:مصدر المقال
https://ajalia.com/article/18464

الديمقراطية تنهار وبيبي مجرد عارض من أعراضها الاقتصاد هو المذنب-هآرتس

2019-04-11

ليست الديمقراطية معفية من النواقص، وبين الحين والاخر نبشر بـ “ازمة الديمقراطية”. ولكن امكانية ان نرى في ايام حياتنا نهايتها هي الأمر الجديد. حتى الان كانت هذه في التاريخ البشري هي الطريقة التي اعطت النتائج الاقتصادية والاجتماعية الأفضل. اضافة الى ذلك، في هذه اللحظة على الاقل، فان ما يهدد بالحلول محلها هو نظام اجتماعي اكثر عنفا. اما النهاية فستظهر كتراجع الى نظام ظلامي أو في موت بطيء، ولكن في كل الاحوال – لم يعد هذا السيناريو خياليا.
في السنوات الاخيرة، احتد ضعف الليبرالية، ذاك الابن المرافق في شكل حقوق الانسان والمباديء المؤسساتية مثل فصل السلطات التي بدونها من الصعب تصور الديمقراطية التمثيلية. اما اليوم، فلا تبعث الليبرالية على الالهام وقد اصبحت مرادفا للوهن والتآكل. فالصحافة التقليدية – التي بدونها من الصعب تصور الحرية – تفقد القراء، المرابح والثقة. اما المحاكم، وهي مؤسسة حيوية اخرى في الديمقراطية البرلمانية، فتتعرض بلا انقطاع للاعتداء وتفقد من استقلاليتها. في الولايات المتحدة، الديمقراطية الاقدم في العالم، يعين قضاة محافظون جدا ممن يجعلون من قيم الديمقراطية اضحوكة باسم الحرية.
وتعد الكياسة، ضبط النفس والمجاملة والتي هي جزء من العوامل التي تلطف الوحشية العامة، اليوم في اوساط الكثيرين كميزة منكرة. وبالمقابل، فان الخطابية الفظة والعنصرية باتت أكثر انتشارا. مثل هذا الوضع ينبغي ان يقلق الديمقراطيين ايضا ممن لا يتماثلون بالضرورة مع الليبرالية، اذ انه دون اساس ليبرالي متماسك فان الديمقراطية ايضا في مشكلة. يكفي اذا ما فكرنا بعالم ليس فيه توازنات وكوابح، كيف نفهم كم يكون من الصعب على الديمقراطية ان تعيش بلا ليبرالية.
ولكن للديمقراطية مشاكل خاصة بها. فالترتيبات المؤسساتية مثل الشفافية والمسؤولية تحقق احيانا نتائج ضارة (انظروا ما حصل لاجر المدراء العامين للشركات العامة حين بدأت المعطيات عنهم تنشر)، وفي كل مجتمع في العالم يعرف بانه ديمقراطي توجد اغلبية واسعة من المواطنين “العاديين”، التي مواطنتهم هي دون. فصوت المواطن العادي لا يُسمع، وهو يجد صعوبة كبيرة في أن يغير الواقع وهو على علم بذلك. بلا مصادر مصداقة للمعلومات، تتضرر القدرة على تبادل الاراء بشكل حضاري، وتسوية النزاعات بشكل نزيه، والتأثير على تصميم السياسة في اتجاه يحسن للجمهور – والطريق الى العنف تقصر.
خيانة النخب
ينخرط رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في هذه الميول ويعظمها. ديماغوجي، محرض، مستمتع ومفسد، يمس بالنسيج الليبرالي الديمقراطي في اسرائيل، ويدفع الى الامام سياسة ذات نزعة قوة وتهكمية. ولكن مصدر المشكلة ليست في نتنياهو، ولا في ظروف اخرى من انتاج محلي، كالاحتلال، الاصوليين او ميزانية الدفاع. ففي فرنسا، مثلا، ليس هناك احتلال منذ زمن بعيد، ومع ذلك فان ثمة مجدا للاحزاب الشعبوية. وفي كل العالم يصوت المواطنون لزعماء يعربون عن النفور من الحلول المعتدلة. كما ان جذور المشكلة لا تكمن في ترتيبات مؤسساتية معينة، مثل طريقة الانتخابات.
بشكل مشابه، لا ينبغي أن نقع في الاوهام بان اصل الازمة في شخص معين او في ثقافة سياسية. فحتى في المجتمعات التي يبدو أنها لم تسمع ابدا عن اسم نوني موزيس، ولا يكتب فيها يئير نتنياهو بوستات عدوانية على الفيسبوك، فان الديمقراطية تنزف. خذوا مثلا بريطانيا، الدولة التي اسم اللعبة فيها هو “هذا لا يفعل” وفي برلمانها يتحدث النواب حقا الواحد مع الاخر. هناك يوجد روبرت مردوك، البريكزيت وكذا زعيم حزب العمال الذي هو لاسامي. طريق واحد للتصدي للازمة المتواصلة هي تخفيض مستوى التوقعات من الديمقراطية الليبرالية. من فعل ذلك لاول مرة، وبشكل ناجح جدا، كان الاقتصادي جوزيف شومتر، الذي في 1942 وصف الديمقراطية كمسابقة بين النخب على قلب الجمهور. المشكلة هي انه يوجد واقع. نحن لعلنا يمكننا أن نعيد تعريف ما هي الديمقراطية، ولكن هناك اناس كثيرون ليس خير لهم، وهو لن يبدأ بان يكونوا راضين فقط لاننا ثبتنا تعريفا جديدا. عمليا، تعريفنا للديمقراطية لن يغير نمط تصويت الامريكيين الذين صوتوا لدونالب ترامب، ولن ينقذنا من “قوة يهودية”.
إذن ما الذي سينقذنا؟ بقينا مع الاقتصاد، والاقتصاد في الديمقراطية الحديثة معناه الرأسمالية، ومنذ بداية الثمانينيات، الرأسمالية الليبرالية الجديدة: ايديولوجيا وفكر سياسي يتبنى تخفيض الانظمة الادارية، تقليص الخدمة العامة، زيادة المنافسة والصراع ضد العمل المنظم.
نظريا، تحدت الرأسمالية الديمقراطية دوما، وان كان فقط في أن مطالبتها بتوزيع المقدرات على أساس قوى السوق تقوض سيادة الجمهور؛ وفي ان منطقها يقوم على اساس المنافسة وعدم المساواة وليس على التكافل. أما عمليا، فقد تعايشت الراسمالية والديمقراطية معا بشكل لا بأس به. فالاثرياء لم يبالغوا، واطاعوا الانظمة الادارية ودفعوا الضرائب، وافقوا على التدخل الحكومي واستجابوا لرغبة العاملين في الاتحاد والتنظيم، على سبيل التوازن بقدر معين لفوارق القوة بينهم وبين الاخرين. كل هذا بدأ يتغير في أعقاب الازمة الاقتصادية العالمية في السبعينيات وبخاصة بعد الغاء اتفاق بيرتون وودس (الذي ثبت قيمة العملات الدولية مقابل الدولار الامريكي) في 1971 وأزمة الطاقة حول حرب يوم الغفران.
ان من خرق التسوية الكبرى بين الرأسمال والناس البسطاء هم النخب التجارية، التي بدأت تدفع الاقتصاد في الاتجاه الليبرالي الجديد. فما الذي دفعهم لان يفعلوا ذلك؟ يبدو أنه يوجد أكثر من عامل واحد. فقد يكونوا خافوا من رد فعل مضاد اشتراكي على الازمة ولكن معقول أكثر ان يكون هذا شيء ما بنيوي اكثر، في صورة “أزمة الرأسمالية”، مما قادهم لان يغيروا القواعد. بمعنى أن أصحاب المال لن ينجحوا في أن يربحوا مثلما كانوا يربحون في الماضي، ولهذا فقد توجهوا الى آفاق غير مجدية وغير انتاجية – مثل الاستثمارات المكثفة في المجالات المالية. كما أنهم كانوا بحاجة الى التراجع عن الانظمة الادارية التي تنظم الاسواق المالية، كي يواصلوا الكسب في الوقت الذي لا ينتجون فيها القيمة.
محركات النمو توقفت
كيف يرتبط كل هذا بالديمقراطية؟ يكفي ما قلناه كي نفهم بان الليبرالية الجديدة تضعف المواطن البسيط، الذي يحتاج الى تمويل عام للخدمات مثل الصحة والتعليم، وللتوجيه من جانب من يفهم في هذه المجالات. ولكن فضلا عن ذلك، فان رأسمالية عصرنا ليست متعلقة برفاه عموم السكان. عمليا، عدم الاستقرار يمكن ان يساهم لاصحاب المال – مالكي شركات التسييج مثلا كسبوا اموالا طائلة من البريكزيت. وعليه فيمكن الادعاء بان الرأسمالية اليوم تشجع سياقات اجتماعية وسياسية تتيح ارباحا كهذه. وهي بحاجة الى تدخل حكومي من نوع مختلف عن ذاك الذي احتاجته الرأسمالية القديمة – مثل التراجع عن الانظمة الادارية للمنظومة المالية والانقاذ عندما تفشل. وهي لا تريد مواطنين متعلمين ولا تريد سياسيين موهوبين وذوي قدرة خطابية – ممن هم كفيلون باعادة القوة الى الجمهور.
صحيح أن احساس الازمة ليس جديدا. وثمة شيء ما مواسٍ في المعرفة بان افضل المفكرين الحديثين عاشوا دوما باحساس من الازمة، الاستنفاد وانعدام المخرج. ولكن الامكانية في ان تكون هذه الاحاسيس السلبية هي ببساطة جزء من الوضع الانساني وربما بفضل القلق لا نصمت، لا يجب أن تدفعنا الى عدم الاكتراث.
ها هي أربع حقائق تستدعي من مؤيدي الديمقراطية الليبرالية بشكل عام ومؤيديها الاسرائيليين بشكل خاص، البحث عن حلول عاجلة. اولا، الرأسمالية التي كانت أحد المداميك في نجاح الديمقراطية الحديثة لا توفر النمو مثلما في الماضي، تبقي على مستويات عديدة من عدم المساواة، تقوض القيم الديمقراطية – بما فيها التكافل الاجتماعي والحرص على الاخرين – وليس بالضرورة تتميز بتحقيق المنفعة العامة. في السنوات الاخيرة وان كانت عدم المساواة في اسرائيل تقلصت والبطالة انخفضت، ولكن محركات النمو صامتة، والجهاز الصحي في أزمة والمواصلات العامة هي من الاسوأ في العالم المتطور. في صالح اسرائيل يقال ان الوضع شجع احدى الحكومات الاكثر عنصرية التي كانت هنا على أن تقرر وتنفذ قرار 922 بتعزيز الوسط العربي. وفي طالح الحكومة يجب ان تسجل حقيقة ان العنصرية لا تجعل الخطة تستنفد طاقها الكامنة.
ثانيا، أهدرنا أزمة 2008. فلم تستغل اي دولة تقريبا الازمة كي تدفع الى الامام بطريق جديدة او تحقق اصلاحات بعيدة الاثر. ففي العقد المنصرم منذ ان رأينا الانهيارات الاقتصادية في اليونان، مظاهرات الـ “نحن الـ 99 في المئة”، حركة حفلة الشاي، الاحتجاج في ارجاء العالم ضد سياسة التقشف الاوروبية وغيرها – ولكن عمليا ابتعدنا فقط عن الازمة الاقتصادية دون أن نغير الامور من الاساس.
ثالثا، في اعقاب هذا الهدر تعمقت المشاكل فقط، وهكذا شقت الطريق الى القمة لاحزاب وزعماء شعبويين يتآمرون ضد قيم الليبرالية والمؤسسات التي دعمت الديمقراطية الحديثة. زعامة فيكتور اوربان في هنغاريا، البريكزيت، انتصارات ترامب في الولايات المتحدة وبولسينيرو في البرازيل. كل هذه هي مؤشرات طريق في هذا الميل. وهام بقدر لا يقل، اصبحت العنصرية مقبولة، قسم كبير من الجمهور يشعر بعدم الثقة تجاه مؤسسات انفاذ القانون ووسائل الاعلام. ومنذ عقد يحكم في اسرائيل زعيم منذ شباط 2019 يعيش في ظل اتهامات جنائية تبعا للاستماع.
رابعا، حاليا ما يقف في اسرائيل في وجه الشعبوية القومية هي الزعامة التي تبث “بلاد اسرائيل القديمة والطيبة” أي لا شيء جديد غير الامور التي اثبتت نفسها كغير ناجعة وغير مفيدة – او السياسيين العنصريين الذين يملأون صفوف اليمين.
​“جدير بنا إذن أن نتعاطى مع المستقبل بذات الورع السوي الذي يوقظ الناس للتأهب وللقتال”، هكذا كتب المفكر الليبرالي الفرنسي دي توكويل في القرن التاسع عشر. اذا كانت الديمقراطية عزيزة على قلوبنا فان الصراع ضد رأسمالية المقربين وعمالقة المال ممن يأكون بالمجان يجب أن يستبدل بصراع من أجل اصلاح جذري اكثر لاقتصادنا السياسي.
* د. رئيس برنامج تعليم الديمقراطية في كلية العلوم السياسية في جامعة حيفا