:مصدر المقال
https://ajalia.com/article/3922

عدوان «الجرف الصامد» .. نقاش في تجربة الامكانات القانونية

2014-08-20

سهيل الناطور
مدير مكتب التنمية الانسانية ـ بيروت
أمام هول الجرائم ضد الانسانية، التي كررت اسرائيل الصهيوينة تنفيذها ضد قطاع غزة، كان آخرها غزو 2008-2009 وعدوان 2012، وهذه ختمت في تموز 2014 والتي أطلق عليها الاسرائيليون عملية (الجرف الصامد) تكاد تتكرر الصياغات ذاتها في اعتداءات الطيران الحربي بداية وخلال العمليات البرية العسكرية والبحرية لاحقا، بهدف ايقاع أكبر الخسائر في الفلسطينيين، سكانا ومجتمعا، لكن أيضا ملموس مدى تطور الرد الفلسطيني المقاوم، والمدافع عن الشعب بالصواريخ، التي ازداد مداها وبالقتال المباشر بابداعات متنوعة، كان آخرها استخدام الأنفاق في الحرب الأخيرة.
لكن عند بلوغ مرحلة وقف اطلاق النار، فان الأطراف تعود إلى حقل الصراع السياسي لتثبيت كل طرف مكاسب له، وتتخذ عادة شكل تفاهمات او اتفاقات تصاغ بنصوص قانونية من المتعارف ان تكون ملزمة للأطراف المعنية، علما ان اسرائيل لم تلتزم بتنفيذ أية اتفاقات سابقة بالشكل المناسب. وهذه الحرب بدورها، بدأت أصلا مع ادعاء قانوني اسرائيلي مزيف بأنها دفاع عن النفس ضد من يطلقون القذائف والصواريخ على مدن وقرى المستوطنين، لذلك فان الصراع القانوني كجبهة تنفتح بدءا من قبول فكرة وقف اطلاق النار بين الأطراف لتتجه إلى النزاع الأقسى حول السياسة وصيغها القانونية. وكان لتجربة حرب 2009 أثر هام ودروس كبيرة استفاد منها الفلسطينيون جزئيا، سواء عبر لجنة التحقيق الدولية برئاسة غولدستون أو بالمطلب الفلسطيني آنذاك من المحكمة الجنائية الدولية أن تتحرك لمحاكمة مجرمي الحرب الاسرائيليين، المسعى الذي تم افشاله لاحقا في دهاليز السياسة والتفاوض العبثي.
كالعادة، يهب المخلصون من محامين وقانونيين فلسطينيين وعرب دوليين، لنشاطات تهدف لمساعدة الشعب الفلسطيني الجريح عبر القانون الدولي، وتتنوع مساهماتهم، لكنهم حتى اليوم لم يبلغوا مرحلة ايقاع العقوبات على اسرائيل، رغم فجاجة الوقائع الدامية، وذلك لفقدان الارادة السياسية الفلسطينية والعربية الاستمرار بحملة معاقبة مجرمي الحرب كاملا وتوفير ما تتطلبه من نفس طويل، وبسبب الضغوطات الغربية المؤيدة و لحامية للعدوانية الاسرائيلية. وهنا يرد السؤال البديهي هل نعيد كحقوقيين، انجاز الأمور مكررة لنصل إلى اليأس من بلوغ الهدف المنشود أم لابد من سد الثغرات السابقة حتى ننجح ؟ وهنا مناقشة لبعض الآراء والملاحظات:
(1)
الحق بالمقاومة المسلحة للاحتلال
يؤكد الفلسطينيون على الحق المكرس نظريا في المادة الخامسة من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يعطيهم الحق بالنضال ضمن جميع الشعوب التي تقع تحت الاحتلال الذي يمنعها من انجاز حق تقرير المصير، بكل الوسائل المتاحة، بما فيها الكفاح المسلح. هذا البند جرى التأكيد عليه مرارا دوليا، وحركات تحرر متعددة استفادت بتطبيقه مثلا، في العام 1974 تشرين الثاني 29، صدر القرار A/RES/3246 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بنص يقول ببعض بنوده:
3- يؤكد على شرعية نضال الشعوب للتحرر من الاحتلال والهيمنة والاخضاع الأجنبي بكل الوسائل المتاحة، بما فيها الكفاح المسلح ....
7- يدين بشدة كل الحكومات التي لا تقر بحق الشعوب بتقرير مصيرها واستقلالها عن السيطرة الاستعمارية والأجنبية والاخضاع، خاصة شعوب أفريقيا والشعب الفلسطيني.
وتكرر ذلك في قرارات عديدة حتى بلغ العام 2013 حين اعترفت الجمعية العامة بفلسطين دولة غير عضو في الأمم المتحدة. لكن اسرائيل، الدولة التي تمارس الاستعمار على فلسطين لم تستجب ودعمتها الدول الغربية بحجة ضرورة الوصول لاستقلال فلسطين عبر المفاوضات، وهي حتى اليوم ورغم توقيع اتفاق أوسلو عبارة عن لقاءات عبثية و دون جدوى، ويطرح العدو أن الأراضي متنازع عليها وبالتالي لا تمارس اسرائيل احتلالا، بل حيازة لحق لها. ورغم هشاشة هذا الادعاء فان الغرب يروجه ويعمل بموجبه ويضغط على الفلسطينيين بأن يعتبر أي مقاومة مسلحة للاحتلال من قبله هي بمثابة ارهاب.
هنا تثور مسألة في غاية الاهمية قانونيا لتكريس الحق الفلسطيني في ممارسة حق تقرير المصير: هل نحن شعب تحت الاحتلال أم مجموعات سكانية مقيمة على أرض الغير، وبالتالي من واجب النظام المسيطر ومسؤولياته تأديب المخالفين لأمنه، كما يراه ويرسمه، ولو بغزوات عسكرية متكررة ذات طبيعة تدميرية قاسية؟
(في هذه الأيام، حيث تدور في القاهرة مفاوضات غير مباشرة لوقف اطلاق النار، تبدو أهمية خاصة لصياغة بنود الاتفاق (اذا ما تم التوصل لذلك !). اذ بعد ان أعلنت الحكومة الاسرائليلية برئاسة نتينياهو هدف الحملة انهاء سلاح المقاومة الفلسطينية في غزة، عادت فتراجعت أمام ضراوة المقاومة والخسائر العسكرية الاسرائلية التي ترهق المجتمع الصهيوني وأصابته بحساسية شديدة، وأمام انفضاح صورة الجبروت الاسرائيلي كقاتل للأطفال والنساء والشيوخ ومدمر للمدنيين عن عمد، عاد الطرف الاسرائيلي لقبول البحث في وقف اطلاق النار دون الاشتراط المسبق بتحقيق نزع السلاح الفلسطيني مباشرة، ولكن مازال هذا هدفه ويناور بطروحات تحاول التلطي بصياغات أخف وطأة، من نمط تسليم قطاع غزة لقوات دولية هي تشرف على انجاز نزع السلاح، فيما يقدم الأوروبيون مقترحا ينص على منع تعزيز قوة المقاومة المسلحة في غزة كأحد اشتراطاتهم لدور فاعل، في المساهمة باعمار غزة وفتح المعابر وانهاء الحصار. والعدو و حلفائه الغربيين خاصة الولايات المتحدة، لا يكتفون بمطلب نزع السلاح بل يستهدفون تصفية المقاومة المادية والبشرية، عبر التشديد على منع بقاء الانفاق سواء مباشرة، أو بالقول بمطلب الاشراف على ادخال كميات من المواد التي يمكن استعمالها للسلم ولدعم القتال: كالحديد والاسمنت، أي لاعمار ما تهدم من مبان ويمكن أيضا استخدامها في ترميم وبناء الانفاق كبنية تحتية للمقاومة.
علما أن المبدأ الواقعي بات معروفا ومقرا به في القانون الدولي، ومفاده حيث يوجد احتلال فان الصورة النقيضة له عند الشعب الخاضع يكون بالمقاومة بكل أنواعها، ويستحيل الغاء هذا الحق، مهما كان الخلل في موازين القوى، وأن اتهام حركات التحرر بأنها ارهاب ليس متفقا عليه، ورغم محاولات الدول المهيمنة الرأسمالية ايجاد تعريف دولي متفق عليه للارهاب فقد فشلوا و ذلك لمعاكسته للتاريخ و الواقع ، والحقيقة الجلية التي أبرزها الصمود الهائل في غزة، أن آخر شكل استعماري مستدام من القرن الماضي ما هو الا فشل كامل لكسر ارادة الشعوب التي ستبقى تناضل حتى انهائه، ونموذج فلسطين في القرن الواحد والعشرين هو أبرز الأمثلة على ذلك.
ان الحق بالمقاومة المسلحة اليوم، هو أحد شروط تعريفنا لأنفسنا بأننا شعب لنا الحق بالحرية والاستقلال وانهاء الاستعمار، وأي خلل في مفاوضات الهدنة في القاهرة لن يكون مقبولا من شعب دفع هذا الثمن الغالي. وهنا السؤال لأصحاب الاختصاص القانوني هل يمكن تفعيل النصوص الدولية لهذا الحق قانونيا، وكيف تقتنع شعوب الأمة العربية بجدوى النضال على هذه الجبهة القانونية، دون توفير شروطها وأهمها وحدة الموقف الفلسطيني في التمسك بالحقوق والمطالب، وبذل الجهود لتوفير الحد الأدنى من الموقف الرسمي العربي المحتضن لمطالب الفلسطينيين، علما ان الشعوب، سواء العربية أو الأجنبية، أبرزت دعمها للشعب الفلسطيني وتقديرها لتضحياته بشكل استثنائي – تحديدا هل نطالب القيادة الفلسطينية بالذهاب إلى مجلس الأمن الدولي ليتخذ قرارات ضد اسرائيل، رغم علمنا بأن الولايات المتحدة تحميها باستخدام حق النقض، ورغم ذلك فاننا نعي أن أي قرار، حتى لو لم ينفذ آنيا بسبب ذلك، سيكون ضمن أسلحة الفلسطينيين في نضالهم المتراكم على درب الحرية، وذلك لنزع الشرعية عن اسرائيل دوليا.
(2)
أي توصيف قانوني نعتمد؟
ارتكبت اسرائيل بعدوانها جرائم عديدة يعاقب عليها القانون الدولي، واذا أردنا ملاحقتها ، فان تحديد التوصيف القانوني يكون حجرا أساس في تكريس حقوقنا، وذلك لجهة تحديد آليات العمل والجهات ذات الصلاحية التي يمكن أن تؤدي لتأثيرات تبدل الواقع السابق القائم على تراكم منذ عقدين من الزمن، خاصة لدى الادارة الأميركية والحكومات الأوروبية الملحقة لنفسها بسياستها المنحازة عموما، ضد كل ما هو فلسطيني عربي واسلامي مناضل. اذ منذ عملية الهجوم على مبنيي التجارة الدولية في نيويورك، تعمدت أجهزة الاعلام على خلط كل أمر عربي وفلسطيني واسلامي بمفهوم الارهاب، وكان غزو العراق وتدمير الجيش الليبي، ودعم الحرب الأهلية في سوريا وغيرها، نماذج لهذه التعبئة، فلسطينيا هذا ما شجع المجرم شارون على اعادة احتلال الضفة الفلسطينية، وبرر لاسرائيل متابعة التشديد في حصار قطاع غزة وخنقها، تماشيا مع اهدار الحقوق الوطنية الفلسطينية رغم الاتفاقات السابقة.
(في منظومة الأمم المتحدة، واضافة إلى الهيئتين الاساس: مجلس الأمن والجمعية العمومية، نشأت هيئات اختصاص لها أنظمة تدخل في تفصيلات هامة، بهدف تحقيق السلم العالمي ومعاقبة المخالفين. وكان الفلسطينيون قد ابتزوا من الولايات المتحدة واسرائيل، لمنعهم من الالتحاق بهذه المؤسسات والاستثمار والاستفادة من آلياتها، للاقتراب من يوم التحرر من الاحتلال. واصطدم الطموح الفلسطيني بخلاف داخلي مع السلطة الفلسطينية التي ارتأت عدم انجاز ذلك. فقد سبق للجنة التنفيذية في م.ت.ف مثلا أن قررت انتساب فلسطين، تنفيذا لقرار المجلس المركزي في 26/4/2014، إلى ميثاق روما المؤسس لعضوية المحكمة الجنائية الدولية. لكن القيادة السياسية لم تقم بذلك لأنها تخشى ردود الفعل الاسرائيلية والأميركية والجهات المانحة، بما يؤثر على مصادر تمويل السلطة، ولسلبية أميركية ازاء اطلاق المفاوضات (العبثية) من جديد، بما أدى لخلافات داخلية فلسطينية عميقة حول وسائل بلوغ حقوقنا وجدواها. لكن بعد فترة مضي الأشهر التسعة للمفاوضات في جولاتها الأخيرة برعاية جون كيري، وزير الخارجية الأميركية، وأمام رفض اسرائيل تطبيق اطلاق سراح الدفعة الرابعة من الأسرى، وكرد فعل محدود قامت السلطة الفلسطينية بالطلب للمشاركة في خمسة عشر هيئة واعلان عالمي من نمط اعلان حقوق الطفل، اتفاقيات جنيف الدولية حول الحرب، عضوية منظمة الأونيسكو كانت سابقة على ذلك ... لكنها أحجمت عن مطلب عضوية المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية وهما الأكثر أهمية في المجال القانوني لحماية الشعب الفلسطيني ولمعاقبة المعتدين الاسرائيليين، ولم يتبق أمامها سوى المشاركة في عضوية مجلس حقوق الانسان الذي تزداد أهميته يوما بعد آخر. ومن المعروف أن كل هيئة أو مجلس أو محكمة لديها اختصاص محدد، واشتراطات للدخول ولأساليب العمل والأداء وفقا للموضوع المطروح. ولما كانت اسرائيل قد ارتكبت أنواعا عديدة من المجازر والأخطاء الخطيرة، فاننا نشهد فورة في العناوين، التي يطرحها القانونيون المؤيدون لحقوق الفلسطينيين، منها طلب اعتبار اسرائيل دولة ممارسة للتمييز العنصري (أبارتايد)، ومنها طلب محاسبة الاسرائيليين على جرائم الحرب الخطيرة، وفقا لميثاق روما أي: القتل المتعمد، استهداف المدنيين، العمليات العسكرية التي تؤدي عرضيا إلى خسائر بشرية واصابات وأضرار جسيمة، تدمير الممتلكات والاستيلاء عليها، جريمة ابادة الجنس البشري الخ .......
بعض القانونيين يرون أن اسرائيل قامت بكل ذلك ويجب ملاحقتها معا و في وقت واحد، والبعض يرى أن ذلك يستتبع وقتا طويلا تكون التفاعلات السياسية مؤثرة بما يحتمل الانتكاس للطرف الأضعف (الفلسطيني) بمعنى ليس ضعيفا في قضاياه بل في توفير تأييد ضد أخصامه الاسرائيليين والغربيين، وبما يؤدي إلى تجميد المطالب القانونية، رغم أن معظم الجرائم الاسرائيلية لا تخضع لمرور الزمن لالغاء مفاعيلها.
البعض الآخر يرى أن التركيز على عناوين منفصلة ومحورية كفيل ببلوغ نتائج لصالح النضال الفلسطيني ولعزل اسرائيل دوليا، اذا ما توافرت الارادة السياسية بالمتابعة الدؤوبة. كما أن بعضا يرى ضرورة المزج دون تعارض بين الأسلوبين.
و لكن ماذا تم عمليا ، و كيف يتم متابعته ؟
في 25/7/2014 تقدم وزير العدل الفلسطيني في حكومة الوفاق الوطني والنائب العام في قطاع غزة بشكوى إلى المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية باتهام اسرائيل بارتكاب جرائم حرب. وتم تكليف المحامي الفرنسي "جيل دوفير" باقامة الدعوى أمام المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية وكذلك رفع الشكوى إلى المقرر الدولي في الأمم المتحدة الداخلة ضمن اختصاصاته، وتحدد التقرير باثارة سياسة اسرائيل الاحتلالية، حصار غزة، ووضع الأسرى، وما ارتكب من مجازر وعدوان خلال حملة الجرف الصامد 2014 ضد قطاع غزة. لكن فيما بعد كان تصريح وزير خارجية السلطة أمام المطالبة بطلب عضوية فلسطين في المحكمة الدولية، أنها سلاح ذو حدين لأنها تطال الاسرائيليين ويمكن أن تطال الفلسطينيين أيضا، فبعض الأطراف كما يقول ارتكبت هي الأخرى ما يمكن اعتباره جرائم ضد الانسانية وجرائم حرب. وهذا موقف خطير يتخذ من سلوكيات بعض أطراف المقاومة غطاء للتهرب من مسؤولياته الوطنية، فضلا عن تقديم خدمة للعدو باتهام أطراف فلسطينية ويساوي بين أعمال العدو العدوانية المنتهكة للقانون الدولي والقانون الانساني الدولي وشرعة حقوق الانسان واتفاقيات جنيف الأربع وبين أعمال المقاومة التي تشرعها للشعب الفلسطيني المواثيق الانسانية.
(3)
الالتحاق المحكمة الجنائية الدولية
فيما يلي ثلاث مسائل تثار إزاء موضوع الالتحاق بالمحكمة الجنائية الدولية:
1- لماذا هناك اختصاص للمحكمة الجنائية الدولية في أحداث غزة؟
يجوز للدول قبول اختصاص المحكمة الجنائية الدولية على صيغتين مختلفين.
في الحالة الأولى، توقع الدولة و تصادق على نظام روما الأساسي، فتصبح دولة عضوا في المحكمة الجنائية الدولية. هذه هي حال فرنسا على سبيل المثال. لكن المشرعين وفروا خيارا آخر اكثر مرونة يسمح للدولة كونها غير عضو في المحكمة بأن تقوم باعلان قبولها صلاحية المحكمة ممارسة اختصاصها بموجب المادة 12 الفقرة 3 من نظام روما الأساسي. يولي هذا الخيار الثاني اهتماما أقل بالشكليات، ويجيز لوزير العدل بأن يودع في المحكمة اعلانا بممارسة اختصاصها القضائي.
جرى ادخال هذا الخيار الثاني في نظام روما الأساسي لتفادي أن تجد دولة ما ارتكبت فوق أراضيها جرائم من اخصاص المحكمة الجنائية الدولية، ذاتها عاجزة عن رفع شكواها على خلفية اضطرابات خطيرة في مؤسساتها ناتجة عن النزاعات المسلحة. وقد عمدت العديد من الدول إلى منح المحكمة اختصاصا للنظر وفق المادة 12 الفقرة 3، على غرار ساحل العاج أو أوكرانيا في الفترة الاخيرة.
في 22 كانون الثاني / يناير 2009 وعلى اثر عملية "الرصاص المصبوب" الاسرائيلية، أصدرت فلسطين عن طريق وزير العدل في حكومتها اعلانا جاء وفق احكام المادة 12 الفقرة 3 من نظام روما الأساسي، يعترف باختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
وبطبيعة الحال، فان الشكوى التي يرفعها اليوم كل من وزير العدل الفلسطيني السيد سليم السقا، والنائب العام في قطاع غزة السيد اسماعيل جابر، تعتمد على اعلان ممارسة الخصوصية الصادر في 2009 وتأتي استكمالا له.
وينبغي التنويه بأن اعلان ممارسة المحكمة اختصاصاتها الصادر في 2009 عن فلسطين هو كاف بحد ذاته لتأسيس اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، تماما كما جرى بشان ساحل العاج أو أوكرانيا. وليس هناك من حاجة لتدخل مجلس الامن. وحيث أن اسرائيل وقعت على نظام روما الأساسي دون أن تصادق عليه، فان المحكمة الجنائية الدولية مختصة بالتالي في الاحداث التي وقعت فوق الأراضي الفلسطينية منذ شهر كانون الثاني/ يناير 2002.
أما بخصوص العملية الاسرائيلية الحالية، فهي قابلة تماما للنظر أمام المحكمة الجنائية الدولية. وبامكان الشعب الفلسطيني ان يتحرك وحده و يتجه إلى المحكمة الجنائية الدولية دون أي وسيط، ودون مباركة المتهم الذي اعتدى عليه.
2- يزعم البعض أن فلسطين ليست دولة وانها بالتالي غير قادرة على التوجه إلى المحكمة الجنائية الدولية ...
منذ عام 2009، كانت هناك عناصر عديدة تسمح باثبات وجود الدولة الفلسطينية. أما اليوم، فما من سبب جدي يحول دون الاعتراف بصفة دولة فلسطين.
- فلسطين دولة عضو في منظمة الامم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو).
- فلسطين دولة لديها صفة مراقب غير عضو في منظمة الامم المتحدة، وتشارك تحت تسمية "دولة فلسطين" في مناقشات مجلس الأمن، رغم اعتراض الولايات المتحدة.
- دولة فلسطين معترف بها دوليا من قبل 138 دولة أخرى.
- في 2/ نيسان/أبريل الفائت، وقعت فلسطين وصادقت على 15 من الاتفاقيات الدولية (ومن ضمنها اتفاقية جنيف الرابعة المؤرخة 12 آب/أغسطس 1949 والبروتوكول الاضافي لها، واتفاقية حقوق الطفل، والعهدان الدوليان لعام 1966 الخاصان بالحقوق المدنية والسياسية، وبالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية).
لم يعد هناك أساس للشك بعد اليوم حول الصفة المعترفة لدولة فلسطين حسب تعريف القانون الدولي . و هذا الامر ينطبق تلقائيا على المحكمة الجنائية الدولية .
وفي هذا الشأن، جاء على لسان المدعية العامة الحالية لدى المحكمة الجنائية الدولية السيدة فاتو بنسودا، أن مكتبها ترك الباب مفتوحا امام فلسطين في نيسان/أبريل 2012 للترافع أمام المحكمة الجنائية الدولية حال الاعتراف بها كدولة من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة.
3- ما هي الاهداف المرجوة من الاجراء المفتوح؟
يمر الاجراء أمام المحكمة الجنائية الدولية في ثلاث مراحل، تبدأ بالتحقيق وتتواصل بالاتهام وتنتهي بالحكم، وتسبق كل هذه الخطوات الدراسة التمهيدية للقضية ،التي تجري قبل الشروع في التحريات وتسمح للمدعي العام بان يتأكد من أن هناك فعلا مادة للتحقيق.
خلال الدراسة التمهيدية وبعد التحقق من ان فتح التحقيق لن يسيء بمصالح العدالة عموما (وهي فرضية لم تتحقق حتى اليوم)، يتأكد المدعي العام من استيفاء الاجراء لشرطين أساسيين.
أولا، يجب ان يكون هناك أساس معقول يدعو إلى الاعتقاد بوقوع جريمة تدخل في اخصاص المحكمة. هذا الشرط مستوفى في قضيتنا. وفي هذه المرحلة المبكرة، ليس من الضروري ان تكون المعلومات التي في حوزة المدعي العام "كاملة" أو "قاطعة". فالمسألة عند هذا الحد، لا تتعلق بتحديد مرتكبي الجرائم من اختصاص المحكمة أو حتى البحث عليهم.
ثانيا، ينبغي تحديد ما اذا كانت الوقائع التي يشتبه بأنها تشكل جرائم من اختصاص المحكمة، هي جادة بما فيه الكفاية، والتاكد من عدم وجود أي اجراء آخر على المستوى الوطني غرضه محاكمة تلك الوقائع.
في ما يتعلق بفلسطين، فان وجود جرائم تدخل في اختصاص المحكمة أمر واضح وجلي لا يمكن التشكيك فيه. أما خطورة الجرائم المرتكبة في غزة، فهي بدورها لا تقبل المنازعة. أخيرا وبخصوص الملاحقات على المستوى الوطني، ليس بمقدور السلطة الفلسطينية، بفعل الاحتلال، أن تحقق في الموضوع أو أن تحكم، في حين لا ينتظر الضحايا الفلسطينيون شيئا من طرف المحاكم الاسرائيلية.
وعليه، فان فتح تحقيق من قبل المدعي العام في الجرائم التي ارتكبت في غزة، هو هدف واقعي جدا على المدى المتوسط. اجراء مماثل سوف يقود إلى جلسة علنية تعقد وجاهيا امام الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية، يجوز للضحايا أن يشاركوا فيها كأطراف إلى جانب دولة فلسطين. وبطبيعة الحال يجري اخطار اسرائيل من قبل المحكمة، ولديها خيار أن تحضر وتدافع عن ذاتها أو أن تجازف في تجاهل الاجراء، الأمر الذي قد يؤدي في المحصلة إلى ادانة زعمائها.
على المدى القصير وقبل بدء التحقيق، ستسمح الشكوى المرفوعة من وزير العدل الفلسطيني والنائب العام في غزة، باطلاق الدراسة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية من جديد. ان مجرد الشروع في هذا البحث القضائي التمهيدي سيشكل ضمانة للسلامة الجسدية لسكان غزة. وبالفعل، فقد أدى اطلاق المدعي العام للدراسة التمهيدية بين كانون الثاني/يناير 2009 ونيسان/أبريل 2012، إلى ردع اسرائيل عن شن ضربات عسكرية موسعة ضد سكان القطاع. أما استئناف الضربات في تشرين الثاني/نوفمبر 2012 مع ابتعاد احتمال الملاحقة الجنائية لاسرائيل، فهو ليس من قبيل الصدفة.
4- لماذا يجب حشد المجتمع المدني لدعم الاجراء؟
حذر الرئيس محمود عباس اسرائيل في أكثر من خطاب بأن فلسطين ستتوجه إلى المحكمة الجنائية الدولية في حال قامت اسرائيل بتجاوزات جديدة ضد السكان الفلسطينيين. وفي 9 تموز/يوليو 2014، وصف الرئيس عباس الهجمات على غزة بأنها عمليات ابادة جماعية. وخلال اجتماع لمجلس الامن في 22 تموز/يوليو 2014، طالب مندوب دولة فلسطين لدى الأمم المتحدة باحالة القضية أمام المحكمة الجنائية الدولية. في هذا السياق تحديدا وارتباطا بهذه التصريحات المتكررة، رفع وزير العدل الفلسطيني والنائب العام في غزة الشكوى امام المدعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية في 25 تموز/يوليو 2014.
لكن يستبعد أن تنال هذه الخطوة رضا الدول الغربية التي تعارض فكرة ملاحقة حليفهم الاسرائيلي جنائيا. ومن المتوقع أن تقوم تلك الدول بالضغط على السلطة الفلسطينية كي تتنازل عن الشكوى، وذلك من خلال أبغض أشكال الابتزاز والتهديد بقطع الاعانات التي تقدمها للحكومة الفلسطينية.
وفي الوقت الذي تفتح الشكوى المرفوعة من وزير العدل الفلسطيني والنائب العام في غزة، الباب أمام الشعب الفلسطيني لتخطي ستين عاما من الحرمان من الحقوق، وتدعو هذه المبادرة من الحكومة الفلسطينية إلى انصاف الضحايا، تسارع الحكومات الأمريكية والأوروبية إلى تنظيم عملية افلات اسرائيل من العقاب مرة جديدة. وهذا الأمر، لم يعد المجتمع المدني يستطيع تحمله.
(4)
الحراك الدولي القانوني
كذلك في 22/7/2014، في جنيف، أعربت السيدة نافي بيلاي، المفوضة العليا لمجلس حقوق الانسان، في اجتماع طارئ للمجلس، عن خلاصة الاعتقاد بوقوع ممارسات انتهاك لحقوق الانسان في قطاع غزة، وفي محاولة منها لعدم دفع اسرائيل لمقاطعة المجلس، كما حصل في السابق لمدة 20 شهرا، فانها أشارت إلى القذائف الفلسطينية على اسرائيل أيضا.
بعد أيام، أعلن المجلس تشكيل لجنة تحقيق بما يجري في غزة، واختار ثلاثة محامين دوليين كوفد منه اليها لاجراء التحقيق ( 11/8/2014 ) برئاسة وليام شباص الكندي وعضوية المحامية أمل علم الدين (بريطانيا) والسنغالي دودو يين.
الملاحظة الاهم في تقارير هكذا لجان، وهو ما حصل في عدوان الرصاص المصبوب 2009 عبر تقرير غولدستون الشهير، أن اللجان تتعلق تدقيقاتها بالفترة المحددة زمانيا وبالاحداث والنتائج عن الصراع العسكري، لكن لا تتعامل مع المشكلة بأصولها العامة، كما حصل في القرار الاستشاري لمحكمة العدل الدولية المتعلق بالجدار العازل، الذي ركز على الاحتلال وممارساته المرفوضة والمدانة. ان لجان التحقيق هامة وضرورية لكن محدودية الزمان الذي تعالجه قد لا توصل الحقيقة جلية، فالعنف المستخدم من العدو الاسرائيلي يطرح من ضمن القضايا ضرورة معاقبة الشركات التي باعت أو وهبت الأسلحة لاسرائيل ولم تمنعها من استخدامها بما يخالف النصوص الآمرة للقانون الدولي مثلا، كما ان التقارير يجب أن ترفع مهما كان شأن صوابيتها ودقتها وعدالة استخلاصاتها إلى مجلس الأمن ليقر توصياتها للتنفيذ، وبذلك نعود إلى دوامة حماية الغرب لمصالحه ولمصالح اسرائيل بمنع ايقاع العقوبات عليها، ولا تاخذ التقارير بالاعتبار الأسباب الكاملة التي كانت في صلب التوجه للصراع العسكري: مثلا الحصار الاسرائيلي لقطاع غزة والاعمال الهادفة لجعل الحياة غير قابلة للاحتمال الانساني، بما يناقض كل الاعراف.
(غالبا ما يكون التركيز على اهمية وأولوية وقف اطلاق النار بين الأطراف المتصارعة، لكن تكرار هذا النمط من الحروب العدوانية لا يقنع الفلسطينيين أن استجابة الامم المتحدة تصل لمستوى الأحداث، ولم توفر حماية من عدم تكرار الحروب ضد وجودهم. أما عن التعامل مع الطرف الفلسطيني وكأنه معادل في امكاناته ووضعه لدولة العدو، فانه أكبر الاخطاء المتكررة ، ففلسطين ليست دولة مستقلة لها جيش وأجهزة دفاع و لكنها دولة تحت الاحتلال، محظور عليها أن يكون لها سوى شرطة بأسلحة خفيفة، ممنوع عليها حرية حركة وانتقال أفرادها و غيرهم منها واليها، وتراقب و تحدد اسرائيل حتى كميات المواد الغذائية المرسلة اليها، كما تمنع توافر عناصر الحياة العادية كالأدوية ومواد البناء فكيف بأسلحة الدفاع ضد غارات الطيران الاسرائيلي الدموية، لذلك فان محاولة موازاة رد الفعل لمجموعات مسلحة من أبناء الأرض الفلسطينية المسلحة لا يمكن مساواته بمعايير الخروقات الاسرائيلية الفادحة، الحديثة والقديمة التي أسست لاستمرار الصراع أي الاحتلال الأجنبي وممارسات التمييز العنصري (أبارتايد) لدولة الاحتلال.
(5)
أبارتايد اسرائيل وجرائم حرب
هل هي جريمة ابادة الجنس الفلسطيني على يد اسرائيل؟
تفرض كلمة (ابارتايد) أي النظام العنصري نفسها في الفقه القانوني الدولي عبر تجربة جنوب أفريقيا السابقة. وكان قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3068 في 1973 بتعريف الأبارتايد بأنه "الاعمال غير الانسانية المنجزة بهدف تمكين وتأسيس سيطرة مجموعة عرقية (أو اثنية) على مجموعة عرقية أخرى واضطهادها بشكل منظم".
وللتعريف حدد الفقه القانوني المقصود بالأفعال غير الانسانية ثلاثة أصناف:
1- المجموعة الأولى: هي اجراءات تقسيم السكان في البلد بناء لأصولهم العرقية، عبر انشاء معازل منفصلة و غيتوات يجري اضطهادهم فيها، وتصادر أموالهم وأراضيهم ...
2- المجموعة الثانية: هي الاجراءات التي تمنع فئة من عنصر معين من المشاركة في الحياة السياسية والاقتصادية و الثقافية في البلاد، ومنها حق المغادرة والعودة إلى البلد، وحرية التنقل والاقامة ...
3- المجموعة الثالثة: الاجراءات التمييزية التي تؤثر بشكل سلبي كبير وشديد على الحق بالحياة والحرية، بناء للعنصر.
كان لهذه التوصيفات القانونية الفعالية الكبيرة في الضغوط على حكومات دول الغرب التي كانت تدعم نظام بريتوريا الأبيض العنصري لتبدل موقفها، وتفرض عقوبات ضاغطة أوصلت إلى انهيار ذلك النظام في جنوب أفريقيا، لكن في حالة العدو الاسرائيلي، ورغم الكتابات القانونية و البراهين على اتهام اسرائيل بممارسة نظام ابارتايد ضد الفلسطينيين، فانها لم تحاسب أمام أية هيئة دولية. وهذا طبعا يؤشر إلى قصور الارادة السياسية الفلسطينية والعربية اولا. لكن اسرائيل تأخذ بالاعتبار احتمال وصولها لمرحلة الاتهام، فطرحت ردودا اولية، من المفيد الاستعداد لدى القانونيين لدحضها. فهي تتعلل بأن الابارتايد يمارس من دولة (جنوب أفريقيا سابقا) على فئات من شعبها في الدولة ذاتها، لكن الفلسطينيين في الضفة وقطاع غزة ليسوا مواطنين اسرائيليين، فيما هي تعطي الحقوق "ديمقراطيا" لكن من يحمل جنسيتها. أي أن هناك كيانين سياسيين مختلفين اسرائيل والكيان الفلسطيني، ولا وحدة للدولة ولا انفصال قانوني متمايز اداريا ومؤسساتيا داخلها كما تزعم اسرائيل. يساعد على انتشار القبول بهذه الفكرة أن الفلسطينيين يؤكدون على انفصالهم عن كيان العدو وأن حقهم بدولة يشوه وعي العالم حول تطبيق تعريف ابارتايد ويتم التغافل عن حقيقة مرة مفادها ان الاحتلال هو المتحكم باصدار القوانين الاساسية التي أقامت تمييزا فعليا، وحولت فلسطين إلى معازل، بناء لتمييز عنصري على أساس الهوية الوطنية. صحيح أننا لسنا دولة واحدة في حالة توحد لكن مركز السلطة الاحتلالية هو الممسك بالقرار القانوني، الذي يفرض صيغ التعامل مع الفلسطينيين بدونية عن غيرهم، ويميز بين فئة و أخرى مثل أبناء 48 وأبناء القدس والذين يقعون تحت الاحتلال، ناهيك عن الاجرام المتمادي في رفض عودة اللاجئين الفلسطينيين وفقا للقرار الدولي 194.
أساس النظرة و التطبيق الاسرائيلي ليس التوحيد بل اخراج الفلسطينيين من المفهوم العام للانسانية. الفلسطينيون يقعون خارج اسرائيل والاسرائيليين، لذلك لا واجبات تجاههم (رغم أن القانون الدولي يلزم سلطة الاحتلال بأمن واقتصاد مقبول للمناطق المحتلة)، والاسرائيليون يعتبرون الفلسطينيين يتبعون لنظام سياسي آخر ولوحدة سياسية أخرى. وهذا الاغفال المتعمد لدور الاحتلال وآثاره أدى بدعم الغرب عبر تعويضات مالية، لتخفيف العبء عن الاحتلال، اضافة لخلق راحة نفسية من عبء المسؤولية ازاء ما يوقعونه بالفلسطينيين. يساعد على ذلك الاوهام التي خلقها اتفاق أوسلو بانسحابات جزئية واعادة انتشار قوات الاحتلال واخلاء قطاع غزة داخليا من المستوطنات وقوات الاحتلال، بما أوهم – مضافا اليها مظهر تواصل المفاوضات لبلوغ السلام – و كأن المسائل قد حلت في وقت زادت فيه الاجراءات القمعية للاحتلال مترافقة بصمت دولي تام.
معلوم ان اسرائيل قامت وتقوم بمصادرة الأراضي الفلسطينية، وبناء المستوطنات عليها للمستعمرين الصهاينة، وأقامت الجدار العازل، كما تمارس التطهير العرقي عبر منع اقامة الفلسطينيين في أراضيهم وبيوتهم بتحكمها بقرار الاقامة، وتشل حركتهم عبر التصاريح للخروج والدخول، ومنع بناء العرب لمساكن جديدة، وتستمر بهدم البيوت والأحياء العربية، خاصة في القدس، وقد اعتقلت دوريا أكثر من نصف مليون فلسطيني عبر السنوات الماضية، منهم ما يخضع لما يسمى الاعتقال الاداري دون اتهامات واضحة أو محاكمات علنية، هذا اضافة للتعذيب للمعتقلين، حتى الولادات باتت تتحكم بها عبر منع النساء الحوامل من عبور الحواجز إلى المستشفيات وهكذا ...
هذه الممارسات التمييزية هي الجوهر الذي أدى لتدهور الأوضاع الفلسطينية، وجاء فشل المفاوضات العبثية لينسف أي أمل باحتمال تبدل الأوضاع، وازداد القهر بلعب السلطة الفلسطينية دور الحاجز العازل بين الطرفين بتحملها عبء تنظيم حياة المجتمع الفلسطيني بدون القدرة على الوفاء باحتياجاته بسبب رفض الاحتلال لذلك. وجاء العدوان الأخير على قطاع غزة (الجرف الصامد) فتعمدت اسرائيل عبر القوة العسكرية الغاشمة لجيشها ارتكاب المجازر بالمدنيين الفلسطينيين، تدمير هائل للمنازل والمباني، الاعتداء على مراكز هيئة الامم التي لجأ لها الهاربون من جحيم العدوان، وارتكبت جميع أنواع جرائم الحرب، مع استمرار التشدد في حصار غزة، (اضافة لما سيظهره تقرير لجنة التحقيق بدقة اكثر لاحقا)، مما يؤدي لاستنتاج أن الهدف هو ابادة الجنس للشعب الفلسطيني، وهذا ما يميز نظام الابارتايد الاسرائيلي.
تجربة أفريقيا الجنوبية السابقة تظهر ان اجراءات حكومة البيض التمييزية هدفت لانشاء فصل سكاني على أساس عرقي، بممارسات وقوانين تمييزية لجعل أبناء البلاد السود كتلة ضعيفة في خدمة مصالح البيض. أما في اسرائيل فهي تتم بهدف الحؤول دون بقاء الفلسطينيين في أرضهم ووطنهم بهدف استبدالهم بمستوطنين يهود من الخارج تحت يافطة يهودية الدولة، عبر استراتيجية مخططة وليس بالصدفة.
ان جريمة ابادة الجنس البشري تستهدف اهلاك جماعة قومية أو اثنية أو عرقية أو دينية، وذلك عن طريق:
أ‌) قتل عدد واسع من أفراد الجماعة.
ب‌) الحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة.
ت‌) اخضاع الجماعة عمدا لأحوال معيشية يقصد بها اهلاكها الفعلي، كليا أو جزئيا.
وهذا ماتمارسه اسرائيل، خاصة في حربها على قطاع غزة. واقتصار أي تحقيق دولي على المعارك العسكرية لايؤدي لشمولية معرفة حقائق الاحتلال الاسرائيلي، بل يكتفي بمسائل جزئية كالافراط في قتل وجرح المدنيين أو استخدام أسلحة محظورة، أو تحويل جزء من الفلسطينيين إلى درع لحماية المحتلين أثناء الصراع المسلح . الجوهر هو الاحتلال و الخلاص منه هو الحل ، وكل المعارك سواء بالسلاح أو القانون، الاقتصاد أو الأدب، السياسة أو الدبلوماسية وغيرها يجب أن تكون لانهاء الاحتلال وتحقيق أماني وتطلعات الشعب الفلسطيني للحرية والكرامة، للعودة والاستقلال، باعتبارها أوليات انجاز حق تقرير المصير، كما عرفته الشرائع الدولية قانونيا، ومازالت اسرائيل وقوى الغرب تماطل في تحقيقه.