بينما يتباهى بنيامين نتنياهو بمدافعه وصواريخه وطائراته، وقبته الحديدية، يعترف وزير حربه، افيغدور ليبرمان، وشريكه في الإئتلاف اليميني المتطرف، أن جيشه، الذي يتباهى به، فقد القدرة على ردع الفلسطينيين في قطاع غزة. فهو قد أنذرهم مرة أولى، ومرة ثانية ومرة ثالثة بوقف الطائرات الورقية، والبالونات الحارقة، وصولاً الى وقف مسيرات العودة وكسر الحصار، وشن عدوانه على القطاع مرة، ثم مرة ثانية مستهدفاً المدنيين قبل العسكريين، والأطفال والحدائق العامة حيث يلعبون، قبل المواقع القتالية لأذرع المقاومة. وهدد مرة أولى وثانية باجتياح جديد للقطاع، وباغتيال القيادات الفلسطينية، لكن دون جدوى. فالطائرات الورقية مازالت تحلق، والبالونات الحارقة مازالت تتساقط على مستوطنات «غلاف غزة»، ومسيرة العودة وكسر الحصار مازالت تتواصل بعزم، ترفع شعارات وطنية، تستقيها من تطورات الحالة الفلسطينية. وهو ما جعل قطاع غزة يتقدم الصفوف، ويشكل محور الحركة السياسية، الفلسطينية، والعربية، وكذلك الدولية، وإن من مداخل، وفي سياقات سياسية متباينة.
* * *
ليست هي المرة الأولى التي يعترف بها الإسرائيليون بفقدان قدرتهم على ردع الفلسطينيين. في الإنتفاضة الوطنية الكبرى (الأولى) ذهب اسحق رابين، رئيس أركان جيش الإحتلال، الى الإعتراف بأنه لا يملك حلاً عسكرياً لوقف الإنتفاضة. جرب القتل، والغازات المسيلة للدموع، والإعتقالات الجماعية، وتكسير العظام، وكل أشكال القمع والعنف والبطش. فلم ينجح، بل رأى جيشه يتعفن في شوارع وأزقة مدن الضفة الفلسطينية وقطاع غزة ومخيماتها. لم يفقد جيشه قوة الردع فحسب، بل تراجعت لديه ظاهرة الإنضباط العسكري، وتحول من جيش يقاتل على الجبهات الى مجرد شرطة تطارد المتظاهرين من أبناء القطاع والضفة. لذلك دعا قيادته السياسية الى انقاذ الجيش الإسرائيلي بالبحث عن حل سياسي للإنتفاضة. استنجدت إسرائيل بأصدقائها المعروفين، والمكتومين، ونجحت في جر القيادة الفلسطينية الى مستنقع اتفاق أوسلو، على حساب الإنتفاضة الشعبية، التي تراجعت بعد أن فقدت غطاء «الوحدة الوطنية» التي تشققت تحت وطأة ضربات أوسلو وتطبيقاته.
وفي الإنتفاضة الثانية، ورغم أن إسرائيل اجتاحت الضفة الفلسطينية عام 2002، وأعادت احتلالها مرة أخرى، بعد أن تمردت عليها، وتحولت الى ثورة مسلحة، إلا أن «الحل» لم يكن عسكرياً. بل كان سياسياً هو الآخر، عندما عقد رئيس اللجنة، التنفيذية (آنذاك) محمود عباس (قبل انتخابه رئيساً للسلطة) تفاهماً مع سلطات الإحتلال، مهد لحل كتائب شهداء الأقصى، ثم جرى ترسيمه (بعد انتخاب عباس رئيساً للسلطة) في اتفاق هدنة مع حكومة شارون قضى بوقف القتال ضد قوات الإحتلال، بما يساعد على إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، والتمهيد لإنسحاب قوات الإحتلال والإستيطان من قطاع غزة في إطار مشروع «الإنكفاء» الذي تبناه شارون قبل سقوطه في المرض.
هذه أمثلة بسيطة تبين بشكل واضح وصارخ أن قوة الإحتلال، مهما تعاظمت، ستبقى عاجزة عن ردع الحركة الشعبية الفلسطينية في مظاهرها المختلفة. وأن أي رهان خارج هذه الخلاصة، هو رهان ساقط، لا يقود إلا الى نتائج فاسدة، كاتفاق أوسلو، على سبيل المثال، أو اتفاق شرم الشيخ (2005) بين عباس وشارون، أو بروتوكول معبر رفح الذي أبقى لإسرائيل صلاحية فرض الحصار على الفلسطينيين حتى على المعبر المشترك مع مصر.
* * *
هل معنى ذلك أن الحركة الشعبية الفلسطينية فاقدة للقدرة على التأثير على القرار السياسي الرسمي، وأن تضحياتها تذهب على الدوام، في النتيجة هباء.
الوقائع تؤكد عكس ذلك تماماً. من أهم هذه الوقائع أن المؤسسة الوطنية الفلسطينية، كثيراً ما رضخت لضغوط الحركة الشعبية. منها مثلاً تراجع الحكومة في السلطة الفلسطينية عن قانون الضمان الإجتماعي الذي عدلته لصالح رجال المال والأعمال على حساب الشرائح الشعبية. ومنها مثلاً رضوخ اللجنة التنفيذية في 22/7/2017 و 12/8/2017 لضغوط هبة القدس وبوابات الأقصى، وقرارها المعلن بوقف التنسيق الأمني مع سلطات الإحتلال (بغض النظر عن مدى الإلتزام بالقرار). ومنها كذلك رضوخ المجلس المركزي الفلسطيني، وبعده المجلس الوطني الفلسطيني على التوالي، في 15/1/2018 و 30/4/2018 لضغوط الشارع الفلسطيني ومسيرات الغضب في الضفة، ومسيرات العودة وكسر الحصار في قطاع غزة، وتبنى قرارات ملزمة بفك الإرتباط بإتفاق أوسلو، وبروتوكول باريس، وطي صفحة المفاوضات الثنائية، ونقل القضية الوطنية الى الأمم المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية. قرارات من شأن تطبيقها أن تعيد صياغة السياسة الفلسطينية لتخرج من أوسلو، نحو العودة الى العمل بالبرنامج الوطني الفلسطيني.
المعضلة تكمن على الدوام في الرأس القيادي الفلسطيني.
• اتفاق أوسلو جرت هندسته، والتفاوض بشأنه، من خلال «المطبخ السياسي» الذي يديره الرأس القيادي في م.ت.ف من خلف الهيئات، وبعيداً عن رقابة الشارع وخلافاً لإراداته.
• قرار حل كتائب شهداء الأقصى، وتوقيع اتفاق الهدنة مع شارون ثمّ من دون التشاور، لا مع قيادة فتح، ولا مع القيادات الفلسطينية. وحتى عندما ذهبت القيادات الى القاهرة في آذار (مارس) 2005 للتحاور، كان «المطبخ السياسي» قد وقع اتفاق الهدنة مع شارون.
• أما قرارات المجلسين المركزي والوطني، الأخيرين، فما زالت معطلة بقرار من «المطبخ السياسي» (لاحظوا أن اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية مازالت معطلة ولم تعقد اجتماعاً واحداً لها حتى الآن منذ انتخابها في المجلس الوطني في 4/5/2018).
إذن نحن أمام واقع سياسي واضح:
• حركة شعبية فلسطينية، ناهضة، أفقدت من جيش الإحتلال بأسلحته الفتاكة قدرته على الردع، متبدعة أساليب متنوعة من النضالات.
• قيادة رسمية، لا تملك إرادة الصمود في وجه الضغوط، تلوك المواقف السياسية، لكنها أضعف من أن تقدم على تنفيذ قرارات الهيئات بالصدام مع الإحتلال.
هذا يعني أن على الحركة الشعبية الفلسطينية أشواطاً كبيرة لا بد أن تقطعها في الضغوط على القيادة الرسمية، للإلتزام بقرارات الهيئات وسياساتها البديلة لأوسلو.
ومن علامات النجاح المؤكد للحركة الشعبية على تحقيق أهدافها أنها، بتضحيات غالية، استطاعت أن تشلّ قدرة جيش الإحتلال على الردع.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف