لا يوجد شيء كهذا في العالم. الطريق المسدود للعملية السلمية بيننا وبين الفلسطينيين يؤدي من حين الى آخر الى طرح افكار خلاقة في محاولة لإحداث اختراق. هذه الافكار تكون احيانا ابداعية، لكنها تكون في احيان اخرى بلا جدوى وحتى خيالية. أحد هذه الافكار التي طرحت، مؤخراً، من الجانب اليساري والجانب اليميني للنظام السياسي، هو حل النزاع من خلال اقامة كونفيدرالية إسرائيلية - فلسطينية. في اليسار هناك من يرون في ذلك حلا سحريا، يتغلب على العقبات أمام حل الدولتين، في حين أنهم في اليمين يأملون أن يحلوا بوساطته الحاجة الى اخلاء المستوطنات. أحيانا هذه الفكرة مغلفة بمفاهيم تسحر القلب، مثل «دولتان ووطن واحد». احيانا يبدو أن من يطرح افكارا كهذه لا يعرف حقا ما هي الكونفيدرالية وبماذا تختلف عن الفيدرالية: هذه ليست صيغا شكلية في قواعد اللغة، بل ثمة فروق جوهرية.
الولايات المتحدة وألمانيا دولتان فيدراليتان: الفيدرالية هي دولة موحدة مع ادارة مركزية وقانون واحد وجيش واحد، تتصرف كوحدة واحدة في علاقاتها الخارجية. وهذا يتمثل بأنه يوجد لها ممثلية دبلوماسية واحدة في الدول الاخرى وممثلية واحدة في الامم المتحدة وفي المؤسسات الدولية الاخرى. في مفاهيم علم الدولة والعلاقات الدولية، في الفيدرالية فان السيادة هي واحدة ومحفوظة للسلطة المركزية، وليس للوحدات التي تكونها.
الكونفيدرالية هي شيء مختلف تماما: لا يوجد لها جهاز قضائي أو ادارة مشتركة، ليس لها بالضرورة جيش مشترك، وكل مكون من مكوناتها يحتفظ بتمثيل مستقل في الخارج. واذا كانت لها مؤسسات مشتركة مثل البرلمان، فان صلاحياتها تكون محدودة وضعيفة، على كل واحدة من الوحدات في ظل الكونفيدرالية تسيطر حكومة محلية، وليس للسلطة المركزية أفضلية تشريعية أو ادارية على السلطات المحلية. بكلمات اخرى، السيادة، سواء تجاه الداخل أو الخارج، تبقى في أيدي الوحدات التي تكون الكونفيدرالية.
ضمن هذه المعطيات ليس مفاجئا أنه لا يوجد اليوم وجود لأي كونفيدرالية. سويسرا تسمى احيانا كونفيدرالية لاسباب تتعلق بتاريخها في أواخر العصور الوسطى، لكنها فيدرالية تماما. يوجد للكانتونات المختلفة التي تشكلها حقا درجة غير بسيطة من الاستقلال الذاتي في الشؤون الداخلية، لكن يوجد لها حكومة مركزية واحدة وجيش واحد. سويسرا هي وحدة سيادية واحدة تجاه الداخل والخارج (لزيوريخ أو جنيف لا يوجد جيش ولا توجد سفارات). اثناء عملية تفكك الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا في التسعينيات في القرن الماضي كانت هناك محاولات لاستبدال الهيكل الفيدرالي الذي كان قائما في هاتين الدولتين بالكونفيدرالية. كل هذه المحاولات فشلت؛ لأن الجميع فهموا أنهم بذلك لا يحلون أي شيء، وفي نهاية المطاف تفكك الاتحاد السوفييتي الى 15 دولة سيادية، وتفككت يوغسلافيا الى 6 – 7 دول (هذا يتعلق اذا كنا نعد كوسوفو). في قبرص يحاولون منذ اكثر من سبعين سنة بلورة حل من نوع الكونفيدرالية، بلا نجاح، لكن الواقع هو دولتان فعليا، حيث المنطقة الكردية معترف بها كدولة فقط من قبل أنقرة وفعليا يوجد فيها احتلال تركي.
كل ذلك من شأنه أن يوضح لماذا محاولة الكونفيدرالية في واقعنا هي محاولة عديمة الجدوى تماما. فيما يلي سنفحص مواضيع الواحد تلو الآخر.
أولا، انشاء كونفيدرالية يحتاج الى ترسيم حدود جغرافية بين الوحدتين، اسرائيل وفلسطين. من يعتقد أن الحل الكونفيدرالي سيمكن من تسوية الخلاف بخصوص السيطرة على «يهودا والسامرة» وقطاع غزة – لا سيما القدس – ببساطة هو لا يعيش في الواقع. ليس بالامكان تخيل وضع يوافق فيه الفلسطينيون على أن تكون المستوطنات وشرقي القدس جزءا من المكون الاسرائيلي للكونفيدرالية، أي أن تكون خاضعة للقانون الاسرائيلي وسيطرة الجيش الاسرائيلي. في المقابل، من الواضح أن حكومة اسرائيلية لن تنقل الى سيطرة الفلسطينيين مئات آلاف المواطنين الاسرائيليين الذين يعيشون في مناطق الضفة أو في شرقي القدس. ولن توافق على خدمتهم في الجيش الفلسطيني وفي الجيش الاسرائيلي ايضا. من الخيالي تماما التفكير بأنه في اطار كونفيدرالي سيوافق الفلسطينيون على أن يبقى الحرم تحت السيادة الاسرائيلية أو أن اسرائيل ستوافق على نقله لسيادة الفلسطينيين. من يؤيد الكونفيدرالية لا يمكنه التملص من القول أين ستمر الحدود بين الوحدتين لأنه في الكونفيدرالية السيادة – أي السيطرة – تبقى في ايدي الوحدات المكونة لها، لذلك لا يمكن التهرب من ترسيم الحدود.
ثانيا، الكونفيدرالية تعني أن فلسطين، تماما مثل اسرائيل، ستكون عضوا كامل العضوية في الامم المتحدة وفي كل المؤسسات الدولية، وكما هو مفهوم سيكون لها سفارات في ارجاء العالم، هل هذا ما يريده اليمين الذي يؤيد الكونفيدرالية؟
ثالثا، هل في اطار الكونفيدرالية كل فلسطيني يعيش في الكيان الفلسطيني يمكنه الحركة بحرية في كل المناطق الاسرائيلية والعيش فيها ايضا، مثلا في تل ابيب. وكل اسرائيلي يمكنه العيش في كل اراضي فلسطين، مثلا في نابلس؟ اذا أضيف الى ذلك قانون العودة الاسرائيلي، الذي سيسري بالطبع في الجزء الاسرائيلي، وقانون العودة الفلسطيني الذي يفترض أن يسري في الجزء الفلسطيني، فان من الواضح أن حركة حرة بين وحدتي الكونفيدرالية يمكنها أن تخلق تحديات غير بسيطة، سواء في الجانب الاسرائيلي أو في الجانب الفلسطيني. من الواضح أن اراضي دولة في الجزء الفلسطيني ستكون تحت سيطرة المكون الفلسطيني للكونفيدرالية.
رابعا، في اطار كونفيدرالي، لكل واحد من مكونات الكونفيدرالية سيكون جيش خاص به. هل ستكون اسرائيل مستعدة لذلك؟ ليس بالامكان أن يكون لأحد مكونات الكونفيدرالية جيش في حين لا يكون للمكون الثاني جيش، أو أن تكون اراضيه منزوعة السلاح.
خامسا، يصعب توقع استقرار اقتصادي في الكونفيدرالية ازاء الفجوات الكبيرة القائمة الآن بين مكوناتها في مستوى المعيشة، الانتاج الاقتصادي، والنمو الاقتصادي. وبدل ذلك فان الفصل بين الاقتصادين، في وضع لا يكون فيه حرية لكل شخص بالعمل أينما يريد – سيفرغ هيكل الكونفيدرالية من كل مضمون حقيقي.
سادسا، من الواضح أن المكون الفلسطيني لن يكون كيانا ديمقراطيا، بل ائتلاف لتنظيمات مسلحة (فتح، حماس). كيف يمكن أن تكون هناك مؤسسات مشتركة، وحتى ضعيفة (مثل برلمان مشترك)، حيث إن أحد مكونات الكونفيدرالية سيكون دولة ديمقراطية لديها انتخابات متعددة الاحزاب، والثاني سيكون شيئا ما يشبه في احسن الحالات مصر وفي أسوأ الحالات سورية؟.
إن سبب فشل كل محاولات اقامة الكونفيدراليات في العالم حتى الآن بسيط: الكونفيدرالية هي مأسسة لحرب اهلية مستمرة، وهي فقط تزيد المشكلات ولا تحلها. يجب علينا أن نقول الحقيقة: هؤلاء الذين في اليمين والذين يظهرون التأييد لفكرة الكونفيدرالية، لا يقصدون حقا الكونفيدرالية التي سيكون لكل مكوناتها مكانة متساوية الى هذه الدرجة أو تلك. ما يفكرون فيه ليس كونفيدرالية حقيقية، بل شيء ما يكون في جانبه الفلسطيني يشبه البنتوستان ويشمل استمرار سيطرة اسرائيل على «المناطق» الفلسطينية تحت اسم آخر. التفكير أن الفلسطينيين سيوافقون على اطار كهذا هو بالطبع وهم مطلق. ايضا في اليسار يجب أن يفهموا أنه مع كل النوايا الحسنة فان فكرة الكونفيدرالية هي فكرة عبثية. إن من يريد حلا متفقا عليه للنزاع لا يمكنه الهرب من الاستنتاج بأن هناك فقط طريقا واحدا، مهما كان طويلا ومتعرجا: دولتان لشعبين.
هذا الاستنتاج غير بسيط. وتفسيره هو أن على من يؤيدون الكونفيدرالية من اليمين التوقف عن تضليل الجمهور ومحاولة بيعه شيئا يشبه الحل، الذي هو في الواقع هو تمويه للضم. من يؤيدون الفكرة في اليسار يجب القول لهم إنه يجب عليهم التوقف عن العيش في وهم أن لديهم حلا سحريا. فكرة الكونفيدرالية هي ذر للرماد في العيون وهرب من الواقع الصعب الذي يحتاج الى قرارات صعبة. الآن ليس هناك في حكومة اسرائيل الحالية استعداد لاتخاذ هذه القرارات الصعبة، وهناك شك كبير فيما اذا كان هناك استعداد كهذا موجود في الجانب الفلسطيني. على كل الاحوال، الحل غير موجود في دواء المشعوذين، الذي هو ايضا خطير وعديم الفائدة.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف