:مصدر المقال
https://ajalia.com/article/17297

قطاع غزة : من الرؤية قصيرة الأمد إلى الرؤية بعيدة المدى

2018-11-22

معهد دراسات الأمن القومي – بقلم كيم لافي وأودي ديكل – 19/11/2018
التصعيد الأخير بين إسرائيل وحماس في قطاع غزة (11-12 نوفمبر) اندلع في ذروة تقدم الجهود المستمرة لبلورة اتفاق تهدئة بين الطرفين. سلوك كلٌ من حماس وإسرائيل في هذا الحدث دليلٌ على الرغبة المتبادلة في السعي إلى تفاهمات (كلاهما يرفضان مصطلح “ترتيب” لأن تفسيره يعني الاعتراف المتبادل)، تتضمن وقف إطلاق النار وتسهيلات كبيرة في الحصار المفروض على قطاع غزة. الانطباع السائد هو أن كلًا من إسرائيل وحماس ليستا معنيتيْن بدفع الثمن الذي ستجنيه الحرب، والتي ستنتهي بالرجوع إلى نقطة البدء.
لذلك، فقواعد اللعب تصمم وتتبلور بطريقة ديناميكية. الاشتباك بين رجال حماس وبين قوة تابعة للجيش الإسرائيلي، عملت في خانيونس، استغلت أيما استغلال من قبل قائد حماس في قطاع غزة يحيى السنوار لكي يثبت لمنتقديه أنه لم يتخلّ عن طريق المقاومة المسلحة، وفي ذات الوقت يوضح لإسرائيل أن حماس لن تتحمل تحركات الجيش الإسرائيلي على أرض القطاع تحت غطاء تفاهمات وقف إطلاق النار. قرار حماس بإطلاق رشقة كثيفة من الصواريخ على إسرائيل عكس تقدير حماس بأن المطلوب هو ضربة قوية ومؤلمة لإسرائيل، ولكنها في ذات الوقت محدودة من حيث مدى الصواريخ، بحيث تسمح بالعودة إلى تفاهمات التهدئة، الرد الإسرائيلي بدوره كان صعبًا، ولكنه مع ذلك كان مدروسًا مُقاسًا، والشاهد على ذلك كان عدد الشهداء القليل نسبيًا في القطاع، جرّاء القصف (الذي استخدم فيه إجراء “الطرق على السطح” للتحذير قبل الهجوم على المناطق السكنية).
منذ عدة أشهر تحاول مصر، ومعها مبعوث الأمم المتحدة نيكولاي ميلادينوف، دفع ترتيب في قطاع غزة، من خلال الربط بين ثلاثة جهات: إسرائيل وحماس والسلطة الفلسطينية، اتفاق بين حماس وإسرائيل سيمس بمكانة السلطة بصفتها الجهة الممثلة الوحيدة للفلسطينيين، وسيديم حكم حماس لقطاع غزة، ومن جهة أخرى فإن اتفاق مصالحة فلسطينية داخلية بين حماس والسلطة سيمس بقدرة إسرائيل على التفرقة بين قطاع غزة وبين الضفة الغربية. لذلك، ورغم رفض إسرائيل وحماس للاعتراف المتبادل، تدور مفاوضات بينهما – وإن لم تكن مباشرة – دون حضور السلطة.
منذ بدء المظاهرات الشعبية على السياج الفاصل بين القطاع وإسرائيل (مسيرة العودة) في الـ 30 من مارس، حاولت حماس التوصل إلى اتفاق فحواه “الهدوء مقابل رفع الحصار” عن قطاع غزة والبدء في عملية إعمار كبرى في المنطقة. إسرائيل من جانبها، وضعت معادلة واضحة “الهدوء مقابل الهدوء”، واشترطت التقدم في إعادة جثث الجنود والمفقودين الذين تحتجزهم حماس، ولم تكن مستعدة لأن تسمح لحماس بتحقيق إنجازات تعزز قوتها على الساحة الداخلية وتوفر مصداقية “للعنف” الذي استخدمته على حدودها. في المقابل، السلطة الفلسطينية رفضت المساعدة في دفع اتفاق يوفر لحماس شرعية ويعزز حكمها في قطاع غزة، كما اشترطت أي تقدم نحو الاتفاق بالمصالحة الداخلية الفلسطينية بإعادة جميع الصلاحيات في إدارة قطاع غزة إلى سيطرتها، بما في ذلك الصلاحيات الأمنية.
اتفاق التفاهمات الذي تسعى مصر لتقديمه يتكون من ثلاث مراحل أساسية؛ الأولى: وقف إطلاق نار مستمر مقابل تسهيلات في الحصار، والثانية: إعمار القطاع، والثالثة: إعادة حكم السلطة بشكل تدريجي إلى القطاع. التصعيد الأخير اندلع خلال تنفيذ المرحلة الأولى؛ فقد خفضت حماس “العنف” على السياج ووسعت إسرائيل مساحة الصيد وسمحت بإدخال الوقود بتمويل قطري وسهلت نقل البضائع إلى قطاع غزة، كما أدخلت قطر – وبتصريح من إسرائيل – إلى القطاع 15 مليون دولار لدفع رواتب موظفي حماس، فيما أبقت مصر معبر رفح مفتوحًا أمام الأفراد والبضائع. انطلاق صفقة لإعادة جثث الجنود والمفقودين ستكون على ما يبدو شرطًا للتقدم إلى المرحلة الثانية، والتي من المفترض أن تتضمن مشاريع بنيوية بهدف إعمار غزة، وتوفير عشرات آلاف فرص العمل بتمويل من المجتمع الدولي، ويُحتمل أيضًا إقامة ممر مائي بين غزة وقبرص.
ما زال من غير الممكن معرفة المدى الذي ستبلغه هذه التفاهمات، وهل ستنضج لتصبح اتفاقًا يطبق في جميع مراحله. رغم ذلك، يمكن التقدير بأنه هذه الخطوة ناعمة، وفي حال عدم الشعور بالتقدم طوال الوقت، وما لم يطرأ تغيير كبير على الواقع الغزي؛ ستنهار هذه الجبهة أولًا عن آخر إلى مواجهة عنيفة بين إسرائيل وحماس. قيادة حماس – التي وعدت سكان القطاع بأنها لن ترضى بأقل من فك الحصار – لن تصمد طويلًا أمام الضغوطات الكثيرة الممارسة عليها، ومواجهة الانتقادات بحقها بسبب الأثمان الدموية التي دفعها مئات الفلسطينيين في المظاهرات على السياج في الأشهر الأخيرة. في المقابل، على الساحة السياسية في إسرائيل، باتت تسمع أصوات ترفض أي فكرة للتفاهمات التي يمكن تفسيرها على أنها اتفاق مع حماس، وأصوات أخرى تدعو للقيام بعملية واسعة النطاق في القطاع، وقد بلغت الانتقادات ذروتها باستقالة وزير الأمن أفيغدور ليبرمان من منصبه على خلفية ما وصفه “الخضوع للإرهاب”.
الآثار المترتبة على الساحة الفلسطينية
حماس حسّنت في العام المنصرم وضعها الاستراتيجي أمام إسرائيل والسلطة الفلسطينية والمجتمع الدولي؛ ذلك بفضل السياسة التي يقودها يحيى السنوار منذ انتخابه لمنصب رئيس المكتب السياسي في القطاع، فالسنوار عرض خطة سياسية، وغيّر حتى الآن خصائص الصراع من التركيز على المنظور الوطني – الديني إلى التقدم على المستوى المدني الإنساني. في المقابلة التي أجراها في أكتوبر مع “يديعوت احرونوت” قال “ما أريده هو إنهاء الحصار”، هذه الأقوال تشهد على الرغبة في الاهتمام بنماء الشعب في غزة من أجل الإبقاء على قوة حماس السياسية في القطاع خصوصًا، وعلى الساحة الفلسطينية عمومًا. بعد هذا التغيير في الأسلوب، تغير أيضًا أسلوب المقاومة، فإطلاق الصواريخ استبدل بالمسيرات الشعبية على السياج وإطلاق البالونات والطائرات الورقية باتجاه إسرائيل. في المقابل، ومن أجل الدفاع على صورتها كرائدة للمقاومة الفلسطينية؛ تهتم حماس بالتوضيح بأن الإنجازات ليست ثمرة الحوار مع إسرائيل، وإنما بسبب صوابية خيار استخدام القوة – من بين الكثير من الأمور – استنادًا على التفاهمات التي أنجزت مع مصر وقطر والمجتمع الدولي، والتي نبعت من ضغط المظاهرات على الجدار.
السلطة الفلسطينية نفسها واقعة في فخ، وتقف في هذه المرحلة لوحدها في المعركة التي تخوضها لإسقاط حكم حماس في القطاع. رئيس السلطة محمود عباس أراد ان يستغل ضائقة حماس وعجزها عن إحداث تحسن على أوضاع سكان غزة لكي يجبر حماس على توقيع اتفاق مصالحة كشرط للتقدم في إعمار القطاع، في إطار اتفاق المصالحة؛ طالبت السلطة بأن تنقل حماس إليها الحكم المدني والأمني في القطاع، وأن تخضع سلاحها للسلطة. عباس يخشى أن يعلق في وضع مثل الوضع الذي تورطت به الحكومة اللبنانية أمام حزب الله في لبنان: المسؤولية المدنية والإنسانية إلى جانب التنازل عن احتكار القوة. على هذا الأساس، فرض عباس خلال الأشهر الأخيرة عقوبات مبالغ فيها على غزة، أدت إلى تجميد رواتب عشرات الآلاف من مواطني قطاع غزة، وإلى نقص خطير في ساعات الكهرباء في القطاع.
ورغم أن كلا من مصر وإسرائيل لهما مصلحة أساسية مشتركة بإنهاء حكم حماس في غزة وإعادة حكم السلطة الفلسطينية إلى القطاع؛ غير أنهما قررتا تكريس الهدوء على المدى القصير، وهما ليستا مستعدتيْن لتلقي المخاطرات الكامنة بالتصعيد والانجرار إلى المواجهة العنيفة نتيجة استمرار الضغط على حماس. يبدو أنه وعلى خلاف الماضي، فإن مصر لا تعتبر اليوم المصالحة الفلسطينية شرطًا ضروريًا لتحسين الأوضاع في قطاع غزة، وهي مستعدة للتوصل إلى تفاهمات مع حماس حتى دون تدخل السلطة. مع ذلك، فمصر تفهم أنه في مرحلة تنفيذ المشاريع المدنية في القطاع ستحتاج إلى السلطة كونها قناة نقل المساعدات والمنح من المجتمع الدولي؛ ولذلك فإنها تسعى بالمقابل إلى الدفع تدريجيا باتجاه المصالحة الفلسطينية الداخلية.
إسرائيل باستعدادها للتوصل إلى تفاهمات مع حماس، من خلال تجاوز السلطة الفلسطينية، تدلل في الواقع على أنها لا تعتبر السلطة شريكًا في أي اتفاق، كذلك فإن هذا الاستعداد فيه دليل على أن إسرائيل تسعى إلى الهدوء على جبهة غزة بأي ثمن تقريبًا، بحجة أن غزة ساحة هامشية ويجب تركيز القوى والمجهودات على الساحة الشمالية (سوريا ولبنان) بصفتهما جبهة أساسية. حيث في الخلفية التقارير عن إعلان معركة الخطة السياسية الأمريكية، والتي كان الفلسطينيون قد أعلنوا أنهم ينوون رفضها، وكذلك الشائعات أن هذه الخطة ستركز على حل مشكلة غزة. السلطة الفلسطينية تخوض حربًا على قوتها ومكانتها على عدة ساحات بالتوازي؛ أمام إسرائيل وأمام حماس وأمام مصر والعالم العربي وأمام المجتمع الدولي.
توصيات للسياسة الإسرائيلية
في غيال الحل، السياسة المرجوة بالفعل هي منع تعزز قوة حماس العسكرية وممارسة الضغط بهدف خلق ردع يمنعها من استخدام القوة، في ذات الوقت اعتبارها عنوانًا مسؤولًا عمّا يدور في القطاع، ومن خلال الاعتراف بحكمها في القطاع بحكم الأمر الواقع. إسرائيل تمسكت بسياسة التفريق بين قطاع غزة والضفة الغربية، والتي يُراد منها تقليص الآثار السلبية للقطاع على الضفة، من خلال التقدير بأن السلطة الفلسطينية لا تستطيع أن تجدد تواجدها وحكمها للقطاع؛ هذا النمط يخدم الموقف الإسرائيلي الحالي والقائل بأنه “لا يوجد شريك” في الجانب الفلسطيني، بحيث يمكن التوصل معه إلى اتفاق سياسي شامل، وسيما تطبيقه.
إسرائيل تصرح علانية بأن ليس لها مصلحة في الحرب مع غزة، وأنها معنية بالهدوء بعيد المدى. رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو أوضح في باريس قبل التصعيد الأخير أنه “لا يخشى الحرب، ولكنه يريد منعها عندما لا تكون ضرورية”، وقدّر بأن حربًا أخرى ستعيد إسرائيل إلى ذات الوضع الذي كان قبل “الجرف الصامد”. في المقابل، مسؤولون في المنظومة السياسية وكثيرون من الجمهور الإسرائيلي يزعمون بأنه لابدّ من الخروج في عملية عسكرية واسعة النطاق لمواجهة حماس وتعزيز الردع الإسرائيلي. عمليًا، حماس وإسرائيل واقعتان في فخ متشابه؛ فمن جهة هما ليستا معنيتيْن بجولة قتال تكلفهما أثمانًا باهظة وتعيدهما إلى نقطة البدء، لكنهما أيضًا لا تريدان السماح للطرف الآخر بتحقيق إنجازات والظهور بمظهر من يتفاوض مع العدو.
على إسرائيل أن تعطي الأولوية لمصالحها بعيدة المدى على حساب المصالح قصيرة الأمد على الساحة الفلسطينية، الأفضل لإسرائيل أن يتم إعمار القطاع عن طريق السلطة، لكي تقطف هي وليست حماس ثمار الإعمار في أعين الجمهور الفلسطيني؛ لذلك عليها أن تبلور غرضًا مشتركًا مع السلطة ومصر وجهات ذات صلة على الساحة الدولية، الهدف المشترك هو تخفيف الضائقة الإنسانية في القطاع وتطوير البنى التحتية شريطة إعادة حكم السلطة الفلسطينية إلى القطاع، العمل المشترك سيكون رافعة ضغط كبيرة على حماس، وسيحد من قدرتها على المناورة.
المجتمع الدولي ما يزال يبدي استعداده للمساعدة في مشاريع قطاع غزة، والتي تهدف إلى تحسين البنى التحتية وخلق فرص عمل ونماء اقتصادي لسكانها. إسرائيل لها مصلحة في ضمها، بل ومقاسمتها، إذ أن تدخل قوة تنفيذية دولية في القطاع ستمثل عاملًا لاجمًا لحماس، وستقلل ثمن خسارتها إذا ما اختارت العودة إلى المقاومة “العنيفة”. على إسرائيل أن تساعد مصر في مجهودات المصالحة الفلسطينية الداخلية، وذلك بهدف تعزيز إمساك السلطة بزمام الأمور في غزة كجهة مسؤولة، واعتبارها عنوانًا للدفع باتجاه اتفاق سياسي.