عقد المجلس المركزي لـ «م.ت.ف» اجتماعًا آخر في رام الله (15 - 17 آب/أغسطس)، استمرارًا لاجتماعات ولقاءات أخرى عقدتها مؤسسات «م.ت.ف»، السلطة الفلسطينية وفتح في أثناء الأشهر الأخيرة. واستهدفت هذه اللقاءات مواجهة التحديات السياسية على جدول الأعمال، منها التغيير الحاد في موقف الإدارة الأمريكية من الفلسطينيين ومن النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، وكذا محاولات العمل على تهدئة / تسوية بين حماس وإسرائيل في قطاع غزة بدون السلطة، بقيادة المصريين، بإسناد أمريكي وبتنسيق مع إسرائيل.
لقد انعقد المجلس فيما كان يحوم فوقه إحساس بالتهديد على حصرية «م.ت.ف» كممثل وحيد للشعب الفلسطيني، إمكانية فرض حل على الفلسطينيين ـ يقطع القطاع عن الضفة الغربية ـ عزل أبا مازن بشكل شخصي، لوقوفه ضد كل خطوة من شأنها أن تحقق سياسة إدارة ترامب في المنطقة، ولا سيما حين حاولت هذه، بتقديره، دق اسفين في الساحة الفلسطينية. ولهذا فإن الخطاب الذي انطلق في هذا الاجتماع تميز بالتهديدات والتحذيرات من المس بالمصالح الوطنية الفلسطينية، من خدمة الأمريكيين والإسرائيليين، الذين يتطلعون إلى تخليد الانقسام، ومنع إقامة الدولة الفلسطينية في الصيغة التي وضعت في 1988 وتحقيق «صفقة القرن»، التي يعدها مبعوثو الرئيس ترامب منذ نحو سنة ونصف. في خلفية الاجتماع برز غياب الجبهة الديمقراطية عن المداولات، احتجاجًا على طرد رجالها من المناصب التي كانوا يتبوأونها في م.ت.ف وما وصف بأنه سيطرة من فتح على م.ت.ف واتخاذ القرارات الوطنية الفلسطينية بشكل منفرد. لقد أثار هذا الغياب استياء فتح أكثر من غياب محافل أخرى، بينها الجبهة الشعبية (التي تكثر من التغيب عن هذه الاجتماعات في السنوات الأخيرة)، ومنظمة مصطفى البرغوثي (المبادرة الوطنية الفلسطينية)، وذلك لأن تواجد الجبهة الديمقراطية كان سيمنح الاجتماع طابعًا فلسطينيا عاما.
البيان الختامي للمجلس حمل طابعا تصريحيا، وكانت التصريحات المركزية كالتالي:
٭ تعريف العلاقة مع إسرائيل يقوم على أساس: «صراع بين الشعب الفلسطيني ودولته التي توجد تحت الاحتلال وبين قوة الاحتلال». الاستقلال يبقى الهدف الأساس. والفترة الانتقالية من خمس سنوات - التي تقررت في اتفاقات أوسلو - لم تعد سارية المفعول في ضوء تجاهل إسرائيل لهذه الاتفاقات.
٭ شجب قرارات ترامب في موضوع القدس ونقل السفارة الأمريكية. الولايات المتحدة، في خطوتها هذه، فقدت مكانتها كوسيط نزيه ولن يكون بوسعها بعد اليوم أن تتحمل هذه المهامة وحدها.
٭ القول بأن المحاولات لتحقيق تسوية ما في قطاع غزة هي موضوع وطني لـ «م.ت.ف» وليس لفصيل معين في الشعب الفلسطيني، مثلما كان في محادثات 2014 بعد حملة الجرف الصامد. محاولات التسوية هذه تستهدف تحقيق «صفقة القرن» للإدارة الأمريكية، لإقامة دولة في غزة، لتخليد الانقسام وعمليا إنهاء إمكانية الدولة الفلسطينية على أساس خطوط 1967.
إضافة إلى ذلك، اتخذت قرارات تعطي هذه التصريحات تعبيرًا ملموسًا وفقًا لجدول زمني يتقرر لاحقًا، ومنها:
٭ العلاقة مع إسرائيل ـ أقر المجلس توصيات رفعتها إليه اللجنة التنفيذية لـ «م.ت.ف» بشأن تنفيذ قرارات المجلس الوطني الفلسطيني حول منظومة العلاقات مع إسرائيل ووضع خطة عامة، مع جدول زمني. ومن القرارات: تجميد الاعتراف بإسرائيل إلى أن تعترف بالدولة الفلسطينية في خطوط 1967، ووقف التنسيق الأمني مع إسرائيل، وكذا فك الارتباط عن بروتوكول باريس للتنسيق الاقتصادي بين الطرفين. وذلك، في إطار الانتقال من مرحلة السلطة الفلسطينية إلى مرحلة الدولة (وإن كان دون حل مؤسسات السلطة).
٭ التمسك بالدعوة لعقد مؤتمر دولي برعاية دولية جماعية، يضم الدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن. ويعقد المؤتمر على أساس قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، ومبادرة السلام العربية والأفكار التي طرحها أبو مازن في خطابه في مجلس الأمن في 20 شباط/فبراير 2018 في أعقاب إعلان القدس لترامب (حيث دعا إلى أن يعقد في أثناء 2018 مؤتمر دولي برعاية آلية متعددة القوميات واعتراف كل أعضاء الأمم المتحدة بالدولة الفلسطينية).
٭ مكافحة «صفقة القرن» ـ رفض المجلس كل ما اعتبر محاولات لتصفية القضية الفلسطينية والمشروع الوطني الفلسطيني، بما في ذلك كل حل مؤقت أو إقامة دولة في قطاع غزة. ووصفت الولايات المتحدة بأنها شريك لإسرائيل وجزء من المشكلة وليس الحل، ولهذا فإن مكافحة الصفقة التي ستطرحها الإدارة الأمريكية والجهود لإفشالها ستستمر. كما تقرر مواصلة القطيعة مع الإدارة الأمريكية إلى أن تتراجع عن قراراتها بالنسبة للنزاع وحله.
٭ دعوة لمقاطعة منتجات المستوطنات.
٭ في أعقاب إقرار قانون القومية في إسرائيل ـ الدعوة إلى تعزيز حملة الـ «بي.دي.اس» ودعمها.
٭ تشكيل لجنة وطنية عليا لشؤون القدس تكون مصدر الصلاحيات الحصري لكل ما يتعلق بالمدينة.
٭ مطالبة اللجنة التنفيذية بالعمل على حل الخلافات بين الفصائل المختلفة في الساحة الفلسطينية للوصول إلى شراكة وطنية في صفوف المنظمة.
التقدير: منذ إعلان دونالد ترامب الاعتراف بالقدس كعاصمة إسرائيل، ونقل السفارة إلى القدس، والتغييرات الجديدة في سياسة الإدارة الأمريكية تجاه المسألة الفلسطينية، تعاظمت التحديات التي تواجهها السلطة الفلسطينية ورئيسها أبو مازن. أما مصر، فسواء بسبب الاستجابة للضغوط الأمريكية أم للتفاهمات بينها وبين إسرائيل، أم لأن همها يتركز على استقرار الهدوء على طول حدودها مع قطاع غزة، فقد أوضحت عمليًا بأنها ستكون مستعدة لكل تسوية/ وقف نار في قطاع غزة، ولو كان ذلك بدون موافقة أبو مازن والسلطة. وذلك رغم أن القاهرة تواصل علنيًا التعاطي مع السلطة بمكانة الهيمنة وتوضح بأن موافقتها ضرورية بل وإلزامية لتقدم المسيرة السياسية.
ولكن بموقفها هذا، تمنح مصر حماس مكانة لم تكن لها من قبل. فبمجرد إيضاحها بأن السلطة لن تكون عائقًا أمام التسوية في القطاع، وضعت حماس في مكانة مساوية لها. إذا حققت حماس تأييد الفصائل الفلسطينية الأخرى للتسوية، فيمكنها أن تدعي بأن هذا إجماع فلسطيني عام. بينما الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية قاطعتا اجتماع المجلس المركزي فقد أضعفتا مكانة م.ت.ف كمنظمة عموم فلسطينية، ناهيك عن أنهما أعلنتا بأنهما لن تسهما في الخطوة المصرية بدون فتح. وبسبب طبيعتهما العلمانية، وإن كانت الجبهتان تنفر بشكل عام من التنسيق بلا إسناد فتح مع جسم إسلامي، مثل حماس، إلا أنها هذه المرة على الأقل، وللجبهة الديمقراطية تحديدًا، هناك مصلحة للحساب مع أبو مازن بسبب إقصائه رجالها عن المناصب التي كانوا يتبوأونها في «م.ت.ف».
إن أبو مازن وفتح ينجحا حتى الآن في رد الحرب الصاع صاعين. وباسم الإجماع الوطني الفلسطيني، تم اعتراض كل محاولات مبعوثي الرئيس لتقدم صفقة القرن. وبإسناد السعودية، والأردن وحتى مصر، دفع ابو مازن وفتح مبعوثي ترامب إلى الاعتراف بعدم قدرتهما على تخطي العائق الذي يضعه أبو مازن في وجه الصفقة، ونتيجة لذلك تقليص نشاطهما في هذا المجال. منذ فشل محاولات تأهيل القطاع، يعمل مبعوثو الإدارة من خلف الكواليس ويركزون على تصريحات علنية مشتركة تهتم بإيجاد حل للأزمات الاقتصادية.
يبدو أن الطرفين في الساحة الفلسطينية يحتفظان اليوم بتفوق معين. أبو مازن، الذي لا يزال يتمتع ـ رغم ما أشير إليه أعلاه ـ بمكانة الممثل الحصري للشعب الفلسطيني، يمكنه أن يتحدث باسم الإجماع الوطني ويعطل المحاولات التي تقوم بها القاهرة لتحقيق تسوية في قطاع غزة بدونه. أما حماس من جهتها فتتحدث باسم ضائقة سكان القطاع. ورغم المس المتواصل بمكانتها، فإن ادعاءاتها بشأن مسؤولية السلطة الفلسطينية وأبو مازن نفسه عن هذه الضائقات تقع على آذان منصتة في الرأي العام الفلسطيني، بسبب مكانة أبو مازن «كأخ أكبر» يمسك بالمقدرات الوطنية.
إلى أن تستأنف المحادثات في القاهرة حول التسوية، اتصالات كثيرة كفيلة بأن تتم بين الأطراف المتنازعة في الساحة الفلسطينية، مباشرة أم عبر طرف ثالث. في صراعات من هذا النوع، ثمة علامة

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف