ولمسوا تناقضها مع مصالحهم وقيمهم عن الكتلة الشعبية الملتفة هو اجماع قومي صهيوني مضلل.
إن بذل الجهود من أجل بناء التحالفات مع هذه المجموعات ودفعها للانفضاض عن الصهيونية، من خلال طرح بديل يساري ديمقراطي تقدمي، عادل قوميا وعادل اجتماعيا، يسقط هيمنتها، هو هدف استراتيجي أساسي لليسار المناهض للصهيونية.
لقد تبنى اليسار الشيوعي هذه الاستراتيجية منذ تأسيس اول تنظيم له في فلسطين وحتى اليوم، وقد برزت طبيعة هذه المواجهة، في خطاب اول سكرتير عام للحزب الشيوعي الفلسطيني مئيرزون في العام 1919، في دعوة العمال اليهود الى اكتشاف التناقض بين مصالحهم وبين الصهيونية والانفضاض عنها فقال: "حزبنا لن يكف عن دعوة كل العاملين اليهود الذين يرون في هذه اللحظة، أن خلاصهم الوحيد هو في الصهيونية قائلين لهم: أيها العميان انظروا، وأيها الطرشان إسمعوا، وأيها المتلونون أزيلوا القناع عن وجوهكم، واعلموا ان كل الابراج التي تفكر الصهيونية ببنائها هنا هي ابراج في الهواء، قائمة على مخزن بارود قد ينفجر في كل لحظة (...) ابحثوا عن طريق جديدة مأمونة، جدوا طريق السلام مع جماهير العاملين من الشعب العربي المقيم هنا. تذكروا أنه مع كل مواطن او صديق صهيون يأتي هنا لكي "يخلص" المزيد من الارض ويستغل سكانها – انما يضيف مزيدا من المواد المتفجرة من تحت أقدامكم ".(كتاب "خمسون عاما على الحزب الشيوعي في البلاد").
وفي بيان وجهه الحزب الشيوعي الفلسطيني اليهودي العربي الى العمال اليهود في مدينة تل ابيب في الاول من أيار 1936 جاء: "الصهيونية لا تشكل خطرا على مصالح الجماهير العربية في فلسطين وعلى مصالح الحركة الوطنية التحررية في المشرق العربي فقط، بل هي تشكل خطرا على مصالح الجماهير الشعبية اليهودية نفسها..".. وأضاف البيان:" إن الحزب الشيوعي الذي يناضل منذ قيامه من أجل تآخي الجماهير العربية واليهودية في النضال ضد الامبريالية، يدعوكم الى النضال ضد الصهيونية وضد سياسة احتلال العمل (...) إن الصهاينة يعملون على تحويل الجماهير اليهودية الى قوة لاضطهاد الحركة التحررية العربية". ( ماهر الشريف، الشيوعية والمسألة القومية في فلسطين 1919-1948، ص91-92)
(قدمت هذه الدراسة في مؤتمر ماركس السادس الذي نظمه معهد إميل توما للدراسات الفلسطينية والاسرائيلية 6.7.2013)