«صفقة القرن»، كما بات معروفاً، ليست مجرد خطة أميركية لتصفية المسألة الفلسطينية فحسب، بل هي خطة تتكامل، بالتطبيق العملي، من أجل صياغة الحالة الجيوسياسية للإقليم، من خلال فرض معادلات وتحالفات ومفاهيم، تقود إلى قيام «حلف إقليمي» يضم الولايات المتحدة، وإسرائيل، وأنظمة الاستبداد العربية، وذات الاقتصاد الريعي، والنظام العشائري، أو القائم على المفاهيم المذهبية المتخلفة. والمدخل إلى هذا «الحلف» هو «حل إقليمي» للمسألة الفلسطينية تتشارك فيه إسرائيل، وم.ت.ف، ودول عربية نافذة، وعواصم دولية، بذريعة انعقاد مؤتمر دولي يطلق مفاوضات جديدة، تبقى مقيدة بقيود اتفاق أوسلو وآلياته.
وبالتالي فإن التصدي لمشروع «صفقة القرن»، ليس مهمة الفلسطينيين وحدهم. هم بطبيعة الحال يشكلون رأس الحربة في التصدي للمشروع لأنه يطال مصيرهم ومستقبلهم وكيانهم. لكن واجب التصدي ملقى على عاتق الشعوب العربية وقواها السياسية، فالمشروع يطال أيضاً مصيرها ومستقبلها وكيانياتها.
الميدان الفلسطيني
بدأ الاشتباك مع مشروع «صفقة القرن» في الميدان الفلسطيني، حتى قبل الإفصاح عن نصوصها وبنودها. إذ شكلت قضايا القدس، والإستيطان، واللاجئين، محاور صراع محتدمة مع الإدارة الأميركية، ومع الاحتلال الاسرائيلي، وفق إدراك واضح أن الإدارة الأميركية لم تعد مجرد حليف لإسرائيل يدعمها في معاركها السياسية والعسكرية، بل بات يشكل الجرافة وناسفة الألغام التي تفتح الطريق أمام الحل الإسرائيلي. وما الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، وما الإعتراف بشرعية الاستيطان ونهب الأرض الفلسطينية، وما العمل على شطب وكالة الغوث وتصفية حق العودة، إلا خطوات واضحة تؤكد هذا الانعطاف الكبير في السياسة الأميركية.
يبقى السؤال، كيف على الفلسطينيين أن يتصدوا لمثل هذا المشروع.
لا نعتقد أن كيل الشتائم، وإعادة التأكيد على رفضه، والتأكيد على أن الولايات المتحدة فقدت موقعها في رعاية المفاوضات، يشكل رداً كافياً على المشروع. كل هذه الخطوات لم تمس شعرة واحدة في رأس المشروع الأميركي، ولم تتجاوز حدود «الحرب الإعلامية واللفظية» ليس إلا.
نعتقد أن التصدي لمشروع ترامب، هو في استعادة البرنامج الوطني، أي برنامج الانتفاضة والمقاومة في الميدان، وفي المحافل الدولية، كالأمم المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية، لتعطيل قراراته، ميدانياً، وتعطيلها على الصعيد الدولي، في مجلس الأمن، حيث تم رفضها بالإجماع وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة، وحيث لم يؤيدها سوى إسرائيل.
استعادة البرنامج الوطني، تتطلبها خطوات عملية في مقدمها:
1) إنهاء الإنقسام واستعادة الوحدة الداخلية. هذا شرط لا مجال للتنازل عنه. فكل مشاريع التصفية للمسألة الفلسطينية، إنما تعتمد الانقسام مدخلاً إلى إقتحام الحالة والحقوق الوطنية وليس سراً – إلا لمن لا يريد أن يقتنع – أن نتنياهو، يراهن، في تطبيقاته اليومية، على إدامة الانقسام، وعلى الفصل الدائم بين قطاع غزة، والضفة الفلسطينية. وليس سراً القول أن معظم المشاريع تنطلق من واقع الانفصال القائم، وتحويله إلى واقع دائم ونهائي. وبالتالي إنهاء الانقسام أكبر بكثير من كل القضايا التي تعطل تحقيقه. ولا مكان للحديث عن صمود، ومقاومة، إلا بإنهاء الانقسام. هو المدخل لسد الثغرات، وهو المدخل الملزم لاستعادة الثقة بالذات، ولإعادة اليقين إلى الشارع الفلسطيني بجدوى التضحيات اليومية ضد سلطات الاحتلال ومشاريع الاستيطان.
2) الخطوة الموازية، مغادرة إتفاق أوسلو وبروتوكول باريس، والتحرر من قيودهما. إذ من لا يقرأ الخيط الواصل بين مشروع أوسلو، وبين «صفقة القرن»، يتعامى عن الحقائق وعن الواقع. وإذا كان مطلوباً، في هذا السياق، تطبيق قرارات المجلس الوطني الفلسطيني ببنودها السياسية كافة، فالمطلوب أيضاً إعلان واضح وصريح عن التراجع عن «رؤية الرئيس» (خطاب 20/2/2018 في مجلس الأمن الدولي) التي أعادت التأكيد بالتزام «مفاوضات الحل الدائم» وفقاً لآليات وأسس اتفاق أوسلو. التراجع عن هذه «الرؤية»، ليس مجرد إعلان إعلامي، فقط، بل هو خطوة عملية تكسب قرارات المجلس الوطني عمقها السياسي المطلوب. ونعتقد، في هذا السياق، أن «رؤية الرئيس» هي العائق الذي مازال يعطل تنفيذ قرارات المجلس الوطني (سحب الاعتراف بإسرائيل، ووقف التنسيق الأمني، وبدء فك الارتباط بالاقتصاد الاسرائيلي وغيره) ومن قبله قرارات المجلس المركزي في 15/1/2018.
3) لا بد من إصلاح أوضاع المؤسسات الوطنية الفلسطينية لتشكل إطاراً جامعاً لكل القوى. في مقدمة هذا الأمر إعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية وتعزيز موقعها التمثيلي، وإعادة الصلاحيات لهيئاتها ومؤسساتها، بعد أن كادت تذوب في مؤسسات السلطة الفلسطينية التي أثبتت فشلها، تحت سقف أوسلو، في أن تشكل نواة للدولة الفلسطينية. فهي سلطة بلا سيادة. وصلاحياتها في تقليص دائم لصالح الإدارة المحلية وسلطات الإحتلال، في المجالات الأمنية والإقتصادية والمالية. ولعل آخرها قرارات حكومة نتنياهو سلب رواتب وتعويضات الأسرى وعائلات الشهداء، و«التعويض» على المزارعين الإسرائيليين الذي أحرقت «طائرات العودة» مزروعاتهم من أموال المقاصة التي تعتبر حقاً من حقوق السلطة الفلسطينية لا يحق لسلطة الإحتلال مسها أو التلاعب بها.
المطلوب أن تستعيد الحالة الفلسطينية موقعها النضالي، حركة تحرر ضد الإحتلال وضد الإستعمار، وليست طرفاً سياسياً يتفاوض مع الجانب الإسرائيلي وصولاً «للسلام». وبالتالي ليست م.ت.ف، «شريكاً في سلام أوسلو»، بل هي قيادة حركة التحرر الوطني الفلسطينية لشعب يناضل من أجل حقه في الحرية والإستقلال والعودة.
ومن المفيد التأكيد، في هذا السياق، أنه، ودون إحداث الثقلة في أوضاع المؤسسة الوطنية، لتقوم على أساس برنامج وطني موحد، وعلى أسس إئتلافية، وعلى آليات عمل وفق قواعد التشاركية، ومبدأ «شركاء في الدم.. شركاء في القرار». فإن خطر تجاوز قرارات الإجماع الوطني، وتجاوز قرارات الهيئات، وتغليب المصالح الفئوية على المصلحة الوطنية العليا، وإحلال «المطبخ السياسي» محل الهيئات.. هذا الخطر سيبقى مائلاً، وستبقى الحالة الفلسطينية تراوح في مكانها، بينما نلاحظ الجانب الأميركي يتقدم في تطبيق مشروعه خطوة خطوة فها هو، على سبيل المثال نقل سفارة بلاده إلى القدس. وها هو يعيد النظر بصلاحيات القنصلية العامة الأميركية في القدس الشرقية، لتلحق بالسفارة الأميركية في إطار توحيد الجسم الدبلوماسي بين إسرائيل والقدس الشرقية، إعلاناً جديداً بالإعتراف «بوحدة القدس» عاصمة لإسرائيل، وخطوة دبلوماسية تمهد للدور الأميركي في طرح مسألة استئناف المفاوضات والإشراف عليها، وبحيث يكون السفير الأميركي في إسرائيل، هو مرجعة الجانب الفلسطيني، وهو السفير الموصوف بإنحيازه الفاقع ليس لإسرائيل فقط، بل وأيضاً لسياسة الأطراف الإسرائيلية الأكثر يمينية في حكومة نتنياهو.
4) هذه الخطوات هي التي من شأنها أن تفتح الباب أمام المؤسسة الرسمية الفلسطينية الموحدة، والجامعة، والممثل الشرعي والوحيد، وصاحبة برنامج المقاومة، لتقدم نفسها إلى الحركة الشعبية العربية، وإلى العالم كله، حركة تحرر لشعب تحت الإحتلال، ولا تقتصر علاقاتها مع أنظمة عربية لا تخفي تحالفها مع الولايات المتحدة، ولا تخفى تأييدها للمشروع الإقليمي، ولا تخفي خطوات تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، «وتقاطع مصالحها» مع «مصالح» إسرائيل في صراعات إقليمية، لا تخدم في نهاية المطاف إلا مصالح الغرب وإدامة هيمنة أميركا على المنطقة ومقدراتها وإضعاف قدرات شعوبها.
الميدان العربي والإقليمي
يخطئ من يعتقد أن «صفقة القرن» في جانبها الإقليمي تستهدف فقط الجمهورية الإسلامية في إيران وتحالفاتها و«امتدادتها». صحيح أن إيران هدف رئيس من أهداف المشروع، يعمل على إعادة تقديمها بإعتبارها الخطر الماثل على مصالح المنطقة العربية، ومصدر الإرهاب وحاضنة رعايته. كما يحاول أن يقدم حلفاءها، كحزب الله، في الموقع ذاته، وفي السياق ينزع عن إسرائيل صفة العداء للعرب (متخطياً القضية الفلسطينية وإحتلال إسرائيل للجولان، ولمزارع شبعا، وتمترسها فوق جزء من الأراضي الأردنية التي لم تنسحب منها حتى الآن رغم معاهدة وادي عربة) وصفة العداء لمصالحهم السياسية والإقتصادية، ونازعاً عنها مشروعها الصهيوني بأهدافه المكشوفة التي لم يتردد «شمعون بيريس عن الإفصاح عنها في مشروعه الشهير «للشرق الأوسط الجديد» والذي بنت عليه إدارة بوش الابن «مشروع الشرق الأوسط الكبير» وتبني عليه إدارة ترامب مشروع «صفقة القرن».
لذلك يخطئ من يعتقد أن واجب التصدي «لصفقة القرن» يقتصر على الفلسطينيين من جهة، وعلى إيران من جهة أخرى، وأن واجب الأخرين هو «الأسناد»، و«الدعم» و«التضامن». ما دام الكل مستهدفاً، فإن واجب الكل أن ينخرط في المعركة. والكل هنا هي القوى القومية والوطنية، والتقدمية واليسارية والليبرالية وغيرها، ممن ترى في المشروع الصهيوني الخطر الحقيقي، وممن ترى في الهيمنة الأميركية وجهاً آخر للخطر الحقيقي.
هذا يتطلب، بإعتقادنا، أن تقوم في المنطقة الجبهة العربية التقدمية المقاومة، بإطارها العريض، ولعله من الصعوبة بمكان أن تقوم جبهة عربية واسعة تضم أوسع القوى من مشرق المنطقة حتى مغربها. لكن ليس من الصعوبة أن تقوم في كل بلد عربي على حدة، أطر جبهوية عريضة للقوى الوطنية في مشروع مقاومة الوجود الصهيوني والهيمنة الأميركية. وبالتالي يصح على جدول أعمال هذه الأطر أهداف ذات طابع إقليمي لكنها في الوقت نفسه ذات طابع وطني محلي.
• في مقدمة هذه المهام رفض التطبيع مع الجانب الإسرائيلي، العلني والسري، في الدول التي عقدت مع إسرائيل معاهدات، والدول التي لم تعقد. رفض التطبيع على الصعيد الشعبي، يمارس الضغط على الحكومات في رفض التطبيع على المستوى الرسمي (الإقتصادي ــــــ السياحي ــــــ الثقافي ـــــ الرياضي ــــــ إلخ)
• والتطبيع مع الجانب الإسرائيلي تنساق معه الإقتصادات العربية نحو أسس وآليات تشكل خطراً على المصالح الوطنية والقومية للبلاد. ولصندوق النقد الدولي، ووصفاته المشبوهة، دور بارز وفاعل ورئيسي في هذا المجال. الأمر الذي يربط موضوعياً بين رفض التطبيع ورفض «الإصلاحات الإقتصادية»، وفقاً لوصفات صندوق النقد الدولي. فضلاً عن أن الصندوق مكلف من دوائر الولايات المتحدة بالضغط على العواصم العربية للتفاعل مع الرياح السياسية القادمة مع «صفقة القرن». ولعل ما يجري في الأردن الآن من هبة شعبية ضد سياسة حكومة الملقي المستقبلية (أو المقالة) مثال ساطع على ذلك.
• إعادة النظر بآليات عمل المؤتمرات «القومية»، والتي بات تأثيرها في الوضع العربي العام لا يكاد يتجاوز حدود التظاهرة السياسية وإصدار البيانات الختامية، لمؤتمرات تستعيد شعاراتها ومواقفها دون الإنتقال إلى خطوات عملية وفاعلة. ونعتقد أن هذه المسألة أعمق بكثير من أن تتم مناقشتها في مقال هنا وهناك.
• إحداث النقلة المطلوبة في أهداف وبرامج وآليات عمل أحزاب اللقاء اليساري العربي، وتوسيع قاعدته وضم قوى إضافية إليه وتفعيل أكبر لدوره الميداني على صعيد المنطقة، وفي كل بلد على حدة.
• تطوير مفهوم المقاومة، وإحداث نقلة حقيقية فيه وفي آليات تطبيقه. ففي لبنان، على سبيل المثال، لا تكف بعض الدوائر عن وصف المقاومة بالمذهبية. أما في فلسطين فالدوائر الإسرائيلية والأميركية (وخلفها دوائر عربية) تحاول أن تحصر مفهوم المقاومة (ولأسباب مكشوفة) في حركتي حماس والجهاد. وتصر هذه القوى على «تشويه» خريطة المقاومة من خلال تصنيفها إقليمياً، وفكرياً ومذهبياً لربطها بالإرهاب، بعد ما شوهت العديد من القوى الإرهابية المشهد الإسلامي.
ولا نعتقد أن مثل هذه «التشويهات» من شأنها أن تخدم حزب الله في لبنان، أو حماس والجهاد في فلسطين. المقاومة مشروع وطني يجب أن يتجلى يمظهره الوطني، الأمر الذي يفترض إيجاد أطر وآليات تحصن مفهوم المقاومة وقواها.
فعلى سبيل المثال، مازالت في قطاع غزة، الدعوة قائمة لجبهة مقاومة فلسطينية متحدة في غرفة عمليات مشتركة، ذات مرجعية سياسية موحدة، تمتلك إستراتيجية دفاعية عن القطاع، منطلقة من واقع القطاع، وبإشراك مكوناته الإجتماعية كافة، وبيدها قرار التصعيد وقرار التهدئة. تعيد تقديم القطاع، في سياق سياسي آخر، ليس بإعتباره «إقليماً متمرداً» تحت قيادة حماس، بل إقليماً مقاوماً للإحتلال الإسرائيلي.
أما في الضفة الفلسطينية، ووفقاً لتباين الظروف، تفتقر الحالة الوطنية إلى أطر وطنية جامعة في ميدان الإشتباك مع الإحتلال والإستيطان، وتطوير الهيئات الشعبية إلى مقاومة شاملة على طريق العصيان الوطني. دون أن نتجاهل أن تمسك القيادة الرسمية الفلسطينية ببقايا أوسلو، وتعطيلها قرارات المجلس الوطني، وتعطيلها إعادة بناء المؤسسات الوطنية على أسس الشراكة الوطنية، هو عامل سلبي من شأنه أن يضعف وتيرة نهوض الحركة الشعبية.
في الختام
ستبقى مهمة التصدي لمشروع «صفقة القرن» تطرح نفسها بحدة على جدول أعمال القوى الوطنية، في المنطقة، بوتائر تقدمها وتداعياتها في الوضع العام.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف