​“فلافل هاشم” في وسط مدينة عمان هو مؤسسة دولية. المرشدون السياحيون في الاردن ومواقع الطعام في الانترنت كلها تمجده ويعتبرونه “اسطورة الفلافل”، “الفلافل الافضل في الشرق الاوسط”، هكذا كتب عنه.
الوجبات متشابهة في فرعيه الكبيرين. اقراص الفلافل الساخنة جدا، صحن الحمص مع الكثير من الزيت وعصير الليمون، يمكن ايضا الفول القليل المضاف اليه، أرغفة رقيقة وطرية، المخلل والخضار المقطعة، الكراسي غير مريحة، الطاولات تتحرك، كيس من الورق يلف الساندويش مع الطحينة والأمل هو أن الحرارة الشديدة تكون قتلت الفيروسات. وجبة كهذه تكفي الجائع لساعات طويلة واحيانا ليوم كامل.
​“أنا آكل في مطعم هاشم مرتين في الاسبوع على الاقل”، قال لي طه سنقرط عندما زرت المدينة قبل شهرين تقريبا، وهو اردني من اصل فلسطيني من الخليل، يعمل في بنك عمان، “هذه الوجبة تعتبر بالنسبة لاشخاص كثيرين الوجبة الوحيدة طوال اليوم”، قال. وعندما تحدثنا في هذا الاسبوع قال لي سنقرط إنه في اجازة. “اليوم يوجد اضراب حتى الساعة الثانية، ربما سآخذ الاولاد في نزهة. فهم ايضا لديهم اضراب. الجميع مضربون، المعلمون، الاطباء، المهندسون. فقط المدينة تضج بالحركة”. سنقرط تحدث عن المظاهرات في الليلة السابقة وطوال اليوم. “الشوارع غير هادئة”، قال، “الناس في حالة يأس، ربما من الافضل التظاهر قليلا واخراج البخار الذي تراكم لديهم على مدى سنين. هذا لم يبدأ بقانون الميزانية أو قانون الضرائب الجديد، الوضع سيء منذ سنوات، كانت تكفي فقط شرارة”.
الليبراليون الجدد
في هذا الاسبوع أقال الملك في الاردن رئيس الحكومة غير الشعبي هاني الملقي، أي “وافق على استقالته”، وبدلا منه عين عمر الرزاز، وزير التعليم في السابق الذي يحمل شهادة الدكتوراة في الاقتصاد من جامعة هارفارد والماجستير من جامعة “ام.آي.تي”. هو رجل جدي واقتصادي مؤهل تم تعيينه في منصبه بفضل قدرته واضافة الى علاقته الوثيقة مع الملك.
ولكن هذا التعيين لا يكفي رؤساء النقابات المهنية الذين اعلنوا عن الاضراب ويقودون الاحتجاج ضد قانون الضرائب. قائدهم د. علي العبوس، رئيس النقابات المهنية ورئيس نقابة الاطباء، حاول حقا منح الحكومة مهلة اسبوع الى حين تشكيل الحكومة الجديدة قبل أن تقوم النقابات بتصعيد الاحتجاج، لكن في اجتماع رؤساء النقابات تم رفض اقتراحه بغضب. “تعيين الرزاز هو استخفاف بالاحتجاج”، قال عدد من الاعضاء في الاجتماع، “من غير المعقول أن يكون رئيس الحكومة المعين جاء من الحكومة التي نطلب طردها. لا يجب أن يكون أحد من وزراء الحكومة المستقيلة وزيرا في الحكومة الجديدة”.
اقالة الحكومة والبرلمان هي احد الطلبات التي يطلبها زعماء الاحتجاج. يبدو أنها الاسهل على التنفيذ كما اثبت الملك عندما قام بتعيين الرزاز. السؤال هو اذا كانت هذه الخطوة، التي شهد الاردن مثلها عدد لا يحصى، سواء في فترة الملك حسين وليس أقل من ذلك في عهد نجله الحاكم منذ 19 سنة، ستكفي لاعادة المتظاهرين الى بيوتهم. عضو البرلمان المعروف أمجد هزاع المجالي، إبن رئيس الحكومة الاسطوري الذي قتل في العام 1960، نشر أول أمس رسالة شديدة اوضح فيها أن الاحتجاج والمظاهرات لم تأت فقط على خلفية قانون الضرائب الجديد، الذي خفض بصورة كبيرة المستوى الاول لجباية ضريبة الدخل الى مبلغ 11 ألف دولار في السنة ورفع ضريبة الشركات الى 40 في المئة. وهي زيادة تعني قفزة اخرى في تكاليف المعيشة الفردية. “المظاهرات تعبر عن رفض الجمهور لمجموعة غريبة ومستبدة لا تؤمن بالعلاقات الحقيقية وفكرة الوطنية، لأنه بالنسبة لهؤلاء ليس هناك في نظرهم معنى سوى الفرص لتحقيق نفوذ وسيطرة كاملة على مقاليد الحكم… هذه الجماعة حطمت كل انجازات الأمة التي حققها عظماء الأمة في السابق”، جاء في الرسالة.
هذه المجموعة الغريبة يسميها المجالي “الليبراليون الجدد”. حسب اقوال اعضاءها، يديرون الدولة وكأنها شركة تجارية. وأن الجميع بنظرها هو سلعة وكل هدفها هو “المس بقوة البرلمان، وقوة رئيس الحكومة ومكانة الدولة”. 12 طلب عرضها المجالي في الرسالة منها اقصاء “الليبراليون الجدد”، حرب لا هوادة فيها ضد الفساد، اعادة الاموال التي سرقت حسب اقواله من الدولة، انشاء دولة مؤسسات وليس دولة نخب وتعزيز البرلمان.
ازمة اللاجئين
المجالي لم يذكر الملك عبد الله باسمه، لكنه كل انتقاد موجه للحكومة ووزرائها هو انتقاد للملك الذي يعينها. ولكن عندما يكتب المجالي، الذي يعتبر هو نفسه من عائلة النخبة، ضد “الليبراليين الجدد” فهو يبكي على فقدان قوة ومكانة النخب القديمة التي عرفت كيفية انهاء الامور بينها وبين انفسها، وسرقوا الخزينة العامة واقاموا سور دفاعي ضد تأثير التكنوقراطيين.
المجالي محق عندما يقول إن احتجاج الجمهور ليس فقط ضد الضرائب الجديدة ورفع اسعار حوالي 165 سلعة. سبب من اسباب الغضب هو الوضع الذي وجد الاردن نفسه فيه نتيجة الحرب السورية التي ضخت اليه المليون لاجيء تقريبا، الذين اضيفوا الى آلاف اللاجئين الذين بقوا فيه بعد الحرب العراقية. هذه ليست فقط مشكلة اقتصادية، التي يتحملها دافع الضرائب الاردني الذي يمول جزء من تكاليف عيش اللاجئين. أجرة الشقة للمواطن الاردني ارتفعت بنسبة بارزة، احيانا حتى بـ 100 في المئة، بسبب المنافسة مع المستأجرين السوريين، وهو ايضا اول من يتم تسريحه عندما يأتي عامل سوري رخيص الى مكان عمله.
الازمة الاقتصادية التي أجبرت الحكومة على تبني خطة اقتصادية متشددة، غير مقطوعة عن سياسة الاردن الخارجية التي تحاول توجيه الحكومة للسير بين حقول الالغام المتحركة. هكذا مثلا اضطر الاردن الى طلب قرض بمبلغ 723 مليون دولار من صندوق النقد الدولي بعد اعلان السعودية أنها لن تجدد المساعدة التي منحتها له. في العام 2015 تلقى الاردن مساعدة من السعودية بمبلغ 473 مليون دولار، وفي العام 2017 انخفضت المساعدة الى 165 مليون دولار، في حين أنه في هذه السنة كان يتوقع أن يحصل على 250 مليون دولار، التي لم تصل.
سبب ذلك يكمن في الخلافات الكبيرة بين الاردن والسعودية في موضوع العلاقات مع قطر. السعودية تطلب من الاردن الانضمام لمقاطعة قطر، وهي المقاطعة التي فرضها عدد من دول من الخليج قبل سنة. الاردن وافق في البداية على خفض التمثيل الدبلوماسي ولكن عدم قطع العلاقة مع قطر، وفي نهاية المطاف رفعت مجددا مستوى العلاقة. الضغط السعودي لا يمر بسهولة في حلق الاردن، خاصة بعد أن عبرت السعودية عن نيتها أن تسحب من الاردن الرعاية على الاماكن المقدسة في القدس، خلافا لما جاء في اتفاق السلام مع اسرائيل. السعودية اوضحت حقا أن موقفها بقي مثلما كان والذي يقضي بأن شرقي القدس هو عاصمة فلسطين، لكنها لم تذكر بصورة صريحة الوصاية الاردنية على الاماكن المقدسة. السعودية طلبت في السابق من الاردن مهاجمة نظام الاسد كجزء من اسهامه في التحالف العربي. وأن يكون ايضا مشاركا في الحرب في اليمن الى جانب السعودية. الاردن ارسل فقط ست طائرات كمساعدة في الحرب ضد العراق، ورفض طلب مهاجمة سوريا.
في هذا الاسبوع، بعد ايام طويلة على اندلاع المظاهرات في الاردن، اتصل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان مع الملك عبد الله وعبر عن دعمه له وللمملكة. ليس واضحا اذا كان تعهد بتقديم مساعدة اقتصادية للاردن. واذا كان كذلك فبأي شروط. الاردن يغضب السعودية ودولة الامارات، لأنه لا ينضم الى النضال ضد الاخوان المسلمين. ولكن في الاردن حركة الاخوان المسلمين هي حزب شرعي يشارك في الانتخابات، واخراجه خارج القانون مثلما في مصر والسعودية من شأنه أن يحدث ثورة مدنية سياسية يكون من الصعب قمعها. في هذه الاثناء صمت صوت الاخوان المسلمين في المظاهرات، حيث أن النقابات المهنية حذرت الحركة من جر الاحتجاج الى اماكن ايديولوجية دينية.
اسرائيل لم تذكر في وسائل الاعلام الاردنية والعربية بأنها مشاركة في تأجيج لهب المظاهرات، لكن اتفاق السلام مع اسرائيل سبق له ووضع قبل نحو ثلاثة اشهر على طاولة البرلمان، ويتوقع أن يثير انقسام قبيل تشرين الاول. حيث في هذا الشهر سيضطر الاردن الى الاعلان هل في نيته تجديد بنود الاتفاق المتعلقة بتأجير الاراضي الاردنية في العربة أو الغاءه. سريان هذه البنود التي وقعت، وفي البرلمان الاردني تزداد الاصوات التي تدعو لاعادة هذه الاراضي للمملكة وعدم مواصلة تأجيرها.
هل سينجح الملك عبد الله في أن يجتاز بنجاح هذه الازمة بعد أن انقذ مملكته بنجاح من ثورة الربيع العربي؟ طالما أن الاحتجاج يتمحور حول بؤرة اقتصادية معينة مثل قانون الضرائب وبؤرة سياسية ضيقة تطالب باستقالة الحكومة، فان الملك قام بما يجب القيام به. لقد قام باقالة الحكومة وطلب من رئيس الحكومة الجديد “اعادة فحص” قانون الضرائب. رفع الرواتب هو ايضا وسيلة معروفة يمكنها تهدئة الخواطر. اذا قررت السعودية ارسال بضع مئات ملايين الدولارات، ووافقت الادارة الامريكية على زيادة الهبات، فان هذا بالتأكيد سيساعد. الامر غير الواضح هو هل ستتحول هذه المظاهرات الى عرض سياسي يذهب أبعد من ذلك ويطالب كذلك باصلاحات سياسية جوهرية تشمل الانتقال الى ملكية دستورية تقلص صلاحيات الملك.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف