في السادس من كانون الأول 2017 ومن أمام شجرة عيد ميلاد السيد المسيح أعلن الرئيس الأميركي "ترامب" اعتراف إدارته رسميا بمدينة القدس عاصمة إسرائيل مقدما المدينة المقدسة هدية عيد ميلاد مبكرة ليهود إسرائيل الصهيونيين الأشد عداءً للمسيحية والذين لا يزالون للآن يتفاخرون بصلب السيد المسيح ولا يؤخرون أي فرصة لإهانة كل كاهن مسيحي يسير في شوارع القدس. كما أعلن أيضا رغبة إدارته بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب الى القدس.
هذه الإدارة الأميركية، التي تطالب جميع الدول باحترام وبتطبيق قرارات منظمة الأمم المتحدة وتحارب كل بلد يقوم بمخالفة هذه القرارات، تقوم الآن نفسها بمخالفة قرارات هذه المنظمة المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي عندما فرض الرئيس الأميركي إعترافه المتحيز لإسرائيل على الطرف الفلسطيني وبالتالي على جميع منطقة الشرق الأوسط.
قرار الكونغرس الأميركي عام 1995 الذي ذكره الرئيس "ترامب" بنقل السفارة الأميركية الى مدينة القدس، واعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل معتمدا على هذا القرار يخالفان قرار مجلس الأمن رقم 478 لعام 1980 الذي ينص على أن يُترك تقرير مصير مدينة القدس الى المراحل الأخيرة من مفاوضات السلام بين الطرفين.
أعلن الرئيس "ترامب" أننا لم نصل الى اتفاقية سلام دائم حتى بعد عقدين من الزمن من مفاوضات السلام ، غاضا النظر عن أن سبب ذلك هو العناد الإسرائيلي واستمرارهم في إنشاء المستعمرات غير القانونية على أراض فلسطينية مسلوبة، في حين قدم الفريق الفلسطيني المفاوض كل التنازلات من أجل إنجاح هذه المفاوضات. لذلك خرج علينا "ترامب" ليعلن "نهجه الجديد" بمنح الإسرائيليين "الحق في اختيار عاصمتهم" لأن إسرائيل "دولة ذات سيادة مستقلة"، بينما أنكر هذا الحق على الفلسطينيين ناكرا أيضا أي سيادة لهم على أنفسهم. وقد علل قراره هذا بأنه مجرد إعتراف لحقيقة واقعية، ألا وهي حقيقة الاحتلال الإسرائيلي.
وفي محاولة ربما لاسترضاء ولتهدئة غضب وخيبة أمل وإحباط زعماء العالم بمن فيهم زعماء العرب الذين نصحوه بشدة بعدم اتخاذ هذه الخطوة ، كرر لهم "ترامب" بصوتٍ بطيء ومؤكدٍ تعهد والتزام إدارته، الفارغ من كل المعاني، بتحقيق سلام شامل عندما قال ما معناه "الأمر الذي يجب أن يكون واضحا جدا هو أن هذا الاعتراف لا يلغي إلتزامنا الجدي لمساعي تحقيق سلام شامل يرضي الطرفين". هذا الإعتراف يقضي على كل إمكانية لتحقيق اتفاق سلام، هذا إذا كان هناك أي احتمال أصلاً بالوصول الى اتفاق سلام. إعتراف "ترامب" الآن أنهى مفاوضات السلام رسمياً ، وقضى على حل الدولتين الذي يدعي تمسكه به والذي لم يكن أصلا أي أمل في تحقيقه.
تزوير "ترامب" أو إنكاره أو ربما جهله للتاريخ وللوقائع الحالية ظهر واضحاً عندما أعلن أن "القدس الآن هي مركز لواحدة من أنجح الديمقراطيات في العالم أجمع". يظهر أن "ترامب" يعتبر الإحتلال الصهيوني بمجازره وتطهيره العرقي للفلسطينيين، وإضطهاده للحريات الدينية بعدم السماح للفلسطينيين بالوصول الى أماكنهم الدينية، وحتى اضطهاد إسرائيل لمواطنيها السود الأثيوبيين، ديمقراطية ناجحة. ربما ينعكس هذا على الديمقراطية الأميركية نفسها.
ويظهر جهل "ترامب" بالتاريخ عندما أعلن أن يهود الماضي أنشئوا مدينة "اورشليم" لتكون عاصمة لهم بينما الواقع هو أن الكنعانيين – أجداد فلسطينيي الحاضر – هم الذين بنوا مدينة "أور – سالم"؛ مدينة السلام. وما على "ترامب" سوى مراجعة كتاب العهد القديم أصحاح التكوين سفر 14: 18-20 الذي ينص على أن الكنعاني الكاهن الأعظم "ملكيصادق" ملك مدينة سالم خرج من المدينة حاملا خبزا ونبيذا لمقابلة الكلداني "أبرام" ورسمه عضوا في منظمة "الإخوة البيضاء" الباطنية التي عُرف أعضاؤها فيما بعد بالإسينيين قرب البحر الميت.
أعلن "ترامب" أنه يريد تحقيق "صفقة رائعة للإسرائيليين وللفلسطينيين". ألا يعلم أن مدينة القدس لبُ القضية الفلسطينية ومحور الصراع العربي والإسلامي ضد إسرائيل الصهيونية، وأنه إذا أخذ مدينة القدس منهم فإنه يفرغ القضية الفلسطينية من جوهرها؟ هذه الصفقة ليست رائعةً للفلسطينيين ولا للعرب ولا للمسلمين ولا في النهاية للإسرائيليين أنفسهم. إنها صفقة خطيرة للجميع.
قرار الرئيس "ترامب" هذا أظهر بوضوح لا شك فيه الاعتقاد الخاطئ بأن الإدارة الأميركية وسيطٌ نزيهٌ في مفاوضات السلام بين العرب وإسرائيل. الحقائق التاريخية أثبتت أن الإدارة الأميركية كانت دائما ولا تزال الشريك الفعال في الجرائم الإسرائيلية في المنطقة منذ تأسيس هذا الكيان الصهيوني. واعتراف "ترامب" بالقدس عاصمة لإسرائيل يؤكد هذه الحقيقة ويجيء حاليا إعلان حرب جديدة بإسرائيل كخط أمامي ضد الفلسطينيين بشكل خاص وضد العالمين العربي والإسلامي بشكل عام. إنه وعد بلفور جديد.
بإعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل يعطي "ترامب" إسرائيل حقاً شبه قانوني بدون أي إعتراض لعمل ما يريدونه في المدينة. وهذا يعني المزيد من التوسع الإستيطاني غير القانوني على المزيد من الأراضي الفلسطينية المصادرة بدون أي إعتراض أو شجب دولي. ولم تضيع إسرائيل الوقت في هذا المجال إذ أعلنت قناة 12 للتلفزيون الإسرائيلي أن وزارة الإسكان الإسرائيلية وافقت على بناء 14000 وحدة سكنية جديدة في محيط ما أسموه مدينة القدس الكبرى، طبعا على أراض فلسطينية مغتصبة.
هذا أيضا يعني أن فلسطينيي القدس، مسيحيين ومسلمين، سيعانون من إجراءات قمعية مطلقة العنان. سيتم تدمير المزيد من البيوت الفلسطينية أو احتلالها بالقوة من قبل المتطرفين الصهيونيين. وسيُعتبر الفلسطينيون أقلية غريبة وستزداد عملية إخلائهم بالقوة من المدينة وسيتم اضطهادهم كما يُضطهد مسلموا "الروهينغا" في "مينمار" بدون أي حماية من المجتمع الدولي عدا عن الشجب المفرغ من المعاني. وسيصبح الفلسطينيون لإسرائيل "المشكلة الفلسطينية" كما كان اليهود "المشكلة اليهودية" في ألمانيا النازية.
أما الخطر الأعظم فسيأتي في ازدياد عمليات انتهاك حرم الأقصى من قبل اليهود الأصوليين المتعصبين تحت حماية جنود الإحتلال التي قد تؤدي الى تقسيم الحرم كما حدث في الجامع الإبراهيمي في مدينة الخليل، وأخيرا قد يتم هدم الأقصى بطريقة ما وتحت ظروف غامضة كمقدمة لبناء هيكل سليمان المزعوم. ومن الجدير بالذكر هنا - للتنبيه وللتذكير – أن عمليات التنقيب الأثرية التي قام بها علماء الآثار الإسرائيليين على مدى الخمسين سنة الماضية تحت الأقصى وما أسموه بجبل الهيكل لم تكشف عن أي أثر ولو ضئيل لوجود هذا الهيكل المزعوم.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا قام الرئيس الأميركي بهذا الإعتراف في هذا الوقت الحالي بينما تراجع كل الرؤساء قبله منذ عام 1995 عن هذا الإعتراف المخالف لقرارات الأمم المتحدة ؟ ما الذي شجع هذا الرئيس على تحدى الأمم المتحدة جمعاء وعلى إعلان حرب ضد العالمين العربي والإسلامي ؟
المتابع لمشروع إسرائيل الكبرى الصهيوني في قلب العالم العربي يدرك أن هذا المشروع يُطبق بالتدريج وعلى مراحل. فبعد احتلال فلسطين جاء ما لُقب تشويها بالربيع العربي من أجل قلب أنظمة حكم بعض الدول العربية. ثم جاءت مرحلة تدمير بعض الدول العربية القوية مثل العراق وليبيا وسوريا واليمن. ثم جاءت مرحلة تحويل الصراع العربي الإسرائيلي الى صراع ديني إسلامي سني/شيعي الذي خلقته الإدارة الأميركية وأيضا خلقت ومولت وسلحت المنظمات الإرهابية مثل داعش وأخواتها من أجل تدمير وتقسيم كامل منطقة الشرق الأوسط. وأخيرا ظهرت الى العلن عمليات التطبيع التي كانت تدور في الخفاء بين بعض الدول العربية مع إسرائيل التي هدفت الى تحويل الصراع العربي الإسرائيلي الى صراع عربي إيراني. والمرحلة الحالية هي مرحلة "إتفاقية العصر" بالإعلان عن مدينة القدس عاصمة إسرائيل والقضاء نهائيا على القضية الفلسطينية.
في مناخ كهذا لا يتوقع الرئيس الأميركي أي إعتراض جدي في اعلانه مدينة القدس عاصمة لإسرائيل. إنه يتوقع، كما قال في خطابه، بعض المظاهرات الشعبية التي سرعان ما تتلاشى خاصة بعد أن قام بالاتصال ببعض زعماء الدول العربية مثل محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية والملك عبدالله الأردني والسيسي الرئيس المصري، محذرا إياهم باحتواء هذه المظاهرات وسامحا لهم بالإعلان عن بعض الاحتجاجات السطحية الخالية من المعاني وبمطالبة الفلسطينيين بالعودة الى طاولة المفاوضات. ففي حين ألقت الإدارة الأميركية ضغوطات على الرئيس عباس بإصدار الكونغرس قرارا بتوقيف المساعدات المالية للسلطة الفلسطينية مدعين أن عباس يقدم معاشات لعائلات إرهابيين فلسطينيين كما هدد "ترامب" بإقفال مكتب منظمة التحرير في واشنطن، قام أمير السعودية محمد بن سلمان بتقديم إغراءات مالية لعباس لقبول "اتفاقية العصر".
لقد قلل "ترامب" من تقدير عزيمة الشعوب العربية ومن عزيمة الفلسطينيين في محاربة المشروع الصهيوني. إذ برغم قلة سلاحهم قاوم الفلسطينيون المنظمات الإرهابية الصهيونية كثيفة السلاح إبتداء من نكبة عام 1948 ومروراً بنكسة 1967 الى يومنا الحاضر حيث يواجه الشباب الفلسطيني بالحجارة يومياً جنود الاحتلال المدججين بمختلف أنواع الأسلحة.
اعتراف "ترامب" بالقدس عاصمة لإسرائيل نفخ حياة جديدة في القضية الفلسطينية. إذ تشب الآن مظاهرات شعبية ضد الإدارة الأميركية وضد الإحتلال الإسرائيلي في كل القارات وفي كل عواصم دول العالم مطالبين بإعلان مدينة القدس عاصمة أبدية للدولة الفلسطينية. كما طالبت الشعوب العربية والإسلامية حكوماتهم باستدعاء السفراء الأميركيين للتعبير عن رفضهم الشديد وعن إدانتهم لقرار "ترامب". معتبرين الإدارة الأميركية عدوا رئيسيا لهم طالبت هذه الجماهير بمقاطعة البضائع الأميركية وهي نفس السياسة التي تسارع الإدارة الأميركية بتطبيقها ضد منافسيها. وطالب المتظاهرون إقفال كل المكاتب الإسرائيلية الموجودة في بعض الدول العربية وبتوقيف كل عمليات التطبيع مع إسرائيل وإلغاء كل المعاهدات معها بما في ذلك معاهدة إوسلو الفاشلة. كما حثوا الحكومات العربية على دعم وتسليح كل حركات المقاومة الفلسطينية.
وقد أعرب كل من إيران وحزب الله عن استعدادهم لتقديم السلاح والخبرات القتالية لفصائل المقاومة في فلسطين. لقد أصبح واضحا لشعوب العالمين العربي والإسلامي أن المقاومة المسلحة هي السبيل الوحيد لتحرير فلسطين وأماكنها المقدسة. فإسرائيل والإدارات الأميركية لا يفهمون إلا لغة القوة المسلحة وليس الدبلوماسية في التعامل مع الآخرين. وها نحن نرى إيران وكوريا الشمالية مثلان أمامنا.
رغم أن إسرائيل لا تزال تحتل فلسطين إلا أن العرب هزموا الجيش الإسرائيلي ، الملقب بالجيش الذي لا يُقهر، عدة مرات. ففي أذار/مارس 1968 ألحق الجيش الأردني بالتعاون مع قوات منظمة التحرير هزيمة ساحقة بالجيش الإسرائيلي في معركة الكرامة شرق نهر الأردن. وفي تشرين أول/اكتوبر 1973 ألحقت القوات المصرية هزيمة نكراء لجيش الاحتلال حين قامت بتدمير خط "برليف" وكادت أن تحرر غزة لولا تدخل الولايات الأميركية. وفي عام 2000 أخرج محاربو حزب الله الجيش الإسرائيلي من لبنان يجرجر أذيال الفشل. وكذلك في عام 2006 أفشل حزب الله محاولة إسرائيل إعادة احتلال جنوب لبنان. كما فشلت القوات الإسرائيلية بتحقيق أهدافها الحربية ضد قطاع غزة أثناء عدوانهم عام 2008/2009 وعام 2014 رغم قلة الخبرة الحربية لمحاربي حماس. وعندما نذكر الخبرة القتالية التي اكتسبها الجيش السوري ومحاربو حزب الله في حرب السبعة سنين في سوريا ضد المظمات الإرهابية التي خلقتها أميركا وإسرائيل ندرك أن للعرب الآن الخبرة القتالية والأسلحة الكافية لهزيمة إسرائيل مرة أخيرة لتحرير فلسطين.
باعترافه القدس عاصمة لإسرائيل لم ينجح "ترامب" إلا بعزل الإدارة الأميركية على الصعيد العالمي فقد رفضت الأمم المتحدة قراره بالإجماع. كما أنه أعاد اهتمام العالم أجمع الى القضية الفلسطينية والى الاحتلال الإسرائيلي الوحشي مما أعاد لحمة الشعوب العربية والإسلامية في مواجهة أطماع الإدارة الأميركية الملقبة بالشيطان الأعظم. لم يفلح "ترامب" إلا بفتح أبواب الحروب والدمار على مصراعيها.
عندما يتشدق هؤلاء الزعماء عن دعمهم للسلام الشامل إنما يتحدثون حقيقة عن استمرارية حروب مدمرة.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف