«أنت لا تستطيع أن تدخل الى النهر ذاته مرتين»، هذا ما كتبه الفيلسوف اليوناني هركليتوس في القرن الخامس قبل الميلاد. يبدو أنه ليس هناك الكثير من وزراء حكومة اسرائيل وجدوا الوقت من اجل قراءة هذه الجملة القصيرة واستيعاب معناها بخصوص مستقبل الضفة الغربية. ويبدو أنهم يؤمنون بأن الضم من أجل مشروع الاستيطان هو أمر غير مشكوك فيه.
عدد منهم يؤسسون إيمانهم على اعتباره استكمالاً لمرحلة «بداية الخلاص» للحتمية الواردة في نظرية الحاخام كوك، الذي كتب في لندن في العام 1917 بخصوص وعد بلفور: «كل شخص يمكنه النظر الى ما هو موجود خلف المظاهر الخارجية الظاهرة للعيان سيرى أن يد الله هي التي تقود التاريخ، ومن شأنها أن تقود هذه العملية إلى نهايتها». ولكن الأغلبية ما زالوا يؤمنون بأن نجاح دولة اسرائيل في الحصول على الاعتراف الدولي بضم «المناطق» المحتلة في «حرب الاستقلال» سيكرر نفسه ايضا بالنسبة للضفة الغربية التي احتلتها في حرب «الايام الستة». أو على الاقل هم يؤمنون بأن العالم سيصمت ويعتاد على واقع الاحتلال. ولكن الامر ليس هكذا.
الهدف السياسي للحفاظ على «المناطق» التي احتلت من قبل اسرائيل في «حرب الاستقلال» وخصصت في قرار التقسيم للدولة العربية – عن طريق وضع حقائق غير قابلة للرجعة على الارض والتي اساسها تغيير الميزان الديمغرافي لخلق هيمنة في المجال – تم تحقيقه في ظل ظروف اساسية مختلفة، وحتى أنها مختلفة عن تلك الموجودة في الضفة الغربية منذ العام 1967. إن قلة الفهم التي تظهرها حكومة اسرائيل بخصوص الفروقات بين الظروف القائمة اليوم والظروف التي سادت في العام 1949 – من خلال تجاهل الواقع والعوامل الضاغطة على أمل أن يكرر التاريخ نفسه وخلق واقع مرغوب فيه، تقود الى تحقيق ذلك الهدف السياسي ذاته – هي وصفة مؤكدة للانزلاق نحو الكارثة. المقارنة بين الظروف التي سادت في 1949 والظروف اليوم لا تترك أي مجال للشك.
أولا، موقف النظام الدولي. في 1949 كان تأييد النظام الدولي لاسرائيل وخطواتها بسبب عوامل كثيرة: الكشف عن فظائع الكارثة، التي أثارت الشعور القوي بالذنب في دول كثيرة؛ موافقة «اليشوف» اليهودي على قرار التقسيم (181)، المدعوم من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وفي المقابل رفضه من العرب في «ارض اسرائيل» وفي العالم العربي؛ قيام العرب بشن الحرب من اجل الغاء قرار التقسيم، خلافا لتحذيرات الامم المتحدة؛ رؤية الامم المتحدة التي قالت إن اتفاقات الهدنة التي وقعت في العام 1949 هي القاعدة لاتفاق السلام في المستقبل، والتي سيتم فيها تحديد الحدود الدائمة؛ والأهم من ذلك حقيقة أن اسرائيل تم اعتبارها من قبل النظام الدولي دولة تحب السلام والمصالحة، وتحارب من أجل وجودها الطبيعي مقابل الرفض العربي المستمر للاعتراف بها والتوقيع على اتفاقات سلام معها. ورغم ذلك، الواقع السياسي الدولي منذ العام 1967 مختلف تماما: إن صيغة «الارض مقابل السلام» لتسوية النزاع (حسب قرار مجلس الأمن 242) وضعت وتمت الموافقة عليها من جميع الاطراف، بما في ذلك اسرائيل. لقد وقعت مصر والاردن على اتفاقات سلام مع اسرائيل، وهما تحرصان على احترامها منذ عشرات السنين؛ والجامعة العربية تعود وتصادق منذ 15 سنة على مبادرة السلام العربية التي ترتكز الى القرار 242؛ و»م.ت.ف» اعترفت باسرائيل بقرار 242 و338، وهي تحظى الآن بمكانة دولة مراقبة في الامم المتحدة؛ وأخيرا، اسرائيل تعتبر في نظر الرأي العام العالمي رافضة للسلام، وتُخل بصورة فظة بالمواثيق الدولية عن طريق عمليات الاستيطان في الضفة الغربية وشرقي القدس.
ثانيا، الميزان الديمغرافي – المناطقي. نجاح اسرائيل في الحصول على اغلبية يهودية وسيطرة على المكان بعد «حرب الاستقلال» استند الى أن 711 ألف فلسطيني (أكثر من نصف عرب «ارض اسرائيل» الانتدابية) تحولوا الى لاجئين، ولم يعودوا الى اسرائيل عند انتهاء الحرب. أكثر من 400 قرية فلسطينية هجرت وتم تخريبها. وشهدت اسرائيل في سنواتها الاولى موجات هجرة كبيرة للناجين من الكارثة في اوروبا ويهود الدول العربية وايران والعراق، والتي قلصت نسبة العرب في الدولة الشابة الى 16 في المئة فقط. في المقابل، في «حرب الايام» الستة كان عدد اللاجئين الفلسطينيين أقل بكثير، 250 ألف شخص، واغلبية السكان العرب بقوا في بيوتهم، باستثناء قرى معدودة تم تدميرها، حيث بقيت القرى الاخرى كما هي واستمرّ سكانها في فلاحة اراضيهم. منذ العام 1967 شهدت اسرائيل موجة هجرة كبيرة واحدة فقط، في التسعينيات، من دول الاتحاد السوفييتي السابق. وفي السنوات الاخرى كانت الهجرة قليلة واحيانا كان ميزان الهجرة سلبيا. توقعات الهجرة المستقبلية في مكتب الاحصاء المركزي في العقود القادمة هي صفر.
ثالثا، مكانة «المناطق». بعد «حرب الاستقلال» مباشرة طبقت اسرائيل القانون والقضاء والادارة الاسرائيلية على «المناطق» التي احتلتها بوساطة أوامر وقع عليها وزير الدفاع. وفي المقابل، منذ احتلال الضفة الغربية في 1967 امتنعت اسرائيل عن تطبيق القانون والقضاء والادارة الاسرائيلية على هذه المناطق باستثناء 70 كم مربعا تم ضمها للقدس الغربية فور انتهاء حرب «الايام الستة»، في حين أن العملية التي تمت في 1949 قبلت من المجتمع الدولي، فان ضم شرقي القدس في العام 1967 وضم هضبة الجولان في 1981 رفضت بشدة من قبله. هناك تأثير اساسي لمكانة «المناطق» على العاملين التاليين:
رابعا، مكانة السكان العرب. في 1949 منحت اسرائيل المواطنة الكاملة للسكان العرب في «المناطق» التي احتلتها. هذا الاجراء عزز مكانتها كدولة ديمقراطية تمنح المساواة الكاملة في الحقوق لكل مواطنيها، طبقا لوثيقة الاستقلال (رغم أنه فعليا كان هناك تمييز ضد «عرب اسرائيل»). في المقابل، تم حرمان الفلسطينيين في الضفة الغربية منذ العام 1967، من الحقوق الجماعية لتقرير المصير، وكذلك من حقوق المواطن الاساسية. إن اقامة السلطة الفلسطينية لم تقدم الرد على ذلك لأن السلطة لا توجد لها صلاحية كاملة بخصوص العلاقات الخارجية، الامن الخارجي، والاقتصاد، وهي لا تسيطر على 60 في المئة من مساحة الضفة الغربية وعلى ربع السكان فيها (في شرقي القدس ومناطق ج). والاخطر من ذلك أن اسرائيل تطبق في الضفة الغربية نظامي قضاء مختلفين، لليهود والعرب.
خامسا، مكانة الاراضي. بعد «حرب الاستقلال» نقلت اسرائيل الى سيطرتها اكثر من 4 ملايين دونم من الاراضي الزراعية وآلاف الدونمات من الاراضي البلدية عن طريق سن قانون املاك الغائبين (بوساطة سلطة التطوير في 1951 وسلطة اراضي اسرائيل في 1960)، وقامت اسرائيل ايضا بمصادرة الكثير من الاراضي المملوكة للقرى العربية التي بقيت تحت سيادتها، في اطار الحكم العسكري الذي فرض عليها حتى كانون الاول 1966. هذه الاراضي تم تخصيصها لمستوطنات قائمة ومن اجل اقامة حوالي 300 مستوطنة يهودية جديدة حتى العام 1967. في المقابل، منذ 1967 قررت محكمة العدل العليا أن «النظام القضائي الذي يسري على هذه المناطق (الضفة الغربية وقطاع غزة)، محكوم بالقضاء الدولي العلني الذي يتناول الرؤية القتالية (ميثاق هاغ وميثاق جنيف الرابع). بناء على ذلك، لا يمكن لدولة اسرائيل مصادرة اراض خاصة من اصحابها الفلسطينيين من اجل اقامة مستوطنات، منذ 1979 (قرار محكمة العدل العليا في قضية الون موريه). ولا يمكنها وضع اليد عليها بأمر عسكري لهذا الغرض (اذا تمت المصادقة على قانون «التسوية» فان الوضع سيتغير).
سادسا، موقف الجمهور اليهودي في دولة اسرائيل. بعد «حرب الاستقلال» ساد اجماع كامل في كل الاحزاب الصهيونية بخصوص مستقبل المناطق التي تم احتلالها. المستوطنون الأوائل، خلال الحرب نفسها، كانوا أبناء الكيبوتسات والحاضرات الذين استفادوا من زيادة كبيرة في الاراضي التي تم وضعها تحت تصرفهم. المهاجرون في الخمسينيات والستينيات اعتبروا المستوطنات التي أنشئت من اجلهم بيتهم الجديد. الشعور بالعدل بسبب العداء العربي في «حرب الاستقلال» والتهديد الامني الذي واجههم من العالم العربي بعد الحرب، عمل على توحيد المجتمع اليهودي في اسرائيل. بعد حرب «الايام الستة»، من المفاجئ الاشارة الى أنه بالنسبة لقطاع غزة كان هناك اجماع كامل من قبل حكومة اسرائيل على ضمه بعد أن يتم اسكان اللاجئين الموجودين في القطاع خارج حدوده. وبالنسبة للضفة الغربية كانت الآراء مختلفة، بدءاً من تأييد الضم وحتى اعادتها للاردن في اطار اتفاق سلام. الآن يوجد شرخ عميق في المجتمع اليهودي فيما يتعلق بمستقبلها. اكثر من النصف بقليل من اليهود – الاسرائيليين يؤيدون حل الدولتين، والباقون يعارضونه. الكثيرون يعتبرون مشروع الاستيطان عملية تدميرية تعيق العملية السياسية، والأخطر من ذلك تهدد الهوية الاسرائيلية والنظام الديمقراطي في اسرائيل واستمرار بقائها كمجتمع موحد.
حتى العام 1967 نجحت اسرائيل في تشكيل الواقع في «المناطق» المحتلة في «حرب الاستقلال»، وأن تؤسس فيها اغلبية وسيطرة يهودية، باستثناء منطقة وادي عارة والجليل وجزء من النقب الشمالي – الشرقي. قرار مجلس الامن 242 في اعقاب انتصار اسرائيل في 1967 اعترف ضمنيا بـ «المناطق» المحتلة في العام 1949 كجزء من «ارض اسرائيل»، واشترط اتفاق السلام مع الدول العربية بدون الفلسطينيين بانسحاب اسرائيل فقط من «المناطق» التي احتلت في حرب «الايام الستة». اذا كان الامر كذلك فان الهدف السياسي للحفاظ على «المناطق» المحتلة في «حرب الاستقلال» تم تحقيقه بعد 19 سنة، وذلك بفضل الفرصة التي سنحت بها حرب «الايام الستة».
في المقابل، رغم جهود الاستيطان لمدة خمسين سنة منذ حرب «الايام الستة»، إلا أن الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية بعيد جدا عن تحقيق الهيمنة الديمغرافية أو المناطقية. فنسبة العرب في الضفة الغربية ما زالت تبلغ 82 في المئة، وفقط 11 في المئة من المستوطنات يبلغ عدد السكان فيها أكثر من 5 آلاف نسمة، وليس هناك في الضفة زراعة أو صناعة اسرائيلية مهمة، و»الكتل الاسرائيلية» التي توجد فيها هيمنة يهودية ديمغرافية ومناطقية تمتد بصعوبة على مساحة 4 في المئة من اراضي الضفة الغربية. المجتمع الدولي، بدون استثناء، لا يعترف بشرعية الاستيطان أو ضم شرقي القدس. في 29 تشرين الثاني 2012 اعترفت 138 بدولة بفلسطين في حدود 1967 كدولة مراقبة في الامم المتحدة. المرونة الوحيدة والمهمة في هذا المجال من جانب المجتمع الدولي والجامعة العربية والفلسطينيين هي في الموافقة على فكرة تبادل المناطق، 3 – 4 في المئة، والتي ستمكن اسرائيل من ابقاء معظم الاسرائيليين الذين يعيشون خلف الخط الاخضر في منازلهم وضمهم الى اسرائيل، مقابل مناطق بالمساحة ذاتها ستقوم اسرائيل بنقلها للفلسطينيين.
إن مشروع الاستيطان الاسرائيلي سينجح في تشكيل الحدود الشرقية لدولة اسرائيل اذا تم التوقيع على الاتفاق الدائم، لكنه لن ينجح في اضافة أي دونم الى اراضيها. استمرارا لفكرة هركليتوس، فان مناطق 1949 ليست مناطق 1967. ايضا اسرائيل والنظام الدولي والعالم العربي والفلسطينيون ليسوا كما كانوا في 1949. ومن اجل أن تبقى اسرائيل هي اسرائيل، ديمقراطية مع أغلبية يهودية، يجب عليها تغيير مواقفها وملاءمتها مع التغيرات التي حدثت. وبقدر فهم واستيعاب هذه الفكرة من قبل الحكومة الاسرائيلية والمجتمع الاسرائيلي، سيوفرون سفك الدماء والموارد للطرفين الى حين الانفصال الحيوي لكليهما.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف