اعتبر تقرير "مدار" الاستراتيجي 2017، في تحليله للمشهد الاسرائيلي العام 2016، أن إسرائيل اتجهت أكثر نحو تصعيد خطاب الضم وتفكيك حلّ الدولتين، والتنصل من أي مبادرات تتمحور حول إنهاء الاحتلال، انسجاما مع ما تشهده داخليا من تكريس اليمين الجديد لنفسه، وتحكّمه بالمشهد الإسرائيلي وبوجهته المستقبلية، إلى جانب التوجهات اليمينية العالمية، في حين استبعد التقرير أن يسفر الذهاب إلى انتخابات مبكرة تفرضها قضايا الفساد المحيطة برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، عن إضرار بما كرّسه اليمين الإسرائيلي من مكاسب.
وركز التقرير السنوي الذي أطلقه المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار"، في مؤتمر خاص في رام الله، أمس، الضوء على مواصلة اليمين مساعيه الدؤوبة، لتعميق سيطرته على النخب، وامتلاك مفاتيح مؤسسات الدولة المختلفة، وما يعتبره قلاعا تقليدية لليسار، مثل الإعلام والمحكمة العليا، وسط تشديد خطابه على يهودية الدولة على حساب "قيم الديموقراطية"، وتحويل أيديولوجيته المعادية للفلسطينيين، إلى سياسة يومية أكثر عدوانية وعنفا.
وفي التفاتة خاصة بمرور 100 عام على صدور "وعد بلفور"، تضمن التقرير تقديما تأصيليا يضع التغيرات الآنية في إطارها التاريخي البعيد تحت عنوان: "إسرائيل بين المستعمرة والدولة: الثابت والمتحول بعد مئة عام على بلفور، 70 على التقسيم، و50 على الاحتلال".
وعاد تقرير "مدار"، ليؤكد الخلفية العميقة لتحكم اليمين الجديد في إسرائيل، ممثلة بالتغيّرات الاجتماعية - التاريخية التي مرت بها إسرائيل، من حيث تحوّلها التدريجي إلى مجتمع أكثر تديناً ومحافظة، ودخول الشرقيين إلى النخب بعد أن كانت أشكنازية خالصة، وزيادة قوة المستوطنين في الخارطة السياسية بعد احتلال 1967، مع الأفول المستمرّ للنخب التقليدية للصهيونية المؤسسة بقيادة حزب "مباي"، تلك النخب التي حكمت إسرائيل حتى صعود اليمين للحكم العام 1977، وحمل صعوده في ظل تصعيد المشروع الاستيطاني وتديينه، بذور أفول حكم اليمين بصيغته الجابوتنسكية.
وأضاف التقرير: مقابل أفول هذا اليمين، شهدت إسرائيل صعوداً مستمرّاً لـ"اليمين الجديد"، الذي يتألف من كل من الأحزاب الحريدية (المتشدّدة دينياً)، والأحزاب المتدينة القومية، والمستوطنين، وأعضاء الكنيست المتطرفين في حزب الليكود، والجماعات القومية المتطرفة المنضوية ضمن حزب "إسرائيل بيتنا"، وحركات مثل "إم ترتسو" وغيرها.
وأشار التقرير إلى تقاطع تكريس اليمين لنفسه في إسرائيل، مع انعطافات عالمية شبيهة في أوروبا، توّجت بوصول دونالد ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة الأميركية، ما يؤثر على سياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين، وعلى فرص إنهاء الاحتلال، ويفتح أمامها مساحات واسعة للالتفاف على أي محاولات للضغط عليها، ويعطيها فرصة للمناورة السياسية ولفرض وقائع على الأرض تحوّل إقامة دولة فلسطينية حقيقية إلى مهمة مستحيلة.
وقال التقرير: إن الحكومة الإسرائيلية، توظّف حالة الاضطراب الدموية السائدة في العالم العربي، والحرب الأهلية في سورية والعراق، وصعود قوة الحركات المتطرفة التي تستخدم الدين في أيديولوجيتها، من أجل التهرب من إنهاء الاحتلال، وادّعاء أن المواجهة مع الفلسطينيين هي مواجهة ثقافية وحضارية بين "العالم المتحضر" و"العالم الظلامي"، عزفا على وتر اليمين الجديد في أميركا وبعض الدول الأوروبية.
ونبه إلى أن التقاطع مع اليمين العالمي، يحمل بالذات بذور ترسيخ صورة إسرائيل بوصفها دولة احتلال عنصرية، تقف هي واليمين الفاشي، والجديد العنصري، في المربع ذاته، ما قد يؤول إلى نزع الشرعية عنها، علماً أنها تعتبر محاربة العزل والإقصاء أحد المركبات الأساسية في منظورها للأمن القومي، وفي هذا الإطار، حذرت أطراف عقلانية من ما يحمله اليمين الأميركي والأوروبي من مخاطر إنعاش النزعة اللاسامية التي قد تضر باليمين الى جانب مخاطر التعامل مع ترامب كورقة مضمونة 100%.
ولخّص التقرير استنتاجاته، بأن حكم اليمين الجديد في إسرائيل، بقيادة نتنياهو، ينعكس في ثلاثة محاور أساسية يسعى إلى ضبطها وفق مفاهيمه السياسية: أولها الموقف من الاحتلال/الاستيطان، حيث شهد العام 2016 محاولات مستمرة من أجل ترسيخ مكانة المستوطنين والمستوطنات ضمن الإجماع الرسمي، وتعدّت هذه المحاولات الأدوات التقليدية، من حيث سيطرة الدولة ومنظومتها على أدوات قضم الأرض عبر المصادرة ووضع اليد بحجج مختلفة، إلى تبييض سرقة الأراضي على يد الأفراد بشكل رجعي، من خلال تمرير قانون التسوية، وهو ما يعني أن الدولة صارت تتقاسم "أدوات العنف" والسيادة مع المستوطنين، وتحولت إلى أداة من أجل تبييض خروجهم عن القانون الذي سنّته هي، في إشارة إلى حجم القوة التي يتمتع بها هؤلاء في تسيير وجهة الدولة.
وأسهب التقرير: كما استغل أقصى اليمين الإسرائيلي فرصة صعود ترامب من أجل مطالبة نتنياهو بالتراجع نهائياً عن حلّ الدولتين، الذي أعلن في السابق قبوله به، فيما صار يعرف بـ"خطاب بار إيلان"، وضم مناطق (ج)، غير أن نتنياهو امتنع لاحقاً عن ذلك، وما يظهر من تصريحاته حاليّاً هو أنه يسعى إلى إدارة ملف الاحتلال بالتنسيق الكامل مع إدارة ترامب، بدل القيام بخطوات تفاجئ الرئيس الأميركي، وذلك لتفادي أي أزمة ممكنة معه، وإلقاء الكرة في الملعب الفلسطيني.
ومن ناحية بنية الدولة، أشار التقرير إلى ادعاء إسرائيل الدائم للحفاظ على التوازن بين المركب الديموقراطي واليهودي، فيما أدى الصعود المستمر لليمين الجديد إلى تطور ثقافة شعبوية، تسعى نحو ترسيخ البنية القومية اليهودية للدولة، ومساعي السيطرة على النخب التي تحولت من نخب أشكنازية علمانية عمالية، إلى نخب استيطانية متدينة ويمينية وشرقية تتصدر اليوم المشروع الصهيوني، وتحاول حسم الصراع مع الفلسطينيين عبر مساعي ضم مناطق (ج)، وحسم مستقبل هضبة الجولان، وإبقاء الواقع السياسي للسلطة باعتباره الحل النهائي.
وكان انقسم المؤتمر إلى ثلاث جلسات، تناولت الأولى محوري "إسرائيل والمسألة الفلسطينية"، و"المشهد السياسي الحزبي الداخلي"، وقد تولى التعقيب عليها النائب قيس عبد الكريم "أبو ليلى".
وأثنى عبد الكريم على التقرير، وغيره من المبادرات البحثية، مشيرا إلى ضرورة أن تلقى مزيدا من الاهتمام والتفاعل من قبل صناع القرار.
ورأى أنه "إذا كان التصور التاريخي للحركة الصهيونية يقوم على الاستيلاء على أكبر مساحة من الأرض، مع أقل عدد من السكان، فإن التطورات في المنطقة قد تدفع هذا النمط في التفكير الإسرائيلي إلى مداه الأقصى"، مبينا بالمقابل أن "اليمين الجديد" في إسرائيل يريد الدولة الواحدة، ولا يخشى من الآثار الديمغرافية المتولدة عن تحقيق هذا الهدف بالنسبة إليه.
ولفت إلى ما أشار إليه التقرير بخصوص بروز الطابع "الشوفيني" لليمين الجديد، مبينا أن الأخير لا يرى تناقضا بين اليهودية والديمقراطية.
واعتبر أن الوضع القائم في إسرائيل، يجسد حقيقة مفادها أنه ليس هناك شريك سلام فيها، مضيفا: "إن عملية السلام بصيغتها التي شهدناها خلال الـ 25 عاما الماضية قد توفيت، وصدرت شهادة وفاتها من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بالتالي لا بد من تغيير في السياسة الفلسطينية ينطلق من هذه الحقيقة".
أما في الجلسة الثانية، فقد تم تناول محوري "المشهد الأمني والعسكري"، و"مشهد العلاقات الخارجية"، وتولى التعقيب عليه أستاذ الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة "بيرزيت" د. غسان الخطيب.
وفي هذا السياق، أبرز التقرير فيما يتصل بمشهد العلاقات الخارجية، أن اسرائيل في حالة مرحلة تمدد على المستوى الدبلوماسي، وإن كانت تنجح في مواقع، وتخفق في أخرى.
وبين التقرير أنه لا بد من عدم المراهنة على ثبات موقف المجتمع الدولي من الانتهاكات الإسرائيلية والحقوق الفلسطينية على الأمد البعيد، باعتبار أن إسرائيل نجحت في إحداث تغييرات مهمة في مواقف دول عديدة كانت معروفة بمواقفها المؤيدة للحقوق الفلسطينية.
وركز التقرير، فيما يتعلق بـ "المشهد الأمني والعسكري"، على التهديدات التي تواجه اسرائيل على الصعيد الخارجي.
كما عرج على جانبين أساسيين في هذا المشهد، يتمثلان في التحولات الداخلية في جيش الاحتلال، وتعمل على الدفع قدما بما يطلق عليه "البعد الميليشيوي" في هذا الجيش، علاوة على تغير التحديات العسكرية والأمنية في البيئة الاقليمية لاسرائيل، وما يرافقها من تحولات في التقديرات الإسرائيلية لجوهر التهديدات التي ستواجهها الدولة العبرية خلال السنوات المقبلة.
من جانبه، أورد الخطيب بعض الملاحظات على التقرير، موضحا أن فوز ترامب بالانتخابات الأميركية ربما لا يكون كافيا لوحده لتفسير التقدم، والإنجازات في السياسة الخارجية الإسرائيلية.
واقترح أن يتم تخصيص جانب من تقارير "مدار" المقبلة، حول مكاسب ومخاسر اسرائيل في الساحة الدولية، ومؤسساتها مثل مجلس الأمن.
ورأى أنه ربما قد يكون من المفيد التركيز على مسألة المقاطعة الدولية لإسرائيل بشكل أكبر في تقارير "مدار" المقبلة، لعظم آثارها عليها.
وتناولت الجلسة الثالثة، محاور "المشهد الاقتصادي"، و"المشهد الاجتماعي"، و"الفلسطينيون في إسرائيل"، وقد تولى التعقيب عليها رئيس لجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربية في الداخل محمد بركة.
وركز التقرير فيما يتعلق بالمشهد الاقتصادي، على التطورات التي شهدها الاقتصاد الإسرائيلي العام 2016، وامتاز بحدوث تحول في وتيرة نموه، وتحسن أدائه، وارتفاع معدل نمو الناتج المحلي، ما ينبئ بتحسن مستقبلي.
وبين أن معدل النمو خلال 2016 فاق توقعات الدوائر الاقتصادية وبلغ 8ر3%، بينما ارتفع الناتج المحلي للفرد بـ 8ر1%.
وبالنسبة إلى المشهد الاجتماعي، أشار نقلا عن دراسات وتقارير مختلفة، إلى حدوث تزايد مستمر في تراجع الثقة المجتمعية بمؤسسات الدولة (عدا الجيش)، مقابل مخاوف وقلق متزايد من تدهور ما يراه المواطنون اليهود، المنظومة الديمقراطية المميزة لإسرائيل.
واستدرك: إن أغلب السياسيين والأكاديميين والإعلاميين في اسرائيل، يعتقدون أن دولتهم تتمتع بمنظومة حكم ديمقراطية وطيدة وراسخة، ولا يرون أن التشديد على يهودية الدولة يحمل تناقضا، أو يشكل عائقا أمام تحقيق الديمقراطية، كذلك لا يعتبرون أن تعامل الدولة مع المواطنين الفلسطينيين داخل اسرائيل، يعتبر مشكلة أمام الديمقراطية، وإن كان الوضع يتطلب بعض التحسين من وجهة نظرهم.
وفيما يتعلق بالمحور الأخير "الفلسطينيون في اسرائيل"، يرصد التقرير استمرار حكومة نتنياهو العام 2016 في التعامل مع الفلسطينيين في الداخل، على أساس كونهم مصدراً للخطر، سواء الأمني أو الديموغرافي، وانعكس الأمر في استمرار حظر الحركة الإسلامية الشمالية، والتحريض ضد أعضاء الكنيست من القائمة المشتركة، إضافة إلى تمديد العمل بقوانين تستهدفهم، كقانون لم الشمل، واستمرار سن قوانين ذات طابع عنصري.
كما بين أن العام 2016، شهد تصعيد هدم البيوت خاصة في النقب، التي واجهت محاولات هدم قرية أم الحيران، بهدف إقامة قرية "حيران" المخططة، لتكون قرية يهودية خالصة على أنقاض القرية الفلسطينية، كخطّة أخرى ضمن المخطّط الكبير لتهويد النقب، وعمليات الهدم في النقب.
وفي معرض تعقيبه على المداخلات، ذكر بركة، أن السنوات الأخيرة تشهد مشروعا اسرائيليا يحمل ثلاثة عناوين، تتمثل في "يهودية الدولة"، و"تديين الصراع"، أي ابراز الصراع وكأنه ديني، اضافة إلى محو الخط الأخضر.
ولفت إلى أن المطالبة بالاعتراف الفلسطيني بما يعرف بـ "يهودية الدولة"، بات أمرا متكررا في السياسة الإسرائيلية الرسمية، مستذكرا بدايات هذه المسألة العام 2007.
ونوه إلى السياسات الإسرائيلية التمييزية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، مشيرا إلى أن الاجراءات التي تتبعها في هذا المجال، تماثل تلك التي اتسمت بها الأنظمة الفاشية.
وبين أن طبيعة الاقتصاد الاسرائيلي، القائم على طغيان رأس المال، وتهميش الفلسطينيين، علاوة على السعي للتحكم بوسائل الإعلام، يمثل مركبا كلاسيكيا للأنظمة الفاشية في العالم.
وأشاد بما ذهب إليه تقرير "مدار" فيما يتعلق بتوصيف حالة الديمقراطية في اسرائيل، مضيفا: "إن كافة العوامل، بما في ذلك تفريغ الجهاز القضائي والبرلمان، والسيطرة على وسائل الإعلام، وتهميش الطبقات المسحوقة، كلها تبرز أن اسرائيل تسير بخطى سريعة ومتسارعة نحو تعريفها كنظام فاشي".
وأشار إلى معاناة الجماهير الفلسطينية داخل الخط الأخضر، جراء الممارسات والسياسات الإسرائيلية المختلفة، متهما اسرائيل بمحاولة "إنتاج نموذج جديد للعربي الإسرائيلي الفخور، أي نوعا من العمالة يجاهر بها الشخص ويفاخر".
ولفت إلى المحاولات الإسرائيلية لاستغلال النزعة الاستهلاكية التي تميز الجمهور العربي، ونزع الثقة بينه وبين القيادة العربية في الداخل، عبر وسائل مختلفة.
وكان استهل المؤتمر، بكلمة لنائب رئيس مجلس ادارة "مدار" د. أحمد حرب، أشار خلالها إلى دور المركز وأهدافه، لجهة توفير المعرفة عن المشهد الإسرائيلي لمختلف الأطراف بما في ذلك متخذ القرار، معربا عن أسفه لضعف أثر التقارير التي تتركها تقارير "مدار" على صناع القرار.
وقال: للأسف، وبعد هذه السنوات الطويلة على تأسيس المركز، أصبحت على قناعة بأن المشكلة ليست في توفير المعرفة، لكن بالأثر الذي قد تتركه على متخذي القرار، (...) وأشعر بأن هناك هوة بين المعرفة والفعل، واتخاذ القرار.
من جانبها، قامت المديرة العامة للمركز د. هنيدة غانم، بتقديم ملخص للتقرير، مؤكدة أن واجب "مدار" يتمثل في تقديم المعرفة، على أمل أن يستفيد منها صانع القرار.
يذكر أن تقرير "مدار" الاستراتيجي يصدر للعام الـ(13) على التوالي، حيث يضم إلى جانب الملخص التنفيذي ستة محاور هي: إسرائيل والمسألة الفلسطينية، المشهد السياسي الداخلي، مشهد العلاقات الخارجية، المشهد العسكري والأمني، المشهد الاقتصادي، المشهد الاجتماعي، والفلسطينيون في إسرائيل.
ويعدّ التقرير طاقم من الباحثين المتخصصين في الشأن الإسرائيلي، وقد حررت إصدار العام الحالي الواقع في 300 صفحة، د. هنيدة غانم، وأعدّه كل من: عاطف أبو سيف، مهند مصطفى، وانطوان شلحت، ود. عاص أطرش، ونبيل الصالح، وهمت زعبي.
سائد أبو فرحة

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف