:مصدر المقال
https://ajalia.com/article/16474

لماذا «غزة أولاً»؟- محمد السهلي

2018-07-12

قررت إدارة ترامب تجاهل المفاوض الفلسطيني، الذي «تربى» وفق منظومة من الوعود والشعارات البراقة التي حرصت الإدارات الأميركية السابقة على مده بها كزوادة تمكنه من الاستمرار على امتداد ربع قرن في حلبة التفاوض.
وخلال تلك الفترة تم إقناعه بأنه شريك فعلي في تقرير الحل السياسي للصراع ـ الفلسطيني ـ الإسرائيلي. وبأن لا حل نافذاً دون موافقته.
وإذا كانت هناك أسباب كثيرة دفعت أصحاب «صفقة القرن» ومتعهدي تنفيذها إلى محاولة تمرير فصلها الفلسطيني من بوابة قطاع غزة، فإن القطع مع تلك المرحلة كان أحد هذه الأسباب.
لذلك، تدخل الإدارة الأميركية الحالية على خط التسوية بصفقة مبرمة (مع أصحابها) لا مكان فيها للتفاوض، وكل ما هو متاح أمام المستهدفين الانخراط فقط .. في التنفيذ.
ترى كل من إدارة ترامب وحكومة نتنياهو في قطاع غزة خزاناً من المشاكل المركبة، التي يفتح استمرارها وتفاقمها على تطورات متعددة الاتجاه. لذلك، تحاولان شق «مسرب آمن» يوجه هذه التطورات نحو نهايات لا تتصادم مع مصالح الشريكين. وبما أن مسيرات العودة تشكل لهما أحد السيناريوهات «السيئة» لانفجار الأوضاع في القطاع، سيتم التركيز على «تصويبه» عبر حشر المعاناة الفلسطينية عموما، و«الغزية» من ضمنها، في خانة القضايا الإنسانية. وهذه هي القاعدة المشتركة التي ينطلق منها الفهم الأميركي ـ الإسرائيلي للقضية الفلسطينية بعيداً عن مضمونها الوطني التحرري. وفي سياق تكريس هذا الفهم ينعتق الشريكان من استحقاقات قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة.
ويرى الشريكان أن البحث الجزئي في الوضع الفلسطيني بدءاً بـ«غزة أولاً» يحصره في ملفات محددة يسهل توفير موافقة أقطاب من المجتمع الدولي تجاهها، حيث لا تندرج في إطارها قضايا شكلت موضوع خلاف دولي واقليمي جدي مع الشريكين مثل القدس والاستيطان وغيرهما. ويبقى العنوان الأساسي هو «التبريد» التمهيدي في وضع القطاع عبر مسارين متلازمين.
أحد المسارين يغدق في إعلان المشاريع الخدمية ويتحدث باسهاب عن خطط لحل الكثير من المشاكل التي يعانيها أهل القطاع مثل شح الماء وتلوثها وانقطاع الكهرباء وتعثر حركة المعابر. وتتحدث مصادر الشريكين عن حشد تأييد إقليمي ودولي لهذا التوجه وتوافر استعداد للتمويل لدى أطراف خليجية ودعم لوجيستي وتسهيلات إدارية مصرية في دعم هذا المسار.
ويجد الشريكان في الإجراءات العقابية التي أقرتها السلطة الفلسطينية تجاه القطاع مادة دسمة للمزايدة على الحالة الفلسطينية عموماً و«الغزية» خصوصاً، مع أن إدارة ترامب مسبب أساسي في تفاقم أزمة الأونروا وما أدى اليه ذلك من تهديد جدي للخدمات المقدمة للاجئين الفلسطينيين ومن بينهم اللاجئون في القطاع.
والمسار المتمم يركز على «وقف إعلان الحرب على إسرائيل»، والذي يتمثل بالنسبة إلى تل أبيب بمسيرات العودة وما يرافقها من إطلاق الطائرات الورقية الحارقة. وتقصد أقطاب حكومة نتنياهو المبالغة في حجم الأضرار التي تسببت فيها هذه الطائرات بحيث تجاوز التحذير من أخطارها منسوب الخطاب الإسرائيلي المعتاد عن صواريخ المقاومة وأنفاقها. والسبب في هذه المبالغة هو تصوير جيش الاحتلال ومؤسساته الأمنية في حالة لن تطول من ضبط النفس، وهذا يعني استدراج عروض إقليمية جديدة من الضغط على الحالة السياسية والشعبية في غزة بهدف إيقاف هذه المسيرات.
كل ذلك يتفاعل في ظل الحديث متعدد الجهات عن إمكانية التوصل إلى وقف إطلاق نار يمهد لهدنة. ويشدد الشريكان الأميركي والإسرائيلي على لزوم توفير المناخ الأمني والسياسي «المناسب» لنقل الوعود «الانسانية» تجاه القطاع إلى حيز التطبيق. وهذا هو الموضوع الأساسي الذي يهتم له الشريكان اللذان يترقبان أية مؤشرات تفاعلية من داخل القطاع ، وتحديداً من حركة حماس.
ومن الواضح أن العروض «الإنسانية» المطروحة تجاه القطاع ليست مفتوحة، وأرادت حكومة نتنياهو أن تذكر حركة حماس بذلك عبر التضييق على حركة المعابر وتقنين نقل البضائع مؤخراً والتلويح بإجراءات أخرى. أي أن ثمة معادلة يسعى الشريكان الأميركي والاسرائيلي لتكريسها تجاه الحالة السياسية في القطاع أساسها تمرير صفقة أمنية وسياسية تكون مفتاحاً أولياً لمرور «صفقة القرن» بكامل عناوينها لتشمل الوضع الفلسطيني في الضفة والقطاع.
الأساس «الواقعي» الذي تستند إليه واشنطن وتل أبيب في الدفع نحو «غزة أولاً» هو تفاقم الانقسام ووصول طرفيه إلى حالة تشبه القطيعة الكاملة. وفي حال استمرار هذا الوضع، ستجدان متسعاً من الوقت لإنتاج وسائل إضافية للضغط على القطاع وأهله. لذلك، من نافل القول إن أية بادرة من قبل «فتح» أو «حماس» للخروج من هذه الحالة، والبدء بإزالة السواتر بين خندقي الانقسام، ستقلب الطاولة أمام محاولات تكريس المعادلات الأميركية ـ الاسرائيلية على عموم الحالة الفلسطينية.
المهم في أية بادرة لإحياء مساعي إنهاء الانقسام أن تنطلق من إرادة سياسية تستند إلى قناعة بأن الطريق إلى مواجهة الخطة الأميركية يبدأ بإنهاء الانقسام، التزاماً بقرارات المؤسسات الوطنية والحوارات الشاملة وتحت راية البرنامج الوطني التحرري الموحد، لأن التجربة المديدة في هذا المجال أكدت مراراً أن أية مبادرات في هذا الشأن لا تستند إلى ما سبق ذكره ستكون مناورة فاشلة في المكان. ولن تفيد في تخفيف الضغوط على البعض، ولن تلفت الانتباه وتعيد الاهتمام بالبعض الآخر، ولن تنجح في استدراج عروض أحسن من سابقاتها.
يمكن القول إن «صفقة العصر» أنتجت قبل ترسيمها الكثير من القرارات والإجراءات التي مست جوهر الحقوق الفلسطينية، وهذا صحيح. والصحيح أيضاً أن جميع القرارات الأميركية بشأن فلسطين اعتدت على هذه الحقوق منذ نشوء القضية الفلسطينية وحتى قبل ذلك. وعلى الرغم من هذا واصل الشعب الفلسطيني طريقه نحو استعادة حقوقه وتجسيدها، وأنجز الكثير على هذا الطريق، بفضل وحدته تحت راية البرنامج الوطني.
ويمكن القول أيضاً، إنه على الرغم من أن الحقوق الفلسطينية هي في مقدمة استهدافات الصفقة الأميركية ـ الإسرائيلية، إلا أن أطرافاً أخرى في الإقليم تشعر بالقلق على مصالحها جراء طرح هذه الصفقة. وإلى جانب هؤلاء هناك الكثير من الدول والتكتلات الإقليمية والدولية التي يلحقها الضرر جراء السياسة المتوحشة التي تسلكها إدارة ترامب.