​“هدفنا ليس ابقاء الامور ثابتة بدون تغيير. احيانا يجب اخذ مخاطرة استراتيجية لكسر اشياء من اجل تحقيق الهدف”، كتب غارد كوشنر، مستشار وصهر الرئيس الامريكي في شهر كانون الثاني الماضي، لعدد من كبار البيت الابيض. في البرقية التي كشف عنها موقع “فورن بوليسي” في بداية شهر آب يتناول كوشنر الحاجة للعمل ليس فقط ضد استمرار وجود وكالة غوث اللاجئين التابعة للامم المتحدة “الاونروا”، بل ايضا اعادة تحديد عدد الفلسطينيين الذين يحملون صفة لاجيء.
حسب تقارير من واشنطن فان في نية الادارة الاعتراف فقط بنصف مليون لاجيء فلسطيني يحظون بمكانة لاجيء خلافا لتعريف الامم المتحدة، التي تعترف بوجود 5 ملايين لاجيء. كوشنر بحث هذه الامور ايضا مع ملك الاردن عبد الله، الذي طلب منه نزع صفة لاجيء عن اللاجئين الذين يعيشون في المملكة.
اضافة الى القرار السابق، الاعتراف بالقدس كعاصمة لاسرائيل ونقل السفارة الامريكية اليها. واضافة الى تجميد مبلغ 200 مليون دولار من اصل 250 مليون دولار التي تمنحها الولايات المتحدة للفلسطينيين كمساعدات انسانية ولدعم المشاريع، فان النية لتقليص المساعدات للاونروا تستند الى نفس الاستراتيجية التي تقول إن ما لا يمكن حله من خلال المفاوضات يمكن حله من خلال قرارات احادية الجانب. الكسر من اجل التغيير، حسب اقوال كوشنر.
هذه الاستراتيجية البلطجية لا تتساوق مع اعلان ترامب الذي يقول إن “الفلسطينيين سيحصلون على شيء ما جيد” مقابل نقل السفارة، وهو يناقض حلمه بخصوص “صفقة القرن”، الذي فيه سيضطر الطرفان لدفع ثمن باهظ من اجل التوصل الى السلام. في هذه الصفقة الآخذة في النزول عن جدول الاعمال هناك امر واحد واضح فيها – الثمن الذي سيدفعه الفلسطينيون والذي دفعوه حتى الآن. حسب نظرية ترامب بقي عليه الآن فقط أن يملي حدود دولة اسرائيل وفقا لخارطة الاستيطان وأن يحدد من واشنطن مكانة الاماكن المقدسة، وبذلك يستطيع عرض اتفاق السلام التاريخي الذي سيتم التوقيع عليه بوجود الطرفين، رئيس الولايات المتحدة ورئيس حكومة اسرائيل.
مشكلة اللاجئين هي موضوع ثنائي الابعاد. على البعد القومي الرمزي يمثل حق العودة للفلسطينيين – حسب ما تم تعريفه في قرار 194 للامم المتحدة من العام 1948 – ذريعة للنزاع بين اسرائيل والفلسطينيين. وعليها تستند المطالبة التاريخية بالعدالة التي سلبت منهم في اعقاب حرب الاستقلال التي تسببت بالنكبة واللجوء الفلسطيني. التنازل عن مشكلة اللاجئين وعن حق العودة يعتبر خيانة للفكرة القومية ومنح العفو بدون مقابل لمن تسبب بالظلم الكبير للفلسطينيين.
ولكن ايضا للرموز يوجد ثمن. دول كثيرة حدثت فيها نزاعات وطنية وجدت طرق للتصالح والتسامح بدون نسيان المآسي التي حلت بها. مثلا، تصالح اسرائيل مع المانيا أو القبائل المتخاصمة في رواندا. وشبيها بذلك ايضا القيادة الفلسطينية اوضحت بأنها مستعدة للتفاوض مع اسرائيل على حق العودة. في العام 2002، في القمة العربية التي عقدت في بيروت، أوضحت الدول العربية بأنها ستوافق على حل عادل ومتفق عليه على قاعدة القرار 194. هذه كانت الصيغة الرسمية الاولى التي اخترقت الحائط الحصين الذي منع البحث في هذا الامر.
بعد سنوات من ذلك اوضح الرئيس الفلسطيني محمود عباس بأن “مطالبة اسرائيل باستيعاب 5 ملايين لاجيء هي امر غير منطقي. ايضا ولا مليون حتى”. حسب وثائق عرضتها قناة “الجزيرة ” في 2010 فان عباس بحث مع حكومة اهود اولمرت استيعاب نحو 100 ألف لاجيء، بوتيرة 10 آلاف في كل سنة على مدى عشر سنوات (اولمرت عرض 25 ألف لاجيء). الطرفان اعترفا في حينه بأن المطالبة بالحد الاعلى أو الرفض الكامل لن يؤديا الى أي حل. والسؤال في حينه كان ما هو العدد الذي يستطيع كل طرف التعايش معه بسلام مع الجمهور. البعد العملي لحق العودة انتقل بناء على ذلك من اجل ترجمة الشعار الى ارقام، ترجمة يمكنها أن تكون جزء من المفاوضات مثل مكانة القدس.
إن رفع بلطة ترامب على عدد اللاجئين يمس بشكل مباشر بأبعاد المشكلة. وهو يعقد حلها بدون أن يطرح حل عملي. حتى لو قبل الفلسطينيون بصورة مدهشة الموقف الامريكي، ماذا سيكون مصير النصف مليون لاجيء؟ هل سيسمح لهم بالعودة الى بيوتهم؟ هل النصف مليون لاجيء فلسطيني مقابل الخمسة ملايين لاجيء سيقلص فداحة الظلم التاريخي في نظر الفلسطينيين؟ هل المفاوضات ستنتقل الآن الى مسائل حسابية بدل البحث عن اتفاق مبدئي دون صلة بعدد اللاجئين؟ بشكل عام، على أي اساس تقرر الادارة الامريكية أن عدد اللاجئين هو نصف مليون لاجيء؟ ترامب ليست لديه اجابات على هذه الاسئلة. في الوقت الحالي كل همه هو ابادة الاونروا عن طريق عرضها كمن تخلد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين. أي أنه بدون وجود الوكالة لا توجد مشكلة لاجئين. واذا كانت مع ذلك موجودة فهي أمر هامشي. ترامب محق في أن وكالة الغوث هي جسم فاسد لا يستطيع التفاخر بالشفافية في نشاطاته وصرف امواله. لكنها منظمة تقوم باعالة أكثر من 22 ألف شخص في جهاز التعليم، وتشغل عشرات المدارس وتوزع آلاف الطرود الغذائية. المنظمة تعتبر مصدر مساعدة اساسي وحتى حصري لمئات آلاف اللاجئين. إن تقليص ميزانيتها يمكن أن يمس بشكل كبير قدرتها على العمل، لكن اذا قررت الدول العربية استكمال الميزانية التي تقتطعها الولايات المتحدة فلن يكون لقرار ترامب معنى عملي كبير. الادارة الامريكية تقترح نقل دعم مباشر للدول التي تستضيف اللاجئين وبذلك تتجاوز “الاونروا”، لكن في نفس الوقت، الولايات المتحدة تقلص المساعدات للفلسطينيين ولا توضح كم سيكون مبلغ المساعدات للدول المضيفة.
ايضا ادعاء الرئيس الامريكي الذي يقول إن اللاجئين الفلسطينيين فقط هم الذين يحظون بـ “حق التوريث” لمكانة لاجيء هو ادعاء صحيح. ميثاق جنيف وكذلك تعريف الامم المتحدة للاجئين (خلافا لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين) ينصان على أن اللاجئي هو من اضطر بنفسه الى الهرب الى دولة اخرى بسبب ظروف حرب أو مطاردة، لكن هذه المكانة لا يمكن توريثها. بين الفينة والاخرى نشرت تقارير بأنه في وزارة الخارجية الامريكية يوجد تقرير سري عن عدد اللاجئين الفلسطينيين الحقيقي، الذي معطياته أقل بكثير حتى من اقتراح ترامب، لكن لم يتم نشره لاسباب سياسية.
حق التوريث هو الذي خرق حقا الحجم الكبير لعدد اللاجئين الفلسطينيين، لكن خلافا للاجئين آخرين لم يكن للفلسطينيين دولة يعودون اليها بعد انتهاء الحرب، وأجيال من اللاجئين بقيت بدون قومية، وإن حصلوا على المواطنة في عدد من الدول. إن اقامة دولة فلسطينية مستقلة تستوعب اللاجئين يمكنها حل مشكلة الانتماء القومي وموضوع جنسيتهم. ولكن لهذه الغاية يجب التوصل الى مفاوضات ينتج عنها اتفاقات سياسية. ترامب في المقابل، يقترح طريق اصيلة. في البداية هو يحدد أن المشكلة ليست موجودة، وحينها يتم التفاوض.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف