:مصدر المقال
https://ajalia.com/article/18554

عودة إلى قراءة صفقة ترامب .. والحل البديل!

2019-04-25

(1)
قبل أن يخطو عتبة البيت الأبيض، باعتباره رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، هيمنت وعود ترامب بحل قضية الشرق الأوسط، وإنجاز ما فشل أسلافه من نزلاء البيت الأبيض في تحقيقه.
أطلق على مشروعه اسم «صفقة العصر»، أو «صفقة القرن»، مستعيراً بعض عباراته كتاجر عقارات ورجل أعمال مقامر، يلجأ إلى الصفقات الكبرى في إحراز الملايين. وتحولت قضية الشرق الأوسط، في حساباته، إلى مجرد «صفقة»، تتعلق بسلسلة من «العقارات»، يعاد توزيعها على دول المنطقة، مع الاحتفاظ لدولة إسرائيل بالحصة الأكبر، والإعلان بعد ذلك أن المهمة قد أنجزت، وأن قضية الشرق الأوسط قد حلت، وأن صراعاً عربياً – إسرائيلياً، منذ مطلع عشرينات القرن العشرين، قد وجد طريقه إلى التسوية، وبات على الجميع، في المنطقة، بما في ذلك إسرائيل، بل وعلى رأس الجميع إسرائيل، التفرغ للمهمة الأكبر، مهمة التصدي «للخطر الحقيقي» القادم على المنطقة من إيران.
لا نذيع سراً أن القيادة الرسمية الفلسطينية راهنت على ترامب، كما كانت قد راهنت من قبل على أسلافه. وكلمة فلسطين في مجلس وزراء خارجية الأنظمة العربية في القاهرة (21/4/2019) إقرار واضح وصريح، بأن الرهان على ترامب كان في مقدمة حسابات القيادة الفلسطينية. ولا نذيع سراً، أن القيادة الفلسطينية لم تراهن على ترامب فحسب، بل وقعت في فخ الاعتقاد أن الطريق بات مفتوحاً إلى الحل. وقد بشرت، في إحدى التصريحات أن العام 2017 (ولا بأس في أن يمتد إلى 2018) هو عام الحل. لتأتي «الصفعة»، و( ليس الصفقة) في 6/12/2017، لتكشف عن ملامحها: أولى خطواتها «حل قضية القدس»، انطلاقاً من «الأمر الواقع». أي الاعتراف بها عاصمة لإسرائيل (مادامت إسرائيل قد نجحت في الاحتفاظ بها والاستيلاء عليها طوال ما بعد حرب حزيران /يونيو/ 67) ونقل سفارة الولايات المتحدة إليها.
حتى موعد الإعلان عن نقل السفارة جرى اختياره بدقة: يوم النكبة الفلسطينية الكبرى، إمعاناً في الكيد للحالة الفلسطينية، وإعلاناً عن انتصار أميركي – إسرائيلي، في واحدة من جولات التسوية للصراع في المنقطة.
(2)
«صفقة ترامب» لم تقف عند حدود القدس. بل امتدت نحو «حل» قضايا أخرى، تندرج في إطار ما يسمى في اتفاق أوسلو «قضايا الحل الدائم».
• فالاستيطان، تحول من انتهاك لقرارات الشرعية الدولية، ومن كونه إجراءات باطلة، إلى إجراءات شرعية، تلبي حاجة بناء «إسرائيل الكبرى»، التي باتت تستند في ايديولوجيتها إلى « قانون القومية»، الذي يحصر حق تقرير المصير بـ «الشعب اليهودي» وحده، وينزعه عن الفلسطينيين (أي لا يعترف بهم شعباً).
• وحق العودة «خرافة سياسية» لا بد من إعادة صياغة ملامحها. فاللاجئ هو من ولد في فلسطين قبل العام 1948. أي نزع الصفة القانونية عن الأبناء والأحفاد. وبناء عليه تنحصر خدمات وكالة الغوث بهذا الإطار الضيق ممن ينطبق عليهم التعريف الجديد. وعليه فإن الأونروا لم تعد بحاجة إلى هذه الموازنات المالية بملايين الدولارات. وعليه (أيضاً) تتوقف الولايات المتحدة عن تمويل «الوكالة». وتطلب إلى الجهات المضيفة تحمل مسؤولياتها نحو اللاجئين، مع وعود أنه، على جناح «الصفقة» ستأتي مليارات الدولارات محمولة إلى الجهات المضيفة، كمساعدات من أجل إدماج اللاجئين في المجتمعات المحلية. وخلفية هذا كله، رأي إسرائيلي يقول بإسرائيل «دولة يهودية»، و«دولة اليهود في العالم»، تستند في أحد ركائزها إلى «قانون العودة» الذي يمنح يهود العالم «حق الهجرة» إلى إسرائيل ونيل الجنسية. كما يستند هذا الادعاء إلى أن لليهود وطناً واحداً هو إسرائيل، بينما للفلسطينيين ( الذين يطلق عليهم عرب إسرائيل) وللاجئين الفلسطينيين، 22 دولة عربية، بإمكانهم الذهاب إليها. وواضح أن مشروع صفقة ترامب لتوطين اللاجئين، فتحت شهية بعض التيارات الصهيونية، وشجعتها على كشف الورقة المخفية: طرد «عرب إسرائيل» إلى الدول العربية المجاورة في تطبيقات صفقة ترامب. ما يدعو للقول إن على الأطراف الفلسطينية ألا تفاجأ، يوماً ما، إذا ما ذهب ترامب مذهب هذه الأطراف الصهيونية، وقدم مشروعاً «للنقل الجماعي» للفلسطينيين في إسرائيل، إلى خارجها.
• أما الصيغة الأخيرة والنهائية للكيان الفلسطيني، فرهن بالمصالح الأمنية الإسرائيلية. وبناء عليه بدأت الدبلوماسية الأميركية «تبدي تفهماً» لحاجة إسرائيل لضم الأجزاء الكبرى من الضفة الفلسطينية، ودوام سيطرتها الأمنية على الحدود، والأجواء، والمياه الإقليمية، والمواقع والتلال الاستراتيجية، ونظام الاتصالات، وغيره مما يمكن أن يدخل في الملف الأمني، كما تعرفه حكومة إسرائيل وأجهزتها المختصة. ما يعني، شطب الدولة الفلسطينية، لصالح كيان بديل، يرتبط بأشكال مختلفة ومتباينة، بالأردن من جهة، وبالإدارة المدنية لسلطات الاحتلال من جهة أخرى. ما يشير بوضوح إلى أن هذا الكيان لن يتجاوز حدود «الحكم الإداري الذاتي» على السكان، في تعاون أمني واقتصادي وإداري مع الجارين: الأردن من جهة والإدارة المدنية لجيش الاحتلال من جهة أخرى (ما يعني بقاء الحكم الإداري الفلسطيني، كما هو الآن، تحت مرجعية وزارة الدفاع الإسرائيلية. باعتباره مسألة أمنية لا أكثر).
(3)
منذ أيامها الأولى، بدت الإدارة الأميركية الجديدة، أنها إدارة عدوانية، تستعيد تقاليد وسياسات الإدارات الإمبريالية السابقة، تعتمد القوة وسيلة لتحقيق أهدافها. تستخف بالقوانين الدولية التي تنظم العلاقات بين الدول. زرعت الفوضى في أنحاء العالم، وليس في المنطقة العربية وحدها. حولت مجلس الأمن الدولي الجمعية العامة إلى ساحة لاستعادة أجواء الحرب الباردة. تنطحت للدول التي تراها أقطاباً منافسة لها. أو حتى مشروع قطب جديد. فناصبت العداء روسيا، والصين، وكوريا الشمالية، وكوبا، وفنزويلا، وسوريا وإيران ودولاً أميركية لاتينية، وخاضت حروبها الاقتصادية ضد أوروبا، وعملت على بناء جدار فاصل مع الجوار الأميركي لمنع تدفق المهاجرين، في دفاع مستميت عن مصالح الرجل الأبيض، حتى أنها نشرت أجواء في العالم لا تختلف كثيراً عن أجواء عشية الحرب العالمية الثانية.
أسهمت في تغذية اليمين الشعبوي الأوروبي، كما أسهمت في تغذية منطق القوة والعنف داخل الولايات المتحدة نفسها. وبدت الولايات المتحدة إمبراطورية تقرع طبول الحرب في وجه كل من يعارضها أو ينافسها، تفرض عليه ما تسميها «عقوبات اقتصادية»، ضاربة بعرض الحائط الاتفاقات والمعاهدات والقوانين الدولية، بما في ذلك تلك المعاهدات والاتفاقيات التي تلزم الولايات المتحدة نفسها والتي وقعتها الإدارات الأميركية السابقة.
أما في بنية الإدارة، فاستعادت رموز فترة الحرب البادرة، ورموز «المحافظين الجدد» كمستشاره بشؤون الأمن القومي، جون بولتون، صاحب النفوذ الواسع لدى عدد كبير من مراكز البحث الأميركية، المعنية بالتنظير لسياسة القوة، بديلاً لسياسة العمل بالقوانين الدولية وعبر الأمم المتحدة.
أما في منطقة الشرق الأوسط، فقد قامت سياسة الإدارة الأميركية على إعادة صياغة المعادلات السياسية، والرؤى الاستراتيجية، بما تراه ضرورة لحفظ مصالح الولايات المتحدة فيها. لذلك قررت أن الخطر الذي يتهدد المصالح الأميركية هو «الإرهاب»، القادم من جهة إيران، عبر حلفائها في المنطقة ومنهم بشكل رئيس حزب الله، في لبنان، والحشد الشعبي في العراق والحوثي في اليمن، أضافت لهؤلاء مؤخراً الحرس الثوري الإيراني، وفرضت على هؤلاء جميعاً «عقوباتها» الاقتصادية، بما في ذلك تحريم التعامل معهم، تحت طائلة العقوبة.
الركن الثاني للرؤية هو بناء حلف إقليمي لمواجهة هذا الإرهاب، المتمثل في إيران وحلفائها، بحيث يجمع الحلف المتضررين من السياسة الإيرانية، وهم أنظمة عربية ومسلمة، تلتقي مع إسرائيل في ضرورة مواجهة العدو المشترك. وبذلك تكون المعادلة الجديدة أخرجت إسرائيل من دائرة العدو، ونقلته إلى دائرة الحليف والشريك في الحلف الإقليمي. ولإزاحة العوائق أمام الانخراط العلني لإسرائيل في هذا الحلف، بات ملحاً حل القضية الفلسطينية لاعتبارها هي العائق الأول.
وواضح أن هذه المعادلة لم تسقط من السماء، بل هي نتاج حوار وتشاور مع «أركان» النظام الرسمي العربي، وقد وجدت لديه ارتياحا، بل وترحيباً، كوفئت عليه الإدارة الأميركية بصفقات سلاح وغيرها، بلغت مئات المليارات من الدولارات، قدمت ترامب إلى شعب الولايات، رئيساً ناجحاً في جلب المشاريع الاستثمارية، وتوفير المزيد من فرص العمل في البلاد، ونشر أجواء الازدهار في أنحاء الولايات المتحدة، مرة عبر الصفقات الموقعة مع الدول الحليفة، ومرات عبر السطو واللصوصية والتعدي على الاتفاقيات الملزمة للولايات المتحدة والتنصل منها.
(4)
في حل الصراع الفلسطيني (والعربي) الإسرائيلي، اعتمدت إدارة ترامب ذات المبادئ التي تعتمدها دولة الاحتلال منذ قيامها. وأهمها وأساسها المبدأ القائل أن قرارات الأمم المتحدة لا تلزمنا. وأن القوة هي العنصر الرئيس في الحل، من خلال فرض الأمر الواقع. بل ذهبت إدارة ترامب إلى أبعد من ذلك، حين حاولت، ليس فقط أن تنسف قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، والتي تكفلها وتدعو لتحقيقها، بل أيضاً إلى فرض قرارات بديلة تنسف الحقوق الفلسطينية، وتوفر الغطاء السياسي للاحتلال الإسرائيلي، ولعدوانه باعتباره حقاً مشروعاً للحكومات الإسرائيلية. فمقابل القرارات الأممية التي تعترف للشعب الفلسطيني بحقه في مقاومة الاحتلال باعتباره حقاً مشروعاً، يكفله حقه في تقرير مصيره على أرضه، حاولت الولايات المتحدة في 6/12/2018 أن تمرر، في الجمعية العامة، مشروع قرار يدين مقاومة الشعب الفلسطيني باعتبارها إرهاباً. إلا أن هذا المشروع فشل أمام أغلبية دولية، مازالت تعترف للشعب الفلسطيني بحقه في مقاومة الاحتلال وتحرير أرضه وممارسة حق تقرير المصير فوق أرض وطنه.
وبالتالي تقف الحالة الفلسطينية ليس أمام إدارة تحاول أن تشطب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني فحسب، بل وتعمل أيضاً في الوقت نفسه على توفير الغطاء القانوني الدولي للمشروع الصهيوني الإسرائيلي، مشروع دولة إسرائيل الكبرى، على حساب المشروع الوطني الفلسطيني، مستفيدة بلا شك من العديد من عناصر الضعف التي تعتري الحالة الفلسطينية والعربية معاً.
بما خص الحالة الفلسطينية فإن المعضلة الكبرى هي أن العقل السياسي الفلسطيني، المقيد باتفاقات أوسلو، ورهاناته على حل عبر مفاوضات ثنائية مع إسرائيل، ورفض الخيارات الأخرى، والمشدود في الوقت نفسه إلى مصالح طبقية وفئوية اجتماعية راكمها عبر سلطة أوسلو، عاجز عن قراءة الأبعاد السياسية الكبرى للاستراتيجية الأميركية وبالتالي عاجز عن الخروج من استراتيجية أوسلو، نحو استراتيجية بديلة، بعدما حررت إسرائيل نفسها، وتحررت الولايات المتحدة معها، من التزامات أوسلو واستحقاقاته. ولأن مصالح هذه الفئة، مرتبطة بدوام أوسلو، ودوام سلطة وفقاً لشروط أوسلو، ومرتبطة بالغطاء السياسي الذي يوفره لها أوسلو، ولغياب إرادتها في استراتيجية بديلة، تراها تماطل في مجابهة صفقة ترامب وسياساته في المنطقة، وترفع وتيرة المعارضة الكلامية، دون تحويل هذه المعارضة إلى خطوات عملية إجرائية. أي إنها تعارض ضمن الحدود التي لا تلحق الضرر بمصالحها الفئوية الطبقية والاجتماعية، ولا تخرجها من المعادلة السياسية الإقليمية، التي مازال أوسلو مدخلها. لذلك تراها، حتى في المحافل العربية (القمة أو وزراء الخارجية) لا تأتي على ذكر قرارات المؤسسة الوطنية الداعية إلى الخروج من أوسلو، بل وتتغطى بغطاء عربي رقيق يجدد كل مرة تأييده لما يسمى «رؤية الرئيس»، أي البقاء في مربع أوسلو، أو بالتحديد في مربع بقايا أوسلو.
أما قرارات المجلس المركزي (5/3/2015+15/1/2018) والمجلس الوطني (30/4/2018) فقد انقلبت عليها دورتا المركزي الـ29 ولـ30، حين أحلت رؤية الرئيس محل المؤتمر الدولي، أي حين أعادت إرساء أوسلو، ومرحلة ما يسمى «قضايا الحل الدائم» مشروعها السياسي وهدفها المباشر والسامي.
أما قرارات المجلس المركزي والوطني المذكورة أعلاه، فقد حولتها إلى مادة إعلامية للمقايضة، تلوح بها وتلوح بإمكانية تطبيقها، ليس لتطبيقها، بل للضغط على الحالتين العربية والأوروبية على أمل إيجاد «حل وسط» بين صفقة ترامب، وبين المشروع الوطني الفلسطيني، سبق وأن جرى تقديمه تحت مسمى «حل الدولتين».