إذا كان الدارسون والنقاد يشيرون إلى أدباء المهجر في الولايات المتحدة على أنهم أصحاب الفضل في إنارة الأدب العربي وتحديثه، وفتح آفاقه على تجارب جديدة في الآداب الغربية، فإنهم، من دون شك، حصروا هذا الأدب في حدود جغرافية ضيقة، وضيعوا أمامه فرصة الانفتاح على آفاق أوسع والاحتكاك بتجارب أخرى لا تقل أهمية عن تجارب الرابطة القلمية وروَّادها.
فبمجرد العودة إلى البدايات، نجد التاريخ يتحدث عن عوامل كثيرة عرفتها البلدان العربية، دفعت بالعديد من الأسر والأفراد إلى الهجرة نحو بلدان أخرى أكثر أمانا واستقرارا، مثل القارة الأمريكية بشقيها الجنوبي والشمالي، والتي كانت الوجهة المثلى للوافدين من سورية ولبنان وفلسطين.
هؤلاء الذين أجبرتهم الظروف على التأقلم والاندماج في ثقافات غير ثقافتهم، أفادوا من ازدواجية الانتماء فأبدع بعضهم بلغته الأصل، في حين آثر آخرون أن يبدعوا بلغات بلدان إقامتهم، لكن دون أن ينزووا بعيدا عن ثقافتهم وهويتهم العربية.
محفوظ مصيص (1916-1990)، واحد من هؤلاء، وشاعر من بين أزيد من ثمانية أدباء تشيليين يتحدرون من أصول فلسطينية، لكنهم، وبسبب النشأة والمولد وظروف التربية والتكوين، أصبحوا يكتبون باللغة الاسبانية بدل العربية.
لقد ألَّف محفوظ مصيص تسعة دواوين شعرية ومجموعة قصصية وكتاب نصوص نثرية وأنطولوجيا شعرية جمع فيها معظم ما كتبه ما بين سنتي 1942 و1988، وبمجرد التمعن في عناوين بعض هذه الأعمال من قبيل: احوش الألمب وبعين العاصفةب وبأحلام كايينب (قصص) وبمرثية تحت الأرضب وبترنيمات الديك الأسودب وبكتاب النجوم المطفأةب وبأساطير المسيح الأسودب وبنوَّاح المنفِيِّ' ندرك قوة هذا الشاعر في استخدام التيمات والعناوين غير المألوفة وذكاءه الحاد المتجلي في إثارة الفضول واللعب على أوتار الاستعارة والترميز.
لقد كانت أعمال مصيص على الدوام مدار جدل بين النقاد والقراء في تشيلي، إذ كان شعره ثوريا بامتياز يعكس واقع الإنسان المعذب بكل تجلياته ويزيل النقاب عن كثير من أمور الحياة والهوية والوجود من خلال رموز غالبا ما تميل ظاهريا إلى السواد أو تدنو من عوالم النحس والشؤم، لكنها في الواقع رموز صادقة ومحمَّلة بحقيقة الإنسان وماهيته.
لعل ازدواجية مصيص الثقافية، وإطلاعه الواسع على ثقافات وأساطير التاريخ والأديان جعلت نصوصه تتميز بالبعد الكوني والجمع بين حضارات الشرق والغرب والإبحار في عوالم الروح والجسد والحياة والموت والخير والشر والحب والكراهية... فها هو، رغم البعد الذي يفصله عن بلده الأصلي، يغير اسمه من انطونيوب إلى محفوظ وينظم أشعارا عن الحنين و الرغبة في العودة إلى فلسطين:
أبتاه،
لقد زجوا بي في هذا الجُبِّ
هنا اللبلاب فقط
لا عنبر ولا ربّ يمكنه انقاذي
أنا الذي خُلقت من أول عظامك
في أمريكا الفقر هاته
لم أستطع فهمك
لعلك كنت تسأل
لماذا نحن هنا
وتركنا فلسطين بعيدا؟
أنا وحدي
أريد أن أبكي
أريد أن أقول
إذا أمكنني:
لنذهب معا إلى فلسطين
لكنها هي أيضا لم يعد لها وجود
وأنا وأنت لا ندري إلى أين نمضي.
إن محفوظ مصيص وغيره من أدباء المهجر بأمريكا الجنوبية من أمثال خورخي غارسيا أوسطا وأندريس سبيلا وفريد نصار وأولغا لولاس وآخرين ليعدون تيارات مختلفة وتجارب بديعة في مشهد الأدب العالمي، ونحن اليوم، باعتبار اننا معنيون أكثر بإبداعاتهم، مطالبون بمعرفتهم ولم لا نقل كتاباتهم إلى اللغة العربية ودراستها.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف