عشية الذكرى السنوية الأولى للإنتفاضة الشبابية، إشتعلت مرة أخرى صدامات الشباب مع قوات الإحتلال الإسرائيلي، وعادت مشاهد الشهداء ضحايا الإجرام الدموي تحتل الصفحات الأولى في يوميات الأحداث السياسية في المناطق الفلسطينية المحتلة، حتى أن البعض، ممن راهن على إن الإنتفاضة الشبابية قد لفظت أنفاسها، وكانت مجرد «هبة» شبابية، وثورة عصبية، سرعان ما هدأت، عاد ليتحدث عن عودة الإنتفاضة الشبابية، لتستعيد حيويتها ودورها الصدامي مع قوات الإحتلال.
ويبدو أن بعض المراقبين، خاصة ممن ينظرون إلى الحدث من خارجه، على شاكلة المستشرقين، حنى من منهم يدعي معرفة وخبرة في الوضع الفلسطيني، إختصر الإنتفاضة الشبابية بمعيار واحد، هو معيار سقوط الشهداء في الشارع برصاص الإحتلال. وبالتالي تستمر الإنتفاضة، برأي هؤلاء، ما دام عداد الشهداء مستمراً في التصاعد يومياً، وتتوقف الإنتفاضة، برأيهم أيضاً، حين يتوقف عداد الشهداء. وإنه لمن الظلم الشديد، وكذلك من الخطأ الشديد، أن نحاصر الإنتفاضة الشبابية بمعيار واحد، هو عداد سقوط الشهداء، وأن نتعامى عن باقي المعايير، كما هي تعبر عن نفسها في الشارع وفي الحياة اليومية الفلسطينية.
فالإنتفاضة ليست مجرد رد فعل على حدث ما، بل هي مسار سياسي إنطلق في لحظة سياسية معينة، لم يكن بإمكان أي منا، أي يتنبأ بها، وإن كان قد تنبأ بحتمية حدوثها، إنطلاقاً من قراءته للواقع اليومي في المناطق المحتلة. هي تعبير عن تضافر سلسلة من الشروط والعناصر، تتفاعل فيما بينها، كالتفاعل الكيميائي، [وإن كان تفاعل عناصر الإنتفاضة لا يكون منظوراً بالدقة التي يكون بها التفاعل الكيميائي]، ويعود هذا التفاعل إلى تراكم يعبر عن نفسه بالأشكال التي يختارها البشر، في ظل ظروفهم الخاصة بهم. فإذا كانت الإنتفاضة الأولى هي «إنتفاضة الحجارة»، وكانت الإنتفاضة الثانية هي إنتفاضة المقاومة المسلحة، فإن الإنتفاضة الشبابية قدمت نفسها بإعتبارها «إنتفاضة السكاكين»، وهذا كله نتاج عبقرية الإبداع العفوي للشعب الفلسطيني في نضاله الطويل.
* * *
الإنتفاضة الشبابية لم تتوقف، بل إستمرت وإن أخذت أشكالاً أخرى.
• فنظرة إلى تعليقات الشباب الفلسطيني، على حسابه في الفايسبوك و تغريداته في التويتر، تؤكد أن حالة الغليان مازالت مستمرة، وأن موقفه في مسار الأحداث مازال يتصاعد وأن نظرته إلى طبيعة السلطة وتقاعسها مازالت تزداد عمقاً وتجذراً، وأن إرادته في مقاومة الإحتلال لم تضعف. وبالتالي، ما توقف، أو ما تراجع، هي موجه من موجات الإنتفاضة، تتلوها موجات أخرى. هذه هي تجربة الإنتفاضة الأولى، وتجربة الإنتفاضة الثانية، وكذلك تجربة الإنتفاضة الثالثة.
• إنخراط الشباب الفلسطيني في الشأن العام لم يقتصر على النزول إلى الشارع شاهراً سلاحه الأبيض، بل أخذ طابعاً إضافياً، منه على سبيل المثال إنخراطه المميز هذه المرة في الإنتخابات البلدية والمحلية في الضفة و القطاع. وبموجب تقارير لجنة الإنتخابات المركزية فإن ظاهرة ترشيح الشباب لأنفسهم في لوائح خاصة بهم، أو على لوائح مشتركة، كانت بارزة وتلفت النظر. ما يعني أن الشباب الفلسطيني خلافاً لمن فقد الأمل بالتغيير، يؤمن بأن التغيير قادم لا محالة، ويؤمن أنه سيكون من صانعي هذا التغيير. التغيير في مواجهة السلطة الفاسدة، البيروقراطية المترهلة والعاجزة، والفاقدة للإرادة الوطنية. والتغيير في مواجهة ركام الفصائل التي تشكل حملاً زائداً في الحالة السياسية الفلسطينية هي في حقيقتها مجرد جوقة تردد ما يتلى لها. والتغيير في مواجهة الإحتلال والإستيطان، وكل المشاريع البديلة للإستقلال والسيادة والعودة.
• إستمرت الإنتفاضة الشبابية، في المواقف البطولية والتي تجاوزت الحدود الطبيعية للبشر على الإحتمال، في تلك الإضرابات عن الطعام التي يخوضها الأبطال الأسرى في سجون الإحتلال، يتمردون على قوانينه، وإجراءاته، وقمعه وإستبداده، ويرفعون الصوت عالياً في وجه العنصرية الصهيونية، والتخاذل العربي، والصمت الدولي، يتناغمون مع إرادة شعبية تستقبل صمودهم بأرقى أشكال التضامن، في تراكم نضالي آخر، وفي مسار موازِ لمسار إنتفاضة السكاكين، تلتقي في مصب واحد، هو التقدم حثيثاً نحو الإنتفاضة الشاملة، ونحو العصيان الوطني، ونحو إعادة الإعتبار للبرنامج الوطني الفلسطيني على أنقاض مشروع أوسلو، وباقي المشاريع الأخرى المماثلة، بعد حوالي ربع قرن من التجارب المرة والمكلفة.
* * *
الحديث عن حيوية الإنتفاضة الشبابية لا يلغي ضرورة التوقف أمام سلبية الحالة السياسية إزاءها.
• فالسلطة الفلسطينية، وحزبها الحاكم، تجاهلت على الدوام، وعطلت الدعوة إلى تشكيل قيادة وطنية موحدة للإنتفاضة. ليس الهدف من القيادة الموحدة هو مصادرة الإنتفاضة، أو فرض الهيمنة عليها، بل إن الهدف هو الإعلان عن إنعقاد الإجماع الوطني حول الإنتفاضة، وبالتالي رسم السياسات الهادفة إلى تعزيزها وتدعيمها، وتثميرها سياسياً، بما في ذلك وقف التنسيق الأمني مع الإحتلال ومقاطعة الإقتصاد الإسرائيلي، وإتخاذ سلسلة من الإجراءات الميدانية، كفرق الحماية للقرى ضد المستوطنين، وحماية منازل الشهداء المهددة بالنسف، والتضامن مع عائلات الشهداء خاصة من نسفت بيوتهم، وتأمين صندوق وطني لإعادة إعمار هذه البيوت والدور، ولتحديد أيام للغضب الوطني..
• على العكس من هذا كله، لجأت السلطة إلى سلسة إجراءات في إطار التعاون الأمني مع الإحتلال لقمع الإنتفاضة. وتصريحات الرئيس عباس، ورئيس جهاز مخابراته، حول محاصرة المدارس والجامعات، وتفتيش الطلاب، وإجهاض العمليات الإنتفاضية قبل وقوعها، والزج بالمناضلين في سجون السلطة، دليل دامغ يدين السلطة ويدين سياستها التي رسمت موقفاً معادياً للإنتفاضة تحت إدعاء كاذب هو الحرص على حياة الشباب. بينما نراها تقف صامتة أمام جرائم إعدام الشباب في الشوارع على يد جنود الإحتلال وعصابات مستوطنيه.
• كذلك تتحمل باقي القوى، ونخص بشكل خاص القوى الديمقراطية واليسارية، مسؤولية التقاعس في دعم الإنتفاضة وإسنادها، وفشل هذه القوى في تعبئة قواها الذاتية بالشكل المطلوب وتعبئة الشارع كذلك للإنخراط في الإنتفاضة وتحويلها إلى إنتفاضة شعبية شاملة. لم تنجح هذه القوى في زحزحة حالة اللايقين التي مازالت تسيطر على وعي شرائح واسعة من الشارع الفلسطيني حول إمكانية التغيير في ظل السلطة الراهنة، وفي ظل الآليات القائمة في إدارة الشأن العام.
في الذكرى السنوية الأولى للإنتفاضة الشبابية، نحن مدعوون، كل من موقعه، لإجراء المراجعة المطلوبة، لصالح تجديد الإنتفاضة بإعتبارها الخيار الوطني البديل لمشروع أوسلو وكافة المشاريع المماثلة

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف