قبل بضعة اشهر أحيا العالم الذكرى الـ 15 لاجتياح الولايات المتحدة العراق. “احيا”، هو تعريف شبه دراماتيكي. اما الحقيقة فهي أنه يجري نقاش ضيق في اللحظة التاريخية اياها، التي غيرت تماما الشرق الاوسط وأثرت بطرق ملتوية وخفية عن العيان على السياسة الغربية كلها. عندنا مر يوم الذكرى الحزين هذا دون نقاش على الاطلاق، مما يدل على الذاكرة الشعبية الهزيلة في الواقع الاسرائيلي العاصف. ولكن ذاك الاجتياح يوجد له درس واضح، وهو يرتبط بالواقع الاسرائيلي، بدونالد ترامب، بالازمة الناشبة مع ايران وبسياسة القوة.
يحتمل ألا يعرف السبب الحقيقي للاجتياح ابدا. فقد كان السبب الرسمي هو تزوير أو خطأ اهمالي: وجود اسلحة دمار شامل في ايدي صدام حسين. حاكم العراق، كما يذكر، كان في حينه ضعيفا ولم يعتبر تهديدا عسكريا ذا مغزى بعد أن ضرب جيشه وسلاح الجو لديه في اثناء حرب الخليج الاولى. اما خلفية الاجتياح فهي اهم من السبب الرسمي: عمليات 11 ايلول. الرغبة في الثأر كانت قوية جدا، وفي الادارة الامريكية انتشرت الفريضة بانه يجب نقل المعركة الى ساحة العدو، بل وربما اعادة بناء امبراطورية حقيقية.
المقالات عن الحاجة الى “امبراطورية امريكيةانضمت الى الكتب، وهذه تبلورت في وعي في أوساط “المحافظين الجدد”، الجماعة الكفاحية من الجمهوريين ممن آمنوا بان العالم يحتاج الى شرطي امريكي قوي يسيطر مباشرة على مصير العديد من الشعوب، وأولا وقبل كل شيء في الشرق الاوسط. وتبنى الرئيس بوش بيانا شب مسيحي عن الحاجة لتخليص منطقتنا من الانظمة الدكتاتورية التي تنتج الارهاب؛ ووزع على ضيوفه كتاب نتان شيرانسكي “في مديح الديمقراطية”، وعانق سجين صهيون الشهير. في المرحلة التالية اقتنع بوش بـ “اختبار ميدان المدينة” الذي قرره شيرانسكي، وبموجبه تقاس الامة الحرة من الخوف وفقا لقدرة المواطن فيها على السير الى مركز المدينة والحديث ضد الحكم.
لقد كان بوش مصمما على أن حربه في المنطقة هي حرب تحرير، وأراد أن يطبق هنا الديمقراطية. في هذا الاطار طلب من رئيس الوزراء اريئيل شارون السماح لحماس بالتنافس في الانتخابات. اما يوسي بيلين، من مهندسي اوسلو فذهب الى شارون وحذره من ذلك، ولكن الكاوبوي من تكساس أصر. حماس فازت في تلك الانتخابات، ولاحقا سيطرت على قطاع غزة.
في الكونغرس الامريكي، قبل لحظة من الاجتياح وقف بنيامين نتنياهو وقال جملة لا بد انه يرغب في نسيانها: “اذا ما طردتم صدام، نظام صدام، يمكنني ان اتعهد امامكم بانه سيكون لذلك آثار ايجابية هائلة في المنطقة”. وكانت الاثار حرب أهلية في العراق، صعود قاعدة العراق، نشوب داعش، ضعضعة المنطقة ولاحقا ما سمي “الربيع العربي”. وبالمناسبة، ترامب، بعد تلبث تأييد قصير، رأى في اجتياح العراق مصيبة وشتمه المرة تلو الاخرى.
وها نحن نصل الينا. لقد وقف السياسيون الاسرائيليون في صف طويل لتأييد بوش في تلك اللحظة. شارون (حتى لو كانت افكاره الخاصة مختلفة تماما)، الليكود، الكثيرون في العمل، وبشكل عام. لقد أحب الجمهور الاسرائيلي بوش قبل الاجتياح، واحبه اكثر بعده. ولكن آثار تفكيك العراق وكارثة الاحتلال الامريكي الفاشل، الذي انتهى بالانسحاب، اثرت عميقاوسلباعلى الامن الاقليمي وعلى اسرائيل.
في الولايات المتحدة يعتبر بوش واحد من ثلاثة الرؤساء الفاشلين في التاريخ، واساسا بسبب الحرب اياها؛ درك اسفل نادر لرئيس فاز بنسبة تأييد تاريخية بعد 11 ايلول. الدرس في الولايات المتحدة استوعب، والامريكيون حذرون جدا الان في استخدام القوة البرية. اما عندنا، بالمقابل، فلم تقع اللحظة الجماهيرية الهامة هذه: الفهم بان الاجتياح كان خطأ، ان بوش كان رئيسا سيئا وان استخدام القوة الامريكية دون لجام كفيل بان يحسن وضع اسرائيل ولكن ان يسيئه ايضا. تذكروا هذا في المرة القادمة التي يشجع الناس فيها هنا من المدرج رئيسا امريكيا على الخروج الى الحرب. وهذا من شأنه أن يحصل في وقت ابكر من المتوقع.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف