لم يشغلني يومًا التفكير في ثقافة شعبنا المنعكسة عبر مطبخه. كنت أعي أنّ حفاظنا على هويّتنا يتضمّن اهتمامنا بالمحافظة على أطباقنا الشعبيّة والتراثيّة، فبعيدًا عن الصراع العربيّ الإسرائيليّ الذي شهد عليه العالم لسنوات، وبعيدًا عن الأرض التى سُرقت بقوّة السلاح، ثمّة الكثير والكثير من الأشياء التراثيّة التي وضعت إسرائيل يدها عليها ونسبتها لنفسها، من ضمنها أحد أشهر المأكولات الفلسطينيّة والعربيّة، الفلافل، الذي تعمل على الترويج له بصفته طبقًا إسرائيليًّا، وذلك بكلّ السبل المتاحة.
سمك يافا وقِدْرَة الخليل
انطلق اهتمامي بمطبخنا وثقافته مع بدء تصوير حلقات برنامج 'معزوم في فلسطين'، الذي تنتجه شركة 'الديار' في حيفا، ويعرضه 'التلفزيون العربيّ' أسبوعيًّا، منذ عام تقريبًا.
يعتمد البرنامج على تجوالنا بين بلداتنا الفلسطينيّة، لنقدّم في كلّ حلقة أكلة تراثيّة من إحدى البلدات، تشتهر بها، محاولين الربط بين الطبق والمكان؛ أهله، وثقافته، وتاريخه.
جال 'معزوم في فلسطين' خلال حلقات موسمه الأوّل بلادنا من شمالها حتّى جنوبها، فتذوّقنا الكبّة في ترشيحا، والزرب في ياصيد، مرورًا بطبقالقِدرة الخليليّ، فكعك القدس الشهير، حتّى الأطباق البحريّة المتنوّعة في حيفا ويافا.
درس الانتفاضتين
خلال كواليس التصوير، عرفت من ضيوفي قصص أطباقهم المتوارثة، وأسرار النكهات التي يحملها كلّ طبق، وفهمت مدى ارتباط المكان بالأكلات التي تميّزه. في ياصيد مثلًا، إحدى القرى الواقعة قضاء مدينة نابلس، طوّرت النساء قدراتهنّ على تحضير كلّ ما تحتاجه الأسرة من غذاء، اعتمادًا على نتاج الأرض والحيوانات البيتيّة، ابتداءً من الخبز حتّى طبق الحلويّات، مثل القراقيش وأقراص الحلبة، والتي تُعدّ على مدار يومين، من العجن حتّى الخبز.
عند سؤالي للسيدة أمّ محمّد التي قابلتها هناك، عن سبب بذلهنّ كلّ هذا الجهد لإعداد أصناف يمكن جلب بعضها من السوق جاهزًا للطهي، ما سيوفّر الوقت ويقلل التعب، أجابتني أنّ ظروف الحياة خلال فترة الانتفاضة الأولى، ومنع التجوّل، والحواجز التي فرضتها إسرائيل على منطقتهم، لم تترك لهنّ خيارًا آخر في حينه، فاعتمدن على أنفسهنّ لتأمين طعام الأسرة. ومع تكرار التجربة خلال الانتفاضة الثانية، راحت النساء في البلدة يعتمدن على أنفسهنّ في تحضير مأكولات العائلة، من ألفها حتّى يائها، مهما تطلّب الأمر من جهد وتعب، مشيرة إلى أنّ تحضير الأطباق تحوّل مع مرور الوقت من مشقّة إلى متعة، ولا يمكن الاستغناء عنها عادة.
كعك القدس - من إحدى حلقات 'معزوم في فلسطين'
لا يقع تحضير الطعام في ياصيد على عاتق النساء وحدهنّ، بل يشاركهنّ في ذلك الرجال الذين لهم دور بارز في تحضير عدد من الأطباق، منها الزَّرْب الذي ذكرته سابقًا، وهو طبق يتكوّن من الأرز واللحم، لكنّ طهوه يكون تحت الأرض، داخل حفرة يوضع الأكل فيها، ويظلّ محاطًا بالنار مدّة لا تقلّ عن ساعتين لضمان نضجه. وهنا يأتي دور الرجل الذي يأخذ على عاتقه مهمّة إدخال الطبق إلى الحفرة، وإشعال النار، ومتابعة العمليّة حتّى نضج الطعام. وهي مهمّة تتطلّب دقّة وقوّة بدنيّة أيضًا، لرفع القدور من الحفرة الملتهبة بالتوقيت والطريقة المناسبين.
أطباق عبر الحدود
بعد زيارتنا نابلس، توجّهنا نحو شمال بلادنا، وتحديدًا إلى ترشيحا، حيث يتداخل مطبخ شمال فلسطين على نحو واضح مع مطابخ بلاد الشام الشماليّة، بسبب التواصل الكبير الذي كان قائمًا قبل تقسيم سوريّة والنكبة، فهناك العديد من الأطباق المشتركة بينها، مثل التبّولة والحمّص.
في ترشيحا القريبة من حدود لبنان الجنوبيّة، تذوّقنا الكبّة التي تميّز المنطقة هناك، وقد أوضح لنا أهل البلدة أنّ العلاقة التاريخيّة بين سكّان جنوب لبنان وشمال بلادنا، خلقت العديد من النكهات المشتركة، الكبّة أبرزها، وهي مزيج من اللحوم والتوابل، تحضّر على عدّة أشكال، مثل:الكبّة النيّة، والكبّة بالصينيّة.
قِدْرة الخليل - من إحدى حلقاءت 'معزوم في فلسطين'
خلال تجربتي مع 'معزوم في فلسطين'، عرفت أنّ وجبات مشتركة عديدة بين مناطق فلسطين كافّة، مثل المنسف، والذي يرى البعض أنّ منشأه كان لدى البدو في شرق الأردنّ، وكذلك المسخّن (المحمّر كما يسمّى في شمال البلاد)، الذي يعدّه البعض الأكلة الشعبيّة الرسميّة في فلسطين، ويتبعه طبق المقلوبة المنتشر في مختلف أنحاء البلاد، والذي يحظى بشعبيّة واسعة.
لم نتمكّن حتى الآن من زيارة قطاع غزّة للأسف، بسبب الحصار الذي يعاني منه منذ سنوات، غير أنّ لغزّة أطباق تميّزها، وبعضها يحمل تأثيرًا بارزًا من المطبخ المصريّ، ومن موقعها على ساحل البحر المتوسّط، فالغذاء الرئيس للغالبيّة العظمى من سكّان المنطقة السمك، والصناعة الرئيسة في غزّة صيد الأسماك، وغالبًا ما تكون مشويّة أو مقليّة. وتتّسم الأطعمة في غزّة بإضافة الثوم والفلفل والكمّون وبهارات أخرى، ويظهر التأثير المصريّ أيضًا في الاستخدام المتكرّر للفلفل الحارّ والثوم، والطبق الوطنيّ لمنطقة قطاع غزّة هو السمّاقيّة.

بعد زيارة أكثر من 20 بلدة فلسطينيّة، وتذوّق نكهاتها المميّزة، بتّ أعي أهمّيّة الحفاظ على هذا التراث العظيم وحفظه من الزوال أو السرقة، فلكلّ نكهة هنا قصّة، ولكلّ طبق تاريخ يربطنا بهذه الأرض أكثر، ويؤكّد عمق علاقتنا بها، وسبل تكيّفنا مع مختلف الظروف التي عاشتها عبر التاريخ.
مصطفى قبلاوي/عرب 48

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف