:مصدر المقال
https://ajalia.com/article/17033

نضوب سيل الهجرة اليهودية يضرب ركيزة أساسية للصهيونية

2018-10-06

يقول الباحث جورج كرزم في مقدمة كتابه "الهجرة اليهودية المعاكسة ومستقبل الوجود الكولونيالي في فلسطين" الذي صدر مؤخرا، إن الهجرة اليهودية المعاكسة طالما أشغلت بال الأوساط الحكومية والأمنية الإسرائيلية، لما تشكله من إشكالية وجودية نظرا لصغر حجم السكان اليهود في إسرائيل نسبيا، والتكوين الكولونيالي الإثني اليهودي للأخيرة باعتبارها دولة "هجرة" واستيطان استعماريين، يشكل استمرار تدفق المستعمرين إليها ضرورة وجودية لا غنى عنها لتسمين "الدولة اليهودية" بالعنصر البشري.
ويدعي كرزم في دراسته أن عوامل الطرد الديمغرافي من إسرائيل تعاظمت، فأصبحت أعلى من عوامل الجذب إليها، وأن الدوافع الأمنية عامة، وتحديدا الهواجس الأمنية للعديد من اليهود الإسرائيليين، وانعدام الشعور بأمنهم الشخصي، تشكل القوة الدافعة للهجرات اليهودية المعاكسة، أكثر من العوامل الاقتصادية المتمثلة في الضائقة المعيشية والوضع الاقتصادي.
وتعالج الدراسة التراجع في "الهجرة" اليهودية إلى فلسطين، وتواصل الهجرة المعاكسة، التي تتوقع تفاقمها أكثر فأكثر مع تدهور الأوضاع الأمنية والعسكرية، وتصاعد المقاومة العربية ضد الاحتلال، إضافة إلى التكاثر الطبيعي الكبير في أوساط الفلسطينيين الذي سيؤدي إلى هبوط كبير متواصل في نسبة اليهود في فلسطين التاريخية.
ويناقش الكاتب ظاهرة حيازة أعداد كبيرة من الإسرائيليين اليهود جوازات سفر أجنبية، والاندفاع المتزايد لآخرين كثيرين لحيازة جوازات سفر أجنبية إضافية، بالتوازي مع التطمينات الأميركية للإسرائيليين بأن الحكومة الأميركية ستستصدر، عند الضرورة، جوازات أميركية للإسرائيليين اليهود الراغبين في ذلك، كما يقول.
ووضع الكاتب يده على نقطة الضعف المركزية في المجتمع الإسرائيلي، كما يعتقد، والمتمثلة في العنصر البشري الذي يعد بالمنظور الإسرائيلي عنصرا أمنيا من الدرجة الأولى، وبخاصة أن "الدولة اليهودية"، كدولة "هجرة" واستيطان كولونيالي، لم يكتمل بناؤها بعد من الناحيتين الديمغرافية والجيوسياسية، وهي تخطط إستراتيجيا لاستجلاب المزيد من مئات آلاف اليهود.
ويخلص كرزم إلى نتيجة مفادها أنه إذا استمر ارتفاع معدلات "الهجرة" المعاكسة، مع ازدياد عملية الاستنزاف البشري والاقتصادي في المجتمع الصهيوني وامتداده لفترة طويلة، كما يقول، فسيؤدي ذللك إلى تفاقم عوامل الانهيار الداخلي لبنية دولة إسرائيل.
حول كتابه "الهجرة المعاكسة ومستقبل الوجود الكولونيالي في فلسطين" الذي صدرت نسخته المطبوعة مؤخرا عن "دار الرعاة" و"دار الجسور" في عمان، أجرينا هذا الحوار مع الباحث جورج كرزم، وهو أسير محرر ومن الرعيل المؤسس للحركة الوطنية.
عرب 48: بقدر ما يبعث عنوان الكتاب على "التفاؤل" بقدر ما يحتاج إلى تدعيم بحقائق وأرقام مقنعة، وقادرة على نقل الموضوع من الحيز النظري إلى الواقع، أو من "التمنيات" إلى ساحة الفعل؟
كرزم: واضح أن اهتمامي بما يسمى بالهجرة اليهودية إلى فلسطين والهجرة العكسية ينبع من اهتمامي بالاحتلال وصدامنا مع الاحتلال، علما أن الهجرة الاستعمارية إلى فلسطين تعتبر إحدى أهم ركائز الحركة الصهيونية الثلاث الأساسية، المتمثلة أولا، بالهجرة الاستعمارية واستقطاب أكبر عدد ممكن من الصهاينة من مختلف أنحاء العالم وتوطينهم في فلسطين؛ وثانيا بالأرض؛ وثالثا بالدولة. وتشكل تلك الركائز الأساس المادي للصهيونية الذي من شأنه أن يسقط بتداعي إحدى ركائزه، كما ويرتبط الصراع مع الصهيونية ارتباطا عضويا بكل واحدة من تلك الركائز.
وتعتبر إسرائيل الهجرة المعاكسة بمثابة سر من الأسرار الأمنية، ولا تسمح بنشر معطيات وأرقام دقيقة ومفصلة حول هذا الموضوع، ولذلك يواجه الباحث في هذا المجال صعوبة كبيرة بسبب شح المعلومات والنقض الواضح في الأدبيات الإسرائيلية من جهة، وفي الأعمال التحليلية العربية بهذا الخصوص من جهة ثانية.
عرب 48: تحدث عن "نضوب" حركة الهجرة الاستعمارية إلى فلسطين كأحد العوامل التي تمس بركيزة أساسية للصهيونية، حتى من دون الهجرة المعاكسة؟
كرزم: حسب المسح الأولي لحركات الهجرة الاستعمارية إلى فلسطين، هناك ثلاث طفرات كبيرة ارتبطت جميعها بأحداث خارجية ليست لها علاقة بفلسطين: الأولى في ثلاثينيات القرن الماضي بعد صعود هتلر إلى الحكم، والتي استمرت خلال وما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث استغلت الحركة الصهيونية تلك الأوضاع لجلب عشرات آلاف المهاجرين اليهود من أوروبا إلى فلسطين؛ والطفرة الثانية بعد قيام دولة إسرائيل، حيث تم جلب مئات آلاف اليهود العرب من خلال الحركة الصهيونية وأعوانها وبالتواطؤ مع الحكام العرب إمعات الاستعمار؛ والطفرة الثالثة والأخيرة، كانت في تسعينيات القرن الماضي حيث استغلت إسرائيل والحركة الصهيونية انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الشرقية لجلب مئات آلاف المهاجرين اليهود.
هذا الخزان البشري الذي تم بواسطته تسمين الدولة الصهيونية قد نضب، وبدأنا نلحظ في السنوات الأخيرة بوادر هجرة معاكسة تتزايد باضطراد. فنحن نعرف أنه من مجمل 940 ألف مهاجر من الاتحاد السوفييتي السابق ودول أوروبا الشرقية، الذين استوطنوا البلاد في التسعينيات هناك حوالي 320 ألفا من غير اليهود، وأن هناك ما يقارب 220 ألفا من الـ 940 ألفا قد تركوا إسرائيل لاحقا، إذ أن بعضهم قد عادوا إلى بلدانهم بعد تحسن الأوضاع المعيشية هناك، والبعض الآخر غادر إلى أميركا.
عرب 48: تحدثت عن رقم تجاوز المليون من الذين تركوا إسرائيل؟
كرزم: يبلغ عدد الذين تركوا إسرائيل خلال العقود الأخيرة، بمن فيهم يهود الاتحاد السوفييتي السابق، مليون ونصف المليون. ويتضح أن العامل الأمني هو المؤثر الأساسي على الهجرة العكسية، حيث تزايدت الأعداد بعد الانتفاضة الأولى، وفي أواخر التسعينيات خلال العمليات الاستشهادية في الانتفاضة الثانية، وخلال حرب لبنان 2006 مرورا بالصواريخ شمالا وجنوبا.
فترات المد تلك زعزعت المفهوم الأساسي الراسخ بأن دولة إسرائيل أقيمت لحماية اليهود، الأمر الذي وضع إسرائيل أمام أزمة حقيقية وجودية، وبالتالي فإن التهديد الأمني الذي يعاني منه المواطن الإسرائيلي، وعجز الدولة عن توفير الحماية لمواطنيها، هو ما دفع المواطنين إلى التفتيش عن بديل يحميهم في حال تدهورت الأوضاع الأمنية والعسكرية.
عرب 48: أنت تتحدث عن صورة مصغرة لوضع متخيل أو متوقع يشكل هاجسا لدى الإسرائيليين وسببا كافيا للبحث عن احتياطات أمان؟
كرزم: في كتابه "أن ننتصر على هتلر" يدعو أبراهام بورغ، وهو الذي كان وزيرا ورئيسا للكنيست ورئيسا للوكالة اليهودية ويتمتع بصفة معنوية هامة في المجتمع الإسرائيلي، يدعو الإسرائيليين إلى امتلاك جواز سفر آخر، وهو نفسه امتلك جواز سفر فرنسيا.
وتكشف بعض الدراسات، بينها دراسة لـ "معهد تراث مناحيم بيغن" في القدس أن أكثر من 50% من الإسرائيليين، وحسب مصادر أخرى 70%، توجهوا أو كانت لديهم نية للتوجه للحصول على جواز سفر أجنبي.
كما ويشير تقرير لوكالة المخابرات المركزية الأميركية (CIA) أجري بين عامي 2015- 2016، إلى أنه في ظروف حربية متدهورة سيترك أكثر من نصف الإسرائيليين البلاد، وينسلخوا عنها نهائيا.
وبفرض أن 25% من إجمالي اليهود في فلسطين سيتركون، بالنظر إلى أن إسرائيل لا تتحمل حرب استنزاف طويلة، فإن عدد اليهود الذين سيغادرون سيصل إلى مليون ونصف المليون، وفي هذه الحالة فإن نسبة اليهود من إجمالي السكان في فلسطين التاريخية سيهبط إلى 40%.
هذا يعني أن عوامل الانهيار الداخلي لبنية دولة إسرائيل ستتفاقم، مع ازدياد ضغط الوضع الأمني والاقتصادي، وبسبب الهجرة المعاكسة التي ستزداد مع ازدياد الاستنزاف الاقتصادي والبشري وامتداده لفترة زمنية طويلة.
بمعنى أنه في ظروف تدهور الوضع الأمني العسكري والاستنزاف البشري الإسرائيلي لفترة طويلة الأمد، فإن اليهود سيتحولون إلى أقلية في فلسطين التاريخية، وهذا ما اسميته بالحد الديمغرافي الحرج الناتج عن الهجرة المعاكسة، وفي حال استمرت عملية استنزاف دولة إسرائيل لفترة أطول، وتواصلت الهجرات فإن الحد الديمغرافي الحرج سيتحول إلى ما يعرف بالضرر الديمغرافي.
عرب 48: ماذا تعني بالضرر الديمغرافي؟
كرزم: أعني دخول مرحلة الخطر الإستراتيجي على مجرد الوجود البشري والمؤسسي للدولة اليهودية، فعندما نتحدث عن مجتمع طبيعي وليس استعماريا (لو تذكرنا أنه في العقود الأخيرة كانت نصف الزيادة السكانية في إسرائيل ناتجة عن الهجرات) فالهجرة العكسية في مجتمع طبيعي تشكل تحديا خطيرا، خاصة إذا كانت من المتعلمين وذوي الاختصاصات وأصحاب المهارات، فما بالك بمجتمع كولونيالي مثل إسرائيل فهي تشكل إشكالية وجودية.
عرب 48: ربما هذا ما يفتح الباب لسيناريوهات أسوأها ترانسفير، في حال اختلال الميزان الديمغرافي بشكل كبير وألطفها أبرتهايد، في وضع تقارب أو تعادل كفتيه، وقد يكون قانون القومية العنصري بدايتها؟
كرزم: معروف أن مجمل عملية التسوية السياسية التي بدأت مطلع التسعينيات كانت بالنسبة لإسرائيل لمواجهة المسألة الديمغرافية، بعد أن تأكدت من نضوب مخزون الهجرة اليهودية، وترافقت مع التحذيرات من القنبلة الموقوتة والخطر الديمغرافي، ومن هنا بدأت إسرائيل تطالب الجميع، وخاصة السلطة الفلسطينية، بالاعتراف بها كدولة يهودية، لشعورها بأن يهوديتها آخذة في التضاؤل والانكماش، وبالتالي هي تريد شرعنة الحفاظ على يهودية الدولة حتى لو فقدت الأغلبية اليهودية، ومن غير المستبعد أن تلجأ لكل الوسائل بما فيها الاقتلاع والترانسقير للحفاظ على هذه الأغلبية، إذا ما تيسرت لها الظروف.
جورج كرزم: من مواليد حيفا عام 1956، درس الكيمياء في الجامعة العبرية بالقدس المحتلة، ودرّس في بعض مدارس حيفا الأهلية العربية. اعتقل وأمضى في السجون 6 سنوات، وأفرج عنه في إطارصفقة تبادل الأسرى عام 1985 (عملية الجليل). باحث وناشط في الحقلين التنموي والبيئي، رئيس تحرير مجلة "آفاق البيئة والتنمية" الإلكترونية التي يصدرها مركز العمل التنموي/ معا.
نُشِر له في الصحف والدوريات المحلية والعربية والأجنبية مئات التقارير والمقالات التحليلية النقدية في المجالات السياسية والفكرية والتنموية والبيئية. وله العديد من الأوراق البحثية والدراسات والكتب (في اللغتين العربية والإنجليزية)، منها: الحزب الشيوعي الإسرائيلي بين التناقض والممارسة (1993)، "موقع قوة العمل العربية في الاقتصاد الإسرائيلي وآفاق التغيير" (1995)، التنمية بالاعتماد على الذات، والعديد من الأبحاث الأخرى في مجال التنمية.
عرب 48