:مصدر المقال
https://ajalia.com/article/3648

أبعد من داعش.. الشرق الأوسط بين خيارين

2014-07-05

أدت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" السريعة على مناطق واسعة من العراق إلى قسمة جغرافيا البلاد على ثلاثة أقسام، هي: مناطق سيطرة الدولة المركزية، مناطق سيطرة الكرد، ومناطق سيطرة "داعش".
ونتيجة لهذا التمدد المفاجئ للتنظيم، بات لكلٍ من هذه المناطق الثلاث قواها العسكرية والاقتصادية المنفصلة واقعاً عن بعضها البعض.
تأكيدات رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بأن الجيش استعاد زمام المبادرة وأنه سيعيد الأمور إلى وضعها السابق في فترة صغيرة، لم تظهر بشائرها بعد؛ وبالمقابل، يتحفز الأكراد باندفاعٍ شديد لاغتنام فرصة الحلم التاريخي بالانفصال عن السلطة المركزية، خصوصاً مع وصول داعش إلى المناطق المتنازع عليها بين بغداد وأربيل.
خطوة داعش المباغتة طرحت تساؤلات كبرى حول مستقبل العراق والمنطقة، ودفعت دول جوار العراق إضافةً إلى الولايات المتحدة الأميركية إلى المسارعة لبحث المخاطر والفرص التي قد تتأتى من هذا الحدث المعاكس للسياق العام للأحداث في المنطقة.
وفي هذا السياق قبل انفلاش داعش، كان الجيش السوري يستعيد يوماً بعد آخر السيطرة على مناطق تواجد المجموعات المسلحة ومن بينها داعش، كما تمكنت الإدارة السورية من إجراء الانتخابات الرئاسية، ليفوز الرئيس بشار الأسد بولاية رئاسية هي الأولى له في ظل الدستور الجديد. وفي العراق، فازت لائحة المالكي بالعدد الأكبر من مقاعد البرلمان بين الكتل الأخرى، وكان البحث مركزاً على تشكيل الحكومة، والشخصية التي سوف تكلف بالتشكيل، مع حفاظ المالكي على فرص كبيرة بذلك.
وبشكلٍ مريب، تبدل المشهد لتسقط المناطق بسرعة بيد داعش، فيصبح التنظيم مسيطراً على ما يساوي حجم دولة متوسطة بين سوريا والعراق.
هل باستطاعة داعش إقامة دولة قابلة للاستمرار بين العراق وسوريا؟
إن قيام دولة جديدة يتطلب توافر المقومات الرئيسة للدولة، أي وجود إقليم جغرافي بحدودٍ واضحة معترف بها من قبل الدول الأخرى، ووجود شعب يقطن هذه الأرض ويرتبط بها بارتباط الجنسية التي تعرّفها منظمة العدل الدولية بأنها "رابطة قانونية قائمة أساساً على رابطة اجتماعية وتضامن فعال في المعيشة والمصالح والمشاعر مع التلازم بين الحقوق والواجبات"، إضافةً إلى سلطة سياسية تنظم تفاعل السكان مع الأرض، وعلاقة الدولة بالخارج. يمتلك تنظيم داعش البنية العسكرية التي تخوله السيطرة على الجغرافيا بحدودٍ معينة، ومع سيطرته على مناطق غنية بالنفط في سوريا والعراق بات يمتلك مقومات اقتصادية ذاتية إلى جانب ما يمكن أن يتلقاه من جهات خارجية، والشكوك حول ذلك كثيرة. ولكن من جهة الشعب، فإن البيئة الحاضنة لأفكار "الدولة الداعشية" لا ترتقي إلى درجة الحديث عن شعبٍ مشكلٍ لأهم أركان الدولة.
أداة لدور محدد.. وبتاريخ انتهاء صلاحية
كل البحث في مقومات الدولة بالنسبة لداعش يبقى غير ذي معنى بسبب عدم إيمان التنظيم أساساً بفكرة الدولة كوحدة سياسية تمارس السيادة على إقليمها من خلال المؤسسات، وتقيم العلاقات مع مثيلاتها من الدول، وتسعى لنيل الشرعية والشخصية القانونية الدولية، فضلاً عن أن "داعش" لا يعترف بالحدود أو حتى بالأمم المتحدة، ولا يمكن له إقامة علاقات دولية أو نيل اعتراف دولة واحدة من دول العالم.
وبالتالي لا يمكن اعتبار وجود تنظيم عسكري يسيطر على جغرافيا محددة كافٍ للقول بأن دولة جديدة تنشأ بين العراق وسوريا، وتوصيف الواقع الناشئ عن تمدد "داعش" بهذه الصورة لا يتعدى اعتباره حتى اللحظة، توسيعاً لحدود المعركة مع الإرهاب في كلا البلدين، إذا استثنينا نقطتين:
• تطور المواقف الكردية المتوثبة نحو الإنفصال.
• احتمال إنشاء كيانٍ طائفيٍ بدعم غربي وإقليمي عربي-إسرائيلي، يعقب القضاء على داعش.
وبناءً عليه، يبدو "داعش" كأداةٍ تستخدم لموقفٍ محدد تنتهي بانتهائه، رغم إعلان داعش "الخلافة الإسلامية" وتنصيب أبو بكر البغدادي خليفة للمسلمين.
في الأسباب الداخلية لانفلاش "داعش"
لا شك بأن لتمدد "داعش" في العراق أسباباً داخلية عديدة، ترتبط بالعراق أكثر مما ترتبط بقدرات التنظيم المتطرف الذي لا يجد له حاضنة شعبية في المناطق التي يسيطر عليها داخل سوريا، والذي تسبق سيطرته على أي منطقة حركة نزوح السكان الهلعين.
وفي أول الأسباب تلك، يأتي النظام السياسي العراقي بعد الاحتلال الأميركي عام 2003، حيث تحول إلى نظامٍ طائفي يقوم على تقاسم المنافع والمواقع بين الأحزاب والقوى الطائفية، من دون الالتفات بشكلٍ جدي إلى ضرورة بناء دولة ديموقراطية تعددية تقوم على احترام الطوائف من جهة، وبناء مفهوم المواطنة من جهة ثانية.
وكان بنتيجة هذا الخلل في النظام السياسي أن عاش العراق عشر سنوات من الأزمات السياسية المتتابعة، ومن الطبيعي أن تنتج هذه الأزمات فساداً في الدولة في كنف نظامٍ طائفيٍ، وأن تشعر كل فئة بأنها معنية بالدرجة الأولى بانتزاع حقوقها من الفئات الأخرى. وبالتالي فإن المكونات المختلفة تسعى في سبيل ذلك إلى استجلاب التدخلات الخارجية في شؤون البلاد.
من ناحية ثانية، يتبين وجود ثغرات جدّية في بناء القوى الأمنية للدولة، وأن الإنفاق العسكري العراقي على بناء قدرات اليد الغليظة للدولة لم يؤدِ إلى نتائج كافية لدرء خطر الإرهاب، خصوصاً في الناحيتين المسلكية والنفسية لرجال الأمن كما تبين الأحداث الأخيرة.
لقد سيطر مسلحو "داعش" في العاشر من حزيران-يونيو على الموصل، على الرغم من تواجد عشرات الآلاف من قوات الأمن العراقية في محافظة نينوى. تزداد الريبة مما حصل إذا علمنا أن الإنفاق العسكري العراقي بين عامي 2004 و2012 فاق 37031 مليون دولار*، بمعدل 2،6 % من إجمالي الناتج المحلي سنوياً.
ولا يمكن حصر التقصير في هذه الناحية بالحكومات العراقية المتعاقبة، فالاحتلال الأميركي عمد إلى حل الجيش العراقي كخطوة أولى بعد إسقاط نظام صدام حسين. ولم تعتن الإدارة الأميركية جدياً بكل الخطط التي قدمت للمرحلة الرابعة من الحرب، وهي التسمية التي أطلقت على مرحلة إعادة بناء قدرات الدولة العراقية بعد انتهاء المراحل الثلاث الأولى التي اشتملت على تفاصيل الأعمال الحربية وتفكيك النظام.
لقد تُرك العراقيون ليبدأوا من الصفر في المجال الأمني، برغم الحديث عن المساعدات الأميركية في التدريب والتسليح وبناء الأجهزة، بعد أن غيّر دونالد رامسفيلد خطة الـ 400 مليار دولار لإعادة بناء العراق واستعاض عنها بـ"تسهيل جهود العراقيين الهادفة إلى بسط الأمن في بلادهم وإعادة إعمارها باستخدام عائدات صادراتهم من النفط"، كما يقول الجنرال برنارد تراينور ومايكل غوردن في كتابهما "كوبرا 2.. التفاصيل الخفية لغزو العراق واحتلاله".
الأكراد.. أحداث تحاكي الحلم الدائم
"العراق ينهار ونحن لم نكن سبباً، ولا يمكننا أن نظل رهينة للمجهول"، هكذا علّق رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني على سيطرة تمدد "داعش"، فانفصال الإقليم وإنشاء الدولة الكردية حلم تاريخي للأكراد ولآل البارزاني تحديداً، وبما أن خطوة "داعش" تؤدي إلى فرض أمرٍ واقعٍ على الأرض، فإن الأكراد يجدون في ذلك فرصتهم التاريخية لتحقيق حلم الانفصال. القادة الأكراد، اعتبروا أن الوقت قد حان لإعلان الدولة الكردية المستقلة، ووزير الخارجية الأميركي جون كيري سمع من البارزاني أن الأحداث الأخيرة أفرزت واقعاً جديداً وعراقاً جديداً، في الوقت الذي كان فيه كيري يتحدث عن حكومة وحدة عراقية. يزداد زخم الأكراد نحو الانفصال مدفوعين باتفاق تصدير النفط مع تركيا، وبنَهَم إسرائيلي للنفط كما لفكرة دولة كردية تقسم العراق وتكون خطراً دائماً على إيران وسوريا. ولكن اللافت في المسألة هو الموقف التركي المتبدل والمعاكس للموقف التاريخي الرافض لاستقلال الأكراد.
ولطالما شكل رفض استقلال كردستان نقطة تقاطع بين كلٍ من العراق وتركيا وإيران، وهي إلى جانب سوريا الدول التي يسكن فيها الأكراد في منطقة متصلة تمتد من جنوب غرب إيران إلى جنوب شرق تركيا، ومن شمال شرق سوريا إلى شمال العراق. لذلك، كانت هذه الدول تعتبر في الاستقلال الكردي خطراً على وحدة التراب الوطني لكل واحدة منها.
المشهد الإقليمي بعد سيطرة "داعش"
سارعت القوى الإقليمية والدولية مباشرة بعد الأحداث الأخيرة إلى التعامل مع الواقع المستجد ما بين النهرين، بعضها درءاً للخطر عن حدودها، والبعض الآخر محاولةً لاقتناص فرصة امتلاك أوراق جديدة ضرورية في مرحلة كسر التوازنات التي تمر بها المنطقة منذ ثلاث سنوات.
السعودية: وهم ضمان الدور
تصف السعودية نشاط "داعش" في العراق بالإرهابي، وتنكر بإصرار اتهامات الحكومة العراقية لها بدعم التنظيم الذي يمتلك منذ فترة إمكانات مالية جعلته الأقوى بين الجماعات الجهادية التي تقاتل الجيش السوري منذ ثلاث سنوات.
غير أن اللافت في الرد السعودي على تلك الاتهامات تختصره "النصيحة" التي وجهها وزير الخارجية سعود الفيصل للمالكي حين قال: "إذا كان لنا نصيحة للمسؤول العراقي للقضاء على الإرهاب في بلاده هو أن يتبع السياسة التي تتبعها المملكة ولا يتهمها بأنها مع الإرهاب".
اتباع السياسة السعودية في مكافحة الإرهاب يدعو للتساؤل حول التمويل العلني للمنظمات الإرهابية في سوريا من قبل المملكة، في سبيل إسقاط نظام الأسد. وهل أن رسالة السعودية للمالكي تعني دعوته إلى الانخراط في رؤيتها للصراع في سوريا والمنطقة، كحلٍ يجنّب العراق خطر "داعش"؟
هذه الرؤية تفترض امتلاك الرياض بواعث اطمئنان على أنها بمنأى عن خطر التنظيم، وأن حدود نشاطه لن تتسع أبعد مما هي عليه اليوم، هذا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى تفترض أن المملكة مطمئنة لثبات نفوذها عند سنّة العراق، وعدم إحساسها بخطرٍ حقيقي من أن يسحب "داعش" ورقة العراق منها. وبالتالي، فإن وهم الشعور السعودي بالقدرة على ضبط الأمور ووقفها عند حدٍ معين، قد يؤدي إلى مخاطر لا تحمد عقباها بالنسبة للمملكة.
بعيداً عن معاني الرد السعودي على الاتهامات العراقية، تبدو الأحداث العراقية الأخيرة فرصة لاستعادة الرياض قدرتها على المناورة في ساحةٍ من اثنتين كانت قد خسرتهما بانتخابات، من منطلق حاجة العراق اليوم إلى المساعدة للحفاظ على وحدته.
سوريا: الأكثر تأقلماً مع الخطر
بعد فوز الأسد في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وبالنظر إلى مسار تقدم الجيش السوري خلال العام الفائت، تبدو سوريا أكثر دول المنطقة تأقلماً مع خطر التنظيمات الإسلامية، إلى حدٍ يسمح لها بمساندة العراق في حربه ضد "داعش"، وليست الضربات الجوية التي ينفذها سلاح الجو السوري فوق الأراضي العراقية إلاً صورة غلافٍ لملف التعاون الأمني السوري-العراقي في مواجهة التنظيم المتطرف.
ولا شك أن الدولتين تتقاسمان المخاطر الناتجة عن توسع حالة "داعش"، غير أن اختلاف المعطيات الداخلية عند كل منهما ربطاً بعامل الزمن مقلق للعراق أكثر مما هو لسوريا.
وفي المقلب الآخر، فقد لا يكون توسيع ساحة المعركة مكسباً لداعش، بل على العكس من ذلك، فإن "حكم" الدولة الإسلامية لهذه المساحة الواسعة يشكل المسمار الأمضى في نعش التنظيم، خصوصاً وأنه بات يواجه جيشين بقدرات متنوعة براً وجواً، فضلاً عن ملامسة الأخطار حدود دول إقليمية أخرى ستسارع بدورها إلى مد يد العون لهذين الجيشين كخطوة وقائية لحماية حدودها.
إلى جانب هذه المعطيات، تساعد تجربة حكم داعش في الرقة ومناطق أخرى على تسريع تلاشي أي قبول شعبي قد يكون موجوداً في العراق.
وبنتيجة كل ذلك، فإن الدول الأكثر تضرراً من تمدد "داعش" اليوم هي تلك المستجدة على التعامل مع خطره، وبعضها من حلفاء واشنطن في المنطقة، ما دفع بمراكز دراسات أميركية إلى دعوة الإدارة للتعاون مع دمشق، "حتى وإن بدا ذلك غير مستساغ بالنسبة للقوى الغربية الأخرى".
الأردن: نار على حدود الحقل اليابس
تأتي الأردن في طليعة تلك الدول المهددة بخطر "داعش"، نظراً لتنامي التيارات الإسلامية فيها، وخصوصاً تلك المتطرفة منها.
مراكز الأبحاث الأميركية تلمست خطر "داعش" على الأردن، فحذّر "معهد واشنطن" من استهداف وشيك للمملكة الهاشمية، "بالتزامن مع تنامي قلق الدول الغربية من ارتداد وعودة المقاتلين الاجانب لبلدانهم". ورأى المعهد ان الاردن "يعاني من تنامي التهديد .. يعززه تجذر قوى الجهاد السلفية (التي) ارسلت مقاتليها الى سوريا ويخشى عودتهم .."، فيما رأى معهد "ستراتفور" الاستخباري ان "داعش" عازم على التمدد في الأردن "البوابة الوحيدة (المطلة على البحر) للدولة الاسلامية في العراق والشام .. بالرغم من جملة قيود وعقبات ميدانية تعترض مساره،" مستنداً بذلك الى قاعدة دعم "هامة من السلفيين والجهاديين .. تمكنه من شن هجمات في الاردن متى شاء،" مقارنةً بدول أخرى إذ "لا يستطيع الانتشار في تركيا، أو التوجه إلى لبنان."
بذلك، تصبح الأردن مضطرة إلى إعادة النظر بسياساتها السابقة تجاه الأزمة السورية والتنظيمات الإسلامية المشاركة فيها.
تركيا: التكتيك على حساب الاستراتيجيا
انتظرت تركيا 20 يوماً لتعلن معارضتها الشديدة لانفصال اقليم كردستان عن العراق، ولا يبدو القادة في أنقرة مستثارين إلى حدٍ كبير من خطوة "داعش". استقلال كردستان لطالما كان كابوساً يؤرق الساسة الأتراك، ولكن حسابات التكتيك السياسي تبدو مربحة لهم، وإن كان الخطر الاستراتيجي ليس أقل من خسارة تركيا لجزء من أراضيها.
صحيفة " راديكال" نقلت عن حسين تشيليك نائب رئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم أن تأسيس دولة كردية مستقلة في شمال العراق ليس مدعاة قلق لتركيا. ولكنها في السابق "كانت سبباً لإعلان الحرب، فالتلفظ بكلمة كردستان كان ممنوعاً، لكن في حال تقسيم العراق ويبدو أنه أمر لا مفر منه فإن الكرد هم إخوتنا".
صحيفة "ميلليات" هي الأخرى تحدثت عن تغير موقف تركيا لجهة التعامل مع كردستان. الأجواء نفسها تنقلها الصحف الأميركية، حيث قالت "نيويورك تايمز" إن "الأكراد هم الحليف الأفضل لتركيا في العراق، إن لم يكن في المنطقة بأسرها"، وإن الثمرة الوحيدة لسياسات الثنائي أردوغان وأوغلو هي تمكنهما تدريجياً من "تحويل مشاعر مرارة الأتراك تجاه طموحات الاكراد إلى مصالحة وتحالف معهم في نهاية المطاف، جسّده اتفاق تصدير النفط عبر تركيا".
واشنطن وطهران: يد تصافح ويد تصارع
منذ اجتياح الولايات المتحدة للعراق عام 2003، والحديث عن "الفوضى الخلاّقة"ظن لا يتوقف. المصطلح الذي بات متداولاً حد الملل يجد ترجمته من خلال ترك تفاعلات التناقضات لطبيعتها وللوقت، حتى تنتج قوانينها الخاصة بحسب موازين القوى. واليوم وجدت واشنطن نفسها أمام فرصة لاستعادة بعض النفوذ في العراق، خصوصاً وانها تفاوض إيران في الملف النووي.
ومع اقتراب "داعش" الى نحو مئة كيلومتر عن أقرب نقطة إلى الحدود الإيرانية، تجد الولايات المتحدة نفسها أمام فرصة لابتزاز إيران، واستعادة جزء مما خسرته في الساحة العراقية بعد انسحاب قواتها، وعدم رضاها على سياسة المالكي تجاه الأزمة السورية.
حاولت واشنطن حصر التنسيق مع إيران في تبادل المعلومات الأمنية فقط، على أن تعود هي إلى ممارسة الدور الأساسي في مساعدة العراق لمحاربة "داعش"، واللعب على عامل الوقت لابتزاز العراق أيضاً.
رفضت إيران ذلك، معلنة قدرتها على محاربة الإرهاب، واستعدادها لمساندة العراق، وتدخلت سوريا عبر طلعات سلاح الجو لضرب أهداف داخل الأراضي العراقية، ما أتاح الفرصة أمام الجيش العراقي لاستعادة زمام المبادرة من جهة، وسحب ورقة الضغط هذه من يد واشنطن، التي سارعت إلى إبداء استيائها عبر وزارة الخارجية التي قالت: "لا نحبذ تدخل سوريا في العراق لاعتبارات استراتيجية رغم الفائدة التكتيكية حالياً".
إلا أن واشنطن ملزمة بمساعدة العراق بحسب الاتفاقية الأمنية بين الاثنين، والتي كان الأميركيون يتوقعون الحصول من خلالها على نظام سياسي موالٍ لهم، وبالتالي فهي اليوم مضطرة للتدخل من جهة، وقلقة من العودة إلى وحول المنطقة من جهة أخرى.
الناطقة باسم الخارجية الأميركية ماري هارف أعلنت انه في الوقت الذي يشكل فيه "داعش" عدواً مشتركاً للولايات المتحدة وإيران والعراق وسوريا فإنها (الولايات المتحدة) لا تشترك مع سوريا وإيران في المصلحة الاستراتيجية.
بدوره، وزير الخارجية جون كيري حاول التهرب من مسؤولية بلاده في ما وصل العراق إليه، قائلاً: "لسنا السبب في أحداث العراق.. ولن ندفع بأي قوات عسكرية".
مهما يكن، فإن الولايات المتحدة ستشارك في محاربة داعش، لا مفر من ذلك، ولكن دعواتها وحليفتها بريطانيا إلى حكومة وحدة وطنية عراقية تترك الباب مفتوحاً امام عدة احتمالات، فهل ستكون هذه المشاركة إلى جانب حكومة المالكي؟ أم ينتظر الغرب تشكيل الحكومة التي طالب بها ليمد يد المساعدة؟
موسكو أيضاً سارعت إلى تمتين نفوذها المتصاعد في المنطقة، أتمت صفقة طائرات مقاتلة من نوع سوخوي 25 مع العراق، وأعلنت أنها تريد علاقات جيدة مع عراقٍ موحد وقوي، كما جاء في تصريح وزير خارجيتها سيرغي لافروف لمناسبة الذكرى السبعين لإقامة العلاقات الديبلوماسية بين موسكو وبغداد. غير أن موسكو لا تصدر ضجيجاً كثيراً حول أحداث العراق، ربما بسبب نجاح خطة الإشغال التي حركها الغرب في أوكرانيا، وربما أيضاً لأنها مطمئنة لفاعلية الحلفاء في الشرق الأوسط وقدرتهم على الثبات بعد الجولتين الانتخابيتين في سوريا والعراق.
أبعد من الإقليم
لم تنفصل أحداث بلاد الشام يوماً عن أحداث مصر، وبالاتجاه المعاكس، يكون للتغيير الذي أحدثه فوز عبد الفتاح السيسي بالرئاسة المصرية أثره البالغ في التعاطي مع أحداث العراق الأخيرة.
والحديث عن السيسي هنا يعني تبدل الرؤى الاستراتيجية المصرية حيال تحالفات القاهرة الدولية، ومحاولة استعادة الدور المصري القديم في المنطقة. ومن دون المبالغة بقدرة مصر اليوم على التحول إلى سياسة خارجية مستقلة وداعمة للقضايا العربية، يمكن القول إن البلاد بدأت مساراً جديداً عنوانه الانفتاح على الجميع، وتخطي المحظورات الأميركية والإسرائيلية السابقة، من دون القطع مع واشنطن. وعليه فإن أولى نتائج هذا النسق الجديد في السياسة الخارجية المصرية يتمظهر بمسارعة كيري إلى زيارة القاهرة، بالتوازي مع تحسن علاقات الأخيرة مع كل من طهران وموسكو، ومع خطوة السيسي باتجاه الجزائر لإعادة ابتكار نواة موقف عربي قوي يكون ذخراً له في ولايته الأولى.
إن خسارة مصر المتوقعة والتي لم تحدث بعد –بعيداً عن السيناريوهات السينمائية الدراماتيكية- تعني للولايات المتحدة أن هناك ضرورة كبرى لإعادة التوازن في مكان ما من الشرق الأوسط، وهذا ما يعزز أهمية الاستفادة من تمدد "داعش" لاستعادة دور مفقود لمصلحة المحور الآخر.
وتزداد اهمية العلاقة المصرية الجزائرية، والتحول المصري الواعي والبطيء، بالنظر إلى الوسائل المستخدمة في المعركة على العراق، وقبله على سوريا. إن الوسيلة الأبرز بيد داعش ومحركيها هل التركيز على العصبية الطائفية، والبحث عن بيئات حاضنة للتطرف الداعشي بوجه الطوائف الأخرى في المنطقة؛ ومن الطبيعي أن يكون الترياق لهذا السم، موقف يرتكز إلى العروبة، ورفض الانقسام والتقسيم على أساسٍ طائفي، وهذا تحديداً دور الجزائر وسوريا، ومصر وفي قلبها الأزهر، والعراق وفيه المرجعية الشيعية العليا وشيوخ السنة الذين أعلنوا منذ اللحظة الأولى مساندتهم للجيش العراقي في وجه "داعش".
استنتاجات
يحتاج العراق إلى حملة إصلاح سريع تسير بالتوازي مع استعادة الجيش زمام المبادرة في حربه مع الإرهاب، كما يحتاج إلى التركيز على استيعاب المتطوعين من كل فئات الشعب في الجيش، وعدم السماح باستهداف القوات الامنية العراقية بخطابٍ طائفي، إضافة إلى استثمار الالتفاف الديني من كافة الفئات حول المؤسسات الأمنية الرسمية.
إلى جانب ذلك، لا بد من تعميق الصلات بالدول العربية التي تعاني من العدو نفسه، وفي طليعتها مصر والجزائر وسوريا، فضلاً عن التعاون مع الجهات الإقليمية والدولية صاحبة المصلحة في مواجهة التطرف وأدواته.
ولا شك في ان من يدفع ثمن الأحداث الحالية في دول المنطقة هم المواطنون بالدرجة الأولى، لذلك فإنه من الاولى إشراك المواطنين ببرامج مكافحة الإرهاب على الصعد كافة، في سبيل إعادة اللحمة الضرورية للنسيج الاجتماعي في العراق والمنطقة.
كما ان باستطاعة العراق الاستفادة من التهديد الذي يشكله "داعش" لدول المنطقة، والانطلاق في مرحلة جديدة من العلاقات القائمة على وحدة العدو، ما يؤدي إلى محاصرة المتطرفين، وتعرية القوى الداعمة لهم.
وبما أن الخطر المتأتي عن تمدد "داعش" الأخير ليس عسكرياً وإنما هو الفتنة الطائفية التي تفسح المجال أمام احتمالات كارثية في المنطقة، فإن المعالجة الفضلى تكون بالعمل على المدى الطويل في عزل الفكر المتطرف بين شعوب المنطقة.
بهذا فقط، يمكن تجنب السيناريو الدائم للأفلام الهوليودية الطويلة، حيث يفتك المستذئبون بالبشر طويلاً، ثم يأتي البطل الأميركي ليخلص البشرية منهم.
إن أحداث العراق الأخيرة مرشحة لأن تشكل الحفل الختامي لما سمي بالربيع العربي، من خلال توسيع رقعة المواجهة لتستوعب تدمير الأدوات القديمة التي استخدمت خلال السنوات الثلاث التي مرت، ومنها "داعش"؛ كما هي مرشحة لأن تكون بداية مشروع تفتيتي جديد لا يستثني خطره أحداً من دول المنطقة. للحوار الإيراني-السعودي دور مركزي في اختيار إحدى الوجهتين لمسار الأحداث.
أرقام الإنفاق العسكري مأخوذة من الكتاب السنوي لمعهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي عن "التسلح ونزع السلاح والأمن الدولي لعام 2013".
فضائية الميادين