"لا يحتمل انتصار أكبر لخالق الافكار من قبول فكرته كأمر مسلم به"، كتب عالم الاجتماع باروخ كيمرلينغ. تأتي كلماته هذه الى ذهني في ضوء وابل التحليلات المنمقة التي كشفت حقيقة كون اسرائيل "دولة ثنائية القومية". بعد 35 سنة من تقديري (ونلت الكثير من الاستخفاف والاحتقار) بان الوضع الناشيء في بلاد اسرائيل "لا مرد له"، وانه قامت هنا "دكتاتورية شعب الاسياد" يكشف الكل الان، بان "حل الدولتين لم يعد قابلا للتطبيق". لا مطالبة بحق الاوائل ولا ادعاء بذكر مناسب يوجد هنا، بل أسف كبير على ضياع جيل كامل؛ على تبذير وقت باهظ الثمن وطاقات هائلة، أدت الى أن يتثبت هذا النظام ويتأطر.
كم من الطاقات بذرت على رقابة الحواجز، "كشف المظالم"، احصاء المستوطنين، سجل سطو الاراضي، مظاهرات الاحتجاج، والتوجهات الى محكمة العدل العليا – الكل حاول القتال ضد تأطر نظام الابرتهايد، ولكنهم عمليا ساهموا في تثبيته. والجدالات العابثة في مسألة فضائل ونواقص الدولة الواحدة مقارنة بالدولتين تضفي الغموض المتعمد على حقيقة ان هذا ليس موضوعا ايديولوجيا بل تعريفا للواقع. فالخطاب النظري والمناكفات العابثة تشوش عن عمد عناصر النظام القائم: السيطرة الاسرائيلية التامة التي تقوم على اساس قوة الانفاذ، المطبقة من قبل ميليشيات مسلحة؛ حرمان حرية التعبير السياسي وفرض الهيبة من خلال الاعتقالات التعسفية؛ الاحتكار لمقدرات البيئة (الارض، المياه)؛ العزل المتطرف من خلال العوائق المادية، الحواجز والطرق المنفصلة؛ حرمان حرية الحركة ونظام التراخيص المحوسبة؛ منظومة التشريع، اللوائح والحكم التي تفرض تفرقة متطرفة على أساس عرقي – قومي؛ فوارق متطرفة في قدرة الوصول الى العمل والجهاز الصحي؛ فارق متطرف في مستوى المعيشة بين الجماعة المسيطرة والمسيطر عليها، لدرجة نسبة 10:1. توجد تعريفات كونية لمثل هذا النظام، ولكن كم مريحا اخفاءه تحت التعريف النقي "الاحتلال"، الذي يلمح بان كل شيء مؤقت.
ان هذا النظام التعسفي يستوجب استثمار قوات عسكرية هائلة وبنية تحتية ايديولوجية ودعائية، تعرض كـ "حرب ضد الارهاب" و "صهيونية". وهو يبقى على قيد الحياة ويتعاظم عقب النجاح المذهل لاستراتيجية سحق الجماعة السكانية الفلسطينية الى شظايا من الجماعات، كل واحدة منها تضطر لان تواجه وحدها الحاكم الاسرائيلي. الفلسطينيون مواطنو اسرائيل، الفلسطينيون في الضفة وسكان غزة يواجهون على انفراد النظام الذي فرض عليهم. ولشدة السخف، فان استراتيجية السحق هذه تحظى بالتعاون من جانب الفلسطينيين، الذين يقبلون لانفسهم، طوعا أو غصبا، الهوية المنفصلة والاجندات التي تمليها اسرائيل. الفلسطينيون الاسرائيليون يكافحون من أجل مساواة الحقوق الجماعية، سكان الضفة يقاتلون من أجل تقرير المصير، والغزيون أسرى ايديولوجيا حماس – والجماعات السكانية الثلاثة غير قادرة على ان تصيغ جدول أعمال يرص صفوفهم. امام المجتمع الاسرائيلي الممزق في سياسة الهويات، مرصوص الصفوف في عدائه لـ "الاخر" الفلسطيني، ويرى في السيطرة على الفلسطينيين موضوعا وجوديا. وهكذا يتثبت الوضع الراهن، الذي يعرف أخيرا كـ "دولة ثنائية القومية".
والان، حين انتهى الجدال على "عدم الارتداد"، حان الوقت لترسيم السياقات التي من المتوقع أن تقع في الواقع ثنائي القومية، والتي لا تبشر بالخير. ميل الجمهور اليهودي يمينا وعدم قدرة زعمائه السياسيين والثقافيين على وقف دوافع كراهية الغريب والتنكر للقيم الليبرالية، مما يؤدي الى الابتعاد عن المعايير الكونية. اكتظاظ السكان اتسع واخفاقات التخطيط تزيد الضغوط على مقدرات البيئة، مما يدفع لمصادرة المزيد من الاراضي للوسط اليهودي. اليهود الاسرائيليون لم يعودوا يخجلون في أن يظهرون كأشباه فاشيين، شريطة أن يتمكنوا من تبرير ذلك كرد على تهديد وجودي.
يبدو كل شيء ضائع في نظر الليبراليين "اليسرويين". ولكن سياقات التطرف تخلق ببطء ردود فعل مضادة. وحين تتراكم افعال النظام الى استفزاز متطرف، ستستيقظ قوى تتحداه وتعرضه للخطر. فالتعب من استمرار النزاع والتغييرات في الجيل ستضعف الاساس الايديولوجي للحاكم. وسيقاتل النظام بكل القوة وستدير محافل الانفاذ معركة أخيرة، يصبح ثمنها لا يطاق. ان تجربة الجماعات السكانية المقموعة تبين بانه رغم الفجوة فان أقلية عرقية او ايديولوجية مصممة، تدير كفاحها بادوات ديمقراطية، تنجح في أن تفرض على الاغلبية الحاكمة تغييرات وتنازلات في موضيع اعتبرت في البداية مبدئية بل ووجودية. وهذه الكفاحات السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والايديولوجية هي كفاحات بعيدة المدى – وخطرها هو قصر النفس – ولكن انتصارها محتم.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف