لم تكن زيارة عابرة تلك التي قام فيها الوفد الفلسطيني إلى تظاهرة «صفاقس عاصمة للثقافة العربية 2016»، برئاسة وزير الثقافة د. إيهاب بسيسو، فعلاوة على النتائج العملية للزيارة، والتي توجت باتفاقية توأمة ما بين القدس عاصمة دائمة للثقافة العربية وما بين صفاقس عاصمة للثقافة العربية، واشتملت على العديد من البنود التي أكد وزيرا الثقافة في البلدين بسيسو والتونسية سنيا مبارك، أهمية تحويلها إلى منتجات ثقافية وفنية ملموسة على أرض الواقع. ولم يقتصر الحضور الفلسطيني المميز على توقيع اتفاقية التوأمة، بل انتظم العديد من الفعاليات الفلسطينية بينها معرض صور «من فلسطين إلى تونس مع التحية» للمصور جمال العاروري، وندوة حول الحراك الثقافي في القدس للدكتور عزيز العصا، وعرض فيلمي «المطلوبون 18» لعامر شوملي، و»فنجان لكل الأمم» لوفاء جميل، فيما تعذرت إقامة أمسية شعرية للشاعر د. المتوكل طه، وندوة حول القدس عاصمة دائمة للثقافة العربية لموسى أبو غربية، لاعتذار الأخيرين عن المشاركة. وكانت باحات فندق «الزيتونة» في صفاقس أشبه بقاعات اجتماع للفرق المتخصصة من الجانبين، حيث تم البدء بالعمل الفوري على تطبيق مشروع «القدس بعيون تونسية وصفاقس بعيون فلسطينية». وتقوم فكرة المشروع على استقدام عدد من المصورين التونسيين، وبعضهم من مدينة صفاقس، لتصوير القدس، ومغادرة فريق من المصورين الفلسطينيين إلى صفاقس لتصويرها، على أن يرافق مشروع التصوير الفوتوغرافي بتوثيق يومي بالفيديو ينتج عنه ما يشبه الوثائقي القصير، إضافة إلى أن مخرج المشروع الرئيس لن يكون فقط معرضاً للصور في كل فلسطين وتونس، بل يتجوّل في العديد من العواصم العربية والعالمية، وفي إطار مشاريع عالمية ضخمة، أو في صالات عرض عالمية. كما يترتب على الاتفاق أن يقوم كل جانب بطباعة كتاب عن الجانب الآخر، بحيث تقوم وزارة الثقافة التونسية بتبني طباعة كتاب ترشحه نظيرتها الفلسطينية عن القدس، والعكس عن صفاقس، هذا إضافة إلى مشاريع أخرى تم نقاشها في إطار مشاريع مشتركة، وأسابيع ثقافية وفنية في عديد المجالات. تكريم بوشناق وسلم بسيسو الفنان التونسي الكبير لطفي بوشناق، وخلال المشاركة الفلسطينية في صفاقس عاصمة للثقافة العربية، جائزة القدس للثقافة والابداع عن العام 2015، والتي تمنحها اللجنة الوطنية للقدس عاصمة دائمة للثقافة العربية. وتم ذلك في مقر سفارة دولة فلسطين في العاصمة تونس، بحضور سفير دولة فلسطين لدى الجمهورية التونسية هايل الفاهوم، وعدد من أركان السفارة والوفد الفلسطيني المشارك في احتفالية صفاقس عاصمة للثقافة العربية، وعدد من الاعلاميين التونسيين والفلسطينيين. ولفت بسيسو إلى أن شهادة الجائزة موقعة من القيادي الراحل عثمان أبو غربية بصفته رئيسا للجنة الوطنية للقدس عاصمة دائمة للثقافة العربية، إلا أن الأقدار شاءت ألا يشهد أبو غربية حفل تسليم الجائزة لبوشناق الذي عبر بتلقائية عن محبته الغامرة لفلسطين. وجاء في مبررات الجائزة أنها تأتي تقديراً لدوره الإبداعي والثقافي القومي، ولإنجازاته المتميزة في الموسيقى العربية التي تنتصر للقدس وللقضية الفلسطينية، ولقضايا الإنسان والمجتمع، ولقيم الحرية والديمقراطية والتعددية الثقافية والفكرية والسياسية. وأشار بسيسو إلى سعي دولته لتعزيز حضور القدس في المشهد الثقافي العربي، مشيرا إلى أنه قد تم إحداث جائزة القدس للثقافة والإبداع وهي تُمنح لجهود الفنانين الذين ساهموا في دعم القضية الفلسطينية والتي نالها هذا العام الفنان بوشناق، حيث تكرس هذه الجائزة الدور المهم الذي تلعبه القدس على صعيد تعزيز العلاقات مع الفضاء الثقافي العربي، مؤكداً تطلعه لمزيد من العمل الدائم مع الأشقاء العرب، ومع الفضاء الثقافي العربي بهيئاته المختلفة من أجل دعم هوية القدس وثقافتها. زيارات متنوعة وزار بسيسو والوفد المرافق له كلاً من منزل الشهيد الرئيس ياسر عرفات في تونس برفقة السفير الفاهوم وعدد من أركان السفارة والفنان بوشناق الفائز بجائزة القدس للثقافة والإبداع. وكان الوفد زار مقبرة شهداء فلسطين والنصب التذكاري لشهداء حمام الشط في العاصمة تونس برفقة د. عمر دقة السفير المناوب وعدد من أركان سفارة دولة فلسطين في تونس حيث قرؤوا الفاتحة على أرواح الشهداء، ووضعوا أكاليل الورود عند الأضرحة والنصب التذكاري. وزار الوفد متحف باردو الشهير في مطلع زيارته، والذي يعتبر صاحب أكبر مجموعات فسيفسائية على مستوى العالم، فيما اختتم الوفد زيارته بجولة في المتحف الوطني بقرطاج وقصر نجمة الزهراء في منطقة سيدي بوسعيد، حيث شرح القائمون على كل من المكانين للوفد الفلسطيني، تفاصيل كثيرة حول تاريخ كل من المتحف والقصر ودلالات ما يحتويه كل منهما من كنوز تاريخية، إضافة إلى جولات في البلدة القديمة في كل من تونس وصفاقس، بما تحتويه من كنوز معمارية وتاريخية. الثقافة حصننا المنيع بدوره شدد الفاهوم بأن «الثقافة هي المحصّن لذواتنا العربية والفلسطينية .. تطور أدائنا الثقافي، وانفتاحنا على الخارج، سيكشف كافة الحقائق الموضوعية والتاريخية والنهضوية الثقافية أمام أنفسنا وأمام العالم»، لافتاً في حديث خص به «أيام الثقافة» إلى أن هذا التوجه يجب أن يخاطب شعوب العالم، وخاصة الأطفال منهم واليافعين، عبر الانفتاح على ثقافة الآخر، وقراءة الذات، وعدم خشية النقد الذاتي، و»هذا جزء من استراتيجية شاملة لا بد من البدء في انتهاجها». وحول الحضور الفلسطيني في صفاقس، أكد الفاهوم: هذا يشكل أساساً متيناً لدمج جينات ثقافية عربية ببعضها البعض، خاصة إذا ما كانت القدس مركزها ونواتها الصلبة، والتي هي محظ أنظار وبوصلة مشاعر الإسلامي والمسيحي العربي وفي العالم كله، فالقدس هي مفتاح فكر جديد، واستقرار جديد، كما هي مفتاح الاستقلال والحرية، وفرض الحق الفلسطيني على البشرية التي تتخلى عن نظرتها الموضوعية بالتعامل مع الآخر بمساواة واحترام .. موقع القدس في هذا الإطار، يشكل محوراً أساسياً للتشابك، اليوم كان مع صفاقس، وفي المستقبل مع عواصم ودول أخرى، ومن هنا تكون القدس شعلة انطلاق لاستراتيجية جديدة مبنية على الاحترام والمحبة والاستقرار والسلام، والاعتراف بحقوقنا الوطنية. وختم الفاهوم حديثه لـ»أيام الثقافة» بالقول: الوفد الذي مثل فلسطين برئاسة وزير الثقافة «يرفع الرأس»، أي يستحق أن يكون مصدر فخر واعتزاز، فهو من جهة أظهر وأبرز إبداعات الطاقات الشبابية لدى الشعب الفلسطيني، وانفتاحهم على الثقافات والحضارات الأخرى، ووقع فعل وزير الثقافة والوفد المرافق له، وما صرح به أمام وسائل الإعلام والجمهور التونسي كان كبيراً وفاعلاً، ليؤكد ما قاله الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي بأن الشعب الفلسطيني يتميز عن بقية الشعوب بالعلم، والثقافة، والصمود، وبأن الشعوب العربية هي وسيط القضية الفلسطينية إلى العالم. ما بعد تظاهرة صفاقس وشددت مبارك، في حديثها لـ»أيام الثقافة»، على أن «الثقافة هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق مناعة الشعوب ضد التطرف والعنف والإرهاب»، مشددة على أن «اتفاقية الشراكة أو التوأمة ما بين مدينة القدس ومدينة صفاقس، أكبر دليل على إصرارنا بانتمائنا لهذا العالم العربي، واقتناعنا بأم القضايا، القضية الفلسطينية التي نعتبرها مسؤولية جميع الدول العربية، لاسيما تونس التي تربطها علاقة خاصة بالشعب الفلسطيني، والتي ستعمل على تعميق هذه العلاقة المتينة على كافة الأصعدة». وأضافت مبارك: ستكون اتفاقية التوأمة هذه بين مدينتي القدس وصفاقس نقطة انطلاق جديدة في بناء مشروع ثقافي يتواصل حتى ما بعد انتهاء تظاهرة صفاقس عاصمة للثقافة العربية 2016، خاصة من خلال إقامة مركز ثقافي تونسي في مدينة رام الله، وإن شاء الله في القدس قريباً، وهو حلمنا، وكذلك مركز ثقافي مهم يشع بالثقافة الفلسطينية في تونس، يتيح المجال للإبداعات الفلسطينية لتطل بشكل أكثر رحابة في تونس .. ستبقى هذه الاتفاقية فاعلة وناجعة حتى نتخلص من التهميش، على المستوى الدولي، والذي يطال الحراك الثقافي الفلسطيني برمته، بما فيه الجهود الكبيرة لوزارة الثقافة الفلسطينية ووزيرها، لاسيما أن فلسطين تتميز بحركة موسيقية ومسرحية متطورة، وليس كذلك، بل تتميز بحضور لافت في كافة مناحي وضروب الثقافة والفنون، وعلينا القيام بكسر الحصار المفروض على هذه الفنون والإبداعات دولياً. وختمت: كما أشرت، هذه الاتفاقية هي نقطة انطلاق جديدة في تكثيف التعاون ليس فقط ما بين التظاهرتين (القدس عاصمة دائمة للثقافة العربية وصفاقس عاصمة للثقافة العربية 2016)، وليس فقط ما بين الوزارتين، بل ما بين الوسط الثقافي التونسي والوسط الثقافي الفلسطيني، مشددة من جديد على أن «الثقافة هي سلاحنا اليوم، وعلينا استثمار هذا السلاح، بحيث يكون لشبابنا دور في استخدام هذا السلاح السلمي في مقاومة الجهل والتطرف والعنف. جئنا من فلسطين وكان بسيسو خاطب المؤسسة الثقافية الرسمية في تونس، وجموع المثقفين، عبر مؤتمر صحافي، قال فيه: جئنا من فلسطين، جئنا من ذروة الأمل، وذروة الحلم، وجئنا من أقصى درجات التعب والألم بسبب الاحتلال، محمّلين بكل آمالنا وأحلامنا وتطلعاتنا بالانفتاح على فضائنا العربي، ومد الجسور مع أشقائنا العرب في مختلف التظاهرات الثقافية .. جئنا إلى تونس بكل الحب لهذا البلد الشقيق الذي لم يتوانَ يوماً عن دعم صمود شعبنا، وحقوقه الوطنية. وأضاف: هنا في صفاقس، المدينة التاريخية التي عاندت بحر الغزاة، ولم تعاند بحر الخير وبحر الثقافة، فصمدت وقاومت، وباتت مصدر إلهام لنا جميعاً .. في افتتاح تظاهرة صفاقس كنا على موعد مع مشاهد ضوئية تستعرض تاريخ هذه المدينة العريقة، قلنا في دواخلنا نحن القادمين من فلسطين «سيأتي يوم ونقدم عرضاً ضوئياً على أسوار القدس .. هذه ليست مجرد أمنية، وليست مجرد حلم إنشائي بقدر ما هو يحتاج إلى الكثير والكثير من العمل .. نؤمن بأن هذا سيتحقق، وسنشهد هذا العرض الضوئي على أسوار القدس، مستعرضين تاريخها .. ومثلما عاندت صفاقس بحر الغزاة، ستعاند القدس الغزاة وتستعيد مكانتها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والحضارية .. لسنا هنا للتمني ولكن للعمل». وشدد: دعم صمود أهلنا وشعبنا في القدس يأتي عبر البرامج المختلفة، ومنها البرامج الثقافية، لافتاً إلى أن توقيع اتفاقية توأمة القدس وصفاقس ثقافياً يمثل ذروة التحدي للاحتلال الذي يحاول طمس الهوية الثقافية والوطنية في القدس وفلسطين .. هناك لا شك معاناة بسبب الاحتلال وسياساته، لكنها في المقابل تشكل بالنسبة لنا حافزاً رئيساً للعمل. ليست مجرد وثيقة من جانبها شددت هدى الكشو، المنسقة العامة للجنة التنفيذية لتظاهرة صفاقس عاصمة للثقافة العربية 2016، على أن هذه الاتفاقية ليست «مجرد توأمة رمزية، أو مجرد وثيقة أبرمت بين الجانبين الفلسطيني والتونسي، بل نتحدث عن تفعيل حقيقي لاتفاقية من شأنها أن تؤكد حضورها الفعلي على الأرض، عبر سلسلة من المشاريع العملية، وربما للمرة الأولى، بما يكرس توأمة حقيقية بين القدس عاصمة دائمة للثقافة العربية، وصفاقس عاصمة للثقافة العربية 2016». وفور عودة الوفد الفلسطيني من تونس، بدأ العمل في وزارة الثقافة فوراً على تجسيد الاتفاقية على أرض الواقع، عبر مشروع معرض الصور الفوتوغرافية المشترك أولاً «صفاقس في عيون فلسطينية والقدس في عيون تونسية»، لتتوالى المشاريع المشتركة، والأسابيع الثقافية، والفعاليات المتنوعة الفلسطينية على أرض صفاقس، وربما مدن تونسية أخرى، وكأن فلسطين تمد فنجان قهوتها لكل الأمم.

الايام

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف