جاء خطاب حالة الأمة الذي ألقاه الرئيس الأميركي "ترامب" يوم الثلاثاء 30 كانون الثاني مسرحية مسلية للغاية. "ترامب" الرئيس الأميركي الأقل شعبية التي تدنت الى 30% اعتلى المنصة متباهياً ليخاطب الشعب الأميركي . ورغم أن كلمات الخطاب قد اختيرت بدقة وأنه كان واضحاً أنه قد تم تلقين "ترامب" على أن يكون جدياً في خطابه إلا أنه لم يكن بوسعة إخفاء نرجسيته ومحاولة تعظيم شخصيته المتغطرسة . فقد خاطب جمهوره بذقن متعالية وبابتسامات هازئه وبالتصفيق لنفسه ودعوته للآخرين ، خاصة للجانب الديمقراطي من الحاضرين، للتصفيق له .
وما أثار سخريتي مراقبة الجمهوريين من الحضور يقفون ويصفقون بشدة تهليلا "لترامب" في نهاية كل جملة يقولها لدرجة أنني أيقنت أنهم سيكونون بحاجة الى علاج بالإبر الصينية لأيديهم بعد انتهاء الخطاب . أما الديمقراطيون فقد جلسوا بوجوه كئيبة ونظرات باهته بينما انشغل بعضهم بقراءة أو بإرسال رسائل تلفونية .
بدأ "ترامب" خطابه بتهنئة نفسه وإدارته على إنجازاتهم إستثنائية النجاح خلال السنة الماضية في خلق ملايين الوظائف الجديدة (شكراً لبيع الأسلحة الأميركية للسعودية ولكوريا الجنوبية ولليابان)، وفي تخفيض نسبة البطالة خاصة للمواطنين الأفارقة السود واللاتينيين (إدعاءات كاذبة قوبلت بوجوه صارمة لأعضاء الكونغرس السود)، وبالإرتفاعات غير الإعتيادية في أسعار البورصة الأميركية (وهي إرتفاعات إصطناعية لا بُد أن تُصلح نفسها وإلا سينهار السوق في فترة سنة ونيف القادمة) ، وبالإدعاء بالقيام بتصليحات لقوانين الضرائب في مصلحة المواطن البسيط (حيث خفض رسوم الضرائب على الشركات من 35% الى 21% بينما زاد رسوم الضرائب على الطبقة الوسطى الكادحة) وغيرها من الإنجازات الكاذبة التي سنتغاضى عن ذكرها في هذا المقال لكي نعالج لُبَّ موضوعنا الهام لنا في شرقنا الأوسطي .
لم يخجل "ترامب" من التصريح بأن الإعتراف بمدينة القدس عاصمة لكيان الاحتلال الإرهابي الصهيوني الإسرائيلي حقٌ مدني تتمتع به الولايات الأميركية المتحدة غاضاً الطرف عن أن هذا الإعتراف يعتدى على الحقوق المدنية للشعب الفلسطيني المواطن الأصلي للبلاد . إيمان "ترامب" الأعمى والمتعصب لفكرة إستثنائية الولايات الأميركية المتحدة (American Exceptionalism) قادته الى انتقاد قرار الدول الأعضاء في مجلس الأمم المتحدة بالتصويت ضد اعترافه هذا ، واعتباره اعترافاً مخالفاً لكل القوانين الدولية .
وقد تجلت غطرسة "ترامب" عندما طالب الكونغرس الأميركي بنص قانونٍ لمنح المساعدات الأميركية فقط الى الدول الصديقة للولايات الأميركية المتحدة التي تؤيد وتوافق على القرارت الأميركية في الأمم المتحدة وتوقف هذه المساعدات عن الدول المعارضة . وهنا يعترف "ترامب" ضمنيا أن هذه المساعدات تأتي كرشوات لهذه الحكومات لكي توافق على السياسات الأميركية . ومن المعروف أن هذه المساعدات الأميركية تُقدم الى الدول بشروط أن تُستثمر في مشاريع اقتصادية تصب في المصلحة الأميركية للسيطرة على الموارد الطبيعة لتلك البلاد ولا تخدم المصلحة الوطنية لها . فهي ليست منح كرمٍ بل وسائل استعمارية مغلفةً بغلافٍ انساني .
لقد تمادى "ترامب" في كذبه عندما ادعى أن التحالف العسكري الأميركي في منطقة الشرق الأوسط قد قضى على منظمات "داعش" الإرهابية بينما الواقع المعروف للجميع حول العالم أن التحالف السوري الروسي الإيراني وحزب الله هو الذي قضى على منظمات "داعش" التي أقامها وموَّلها وسلحها ، بما في ذلك الأسلحة الكيميائية ، كلٌ من أميركا وإسرائيل والسعودية وتركيا . ولا تزال القوات الأميركية للآن تنقذ من تبقى من محاربي "داعش" وتنقلهم الى أماكن آمنة لهم وتقوم بتدريبهم وتسليحهم مرة أخرى للمزيد من أعمال الإرهاب في المنطقة .
لقد ادعى "ترامب" أنه يعتبر هؤلاء الإرهابيين مثل "البغدادي" "محاربين أعداء enemy combatant" يجب ملاحقتهم وزجهم في سجون "غوانتانامو" . لقد تغاضى "ترامب" هنا عن الحقيقة المعروفة والمبرهنة بالصور أن السيناتور الأميركي "جون ماكين" كان الحاضن الرئيسي للإرهابي "البغدادي" حيث كان يدعمه بالمال وبالسلاح ، وبموافقةٍ من الرئيس السابق "أوباما" ومن أعضاءٍ من الكونغرس . وهنا أتساءل هل سيعتبر الرئيس "ترامب" كلا من "أوباما" والسيناتور "ماكين" وبعض أعضاء الكونغرس الأميركي كمحاربين أعداء وهل سيزجهم هم أيضاً في سجون "غوانتانامو" ؟
تفاخر "ترامب" أن أميركا أول من يقدم الدعم للشعوب المظلومة التي تناضل من أجل الحصول على الحرية والكرامة . وأعرب عن دعمه الشخصي للشعب الإيراني الذي خرج مؤخراً الى الشوارع احتجاجاً على ظلم حكومتهم مطالبين التغيير والحرية . ومن المعروف أن عدد هؤلاء المحتجين الإيرانيين كان قليلاً ، وكانوا مدفوعين من المخابرات الأميركية من أجل نشر الفوضى وقلب الحكم في البلاد في محاولة شبيهةٍ لانقلاب عام 1953 الذي قامت به المخابرات الأميركية حين أسقطت حكم الرئيس "محمد مُصَدِق" الذي تم انتخابه آنذاك ديمقراطياً . ولكن الشعب الإيراني أفشل هذه المحاولة حين خرجت جماهيرهم الحاشدة الى الشوارع في مساندةٍ واضحةٍ للحكومة الحالية . وفي خدمةٍ للكيان الإسرائيلي وانصياعاً لأوامر الصهيونية التلمودية العالمية طالب "ترامب" الكونغرس بمعالجة ما أسماه "بالخلل الأساسي" في اتفاقية إيران الذرية ، متجاهلاً حقيقة أن البرنامج الذري الإيراني برنامجٌ سلميٌ صادقت عليه الوكالة الدولية للطاقة الذرية عدة مراتٍ بعكس الأسلحة الذرية الإسرائيلية والبرامج الأميركية لتطوير ولتحديث أسلحتها الذرية .
لو كان هذا الدعم الأميركي ، ودعم "ترامب" الشخصي أيضاً ، للشعوب المظلومة دعماً صادقاً لقدموه للشعب الفلسطيني المظلوم الذي يحارب إحتلال الكيان الإسرائيلي الصهيوني الإرهابي لفلسطين خلال السبعين سنة الماضية من أجل الحصول على حريتهم ولاستعادة وطنهم . بدلاً من ذلك يزيد "ترامب" من الضغط السياسي على الفلسطينيين ويسحب الاشتراك المالي لمؤسسة إغاثة اللاجئين الفلسطينيين ليميتهم جوعاً وليزيدهم فقراً خدمة للكيان الصيهوني .
من أجل إعادة إحياء القوة الأميركية ومركزها العالمي في مواجهة الانظمة الظالمة والمنظمات الإرهابية ، ومن أجل مواجهة المنافسة الإقتصادية الروسية والصينية طالب "ترامب" الكونغرس بإنهاء حالة الروتين البطيئة في التمويل العسكري ، لأن بناء قوةٍ عسكرية لا مثيل لقوتها هو أكثر الوسائل فعالية في الدفاع حسب ادعائه . لذلك طالب "ترامب" الكونغرس بالقيام بعمليات تحديث وتطوير وبناء مخزون أسلحة نووية شديدة القوة والفاعلية لردع أي عمل عدائي . وهذه العمليات تخالف معاهدة الحد من الأسلحة النووية التي وقعت عليها الإدارة الأميركية عام 1968 .
ولا يسعنى هنا إلا أن أقارن بين الولايات الأميركية وبين كوريا الشمالية ، التي ليست عضواً في معاهدة الحد من الأسلحة النووية ، والتي تقوم بتطوير قدراتها النووية العسكرية لتكون رادعاً للتهديدات الأميركية المستمرة منذ الحرب العالمية الثانية ، والتي شملت حديثاً تهديد "ترامب" "بالدمار الكامل ، بالنار والغضب ، وبالزر النووي الأكبر" ، وكذلك تهديد الممثلة الأميركية في الأمم المتحدة "نيكي هيلي" التي هددت كوريا الشمالية "بدمارٍ نوويٍ كامل" . وأتسائل هنا مرة أخرى هل الإستثنائية الأميركية تعطي أميركا الحق في بناء أسلحةٍ نوويةٍ رادعةٍ ، حسب قولهم ، بينما تهدد دولاً أخرى بالدمار إذا حاولت القيام بنفس الشيء ؟
أنهى "ترامب" خطابه مستشهداً بالمؤسسين الأوائل لأميركا مثل "واشنطن" و "جيفرسون" الذين أقاموا هذا المكان الخاص ؛ أميركا ، في بحثهم عن الحرية . لقد تناسى "ترامب" ، أو ربما كان جاهلاً للتاريخ الأميركي، أن هؤلاء المؤسسين لأميركا كانوا أصلاً مجرمين خارجين عن القانون ، ومهاجرين غير شرعيين في القارة الأميركية ، وملاكي وقامعي عبيد أفارقة ، وسفاحي سكان أميركا الأصليين (الهنود الحمر) وسارقي أراضيهم.
قوبل خطاب "ترامب" بالتصفيق الحاد وبالتهليل وبهتافات “U S A” لعدة دقائق . مع سماع هذه الهتافات والأخذ بالحسبان نداءات "ترامب" بإعادة بناء "عظمة أميركا" و "أميركا أولاً" لم يسعني إلا أن أتذكر هتافات ألمانيا النازية التي نادت بـ"ألمانيا فوق الكل".

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف