بمناسبة الخبر الذي نشر في الصفحة الاولى في “هآرتس” الذي يقول إن محمد زغلول الريماوي، الفلسطيني إبن 24، قتل بعد مهاجمته، حسب ادعاء العائلة، بأيدي جنود اعتقلوه في بيته في بيت ريما التي تقع في الضفة الغربية (“هآرتس”، 20/9). تحقيق الجيش الاسرائيلي الذي تضمن تشريح الجثة، ينفي ادعاء العائلة – لم أتمكن من عدم تذكر قصة عائلتي قبل 80 سنة.
جد جدي، ايلي مايزنبرغ الذي كان في ثلاثينيات القرن الماضي ساعاتي معروف في بلدته كيغنوفتشي فارفيا في محافظة بولسيا، لواء كييف (بلدة منذ 1957 تسمى بولسكا، واليوم اخليت تماما من سكانها نتيجة لكارثة تشرنوبل)، جدي اعتقل في بيته من قبل شرطة ن.ك.و.د المحلية. بتهمة اعمال تآمرية مضادة للاتحاد السوفييتي. تم اخذه الى المعتقل للتحقيق، واطلق سراحه بعد بضعة ايام وبعدها فورا توفي في اعقاب الضربات القاسية التي تلقاها من محققيه.
الاختلافات العميقة بين سنوات الارهاب الستاليني الكبير في الاتحاد السوفييتي، والتي خلالها فقد جد جدي حياته، وبين حكم الارهاب للكولونيالية العسكرية – الدينية الاسرائيلية في الاراضي المحتلة هي كبيرة وبارزة للعيان. مع ذلك، يصعب تجاهل وجه شبه واحد ووحيد وصعب. ومثلما توقع فيودور دوستويسكي في روايته المتنبئة “شياطين”، 1872، بخصوص الانظمة الشمولية العتيدة، الديكتاتورية الشيوعية السوفييتية في عهد ستالين كانت قائمة على انظمة تعاون بين السلطة ورعاياها، وفوق كل شيء على نوع من مؤسسة اجتماعية شبه رسمية باسم الوشاية.
هذه المؤسسة التي كانت اداة حيوية جدا للوجود الفعال لنظام الرعب الستاليني تحولت بالنسبة لمواطنين سوفييت غير قليلين الى طريقة سهلة للتقدم في السلم المهني وتحقيق اهداف مختلفة. بواسطة الوشاية عن رئيس العمل أو عن زميل مؤهل جدا كان يمكن التقدم مهنيا. بواسطة الوشاية كان يمكن الاستيلاء على ممتلكات الجار، وازاحة منافس من سكة قلب الحبيبة أو المحبوب، أو مجرد تصفية حسابات شخصية مع فلان المجهول. اجل، ايضا جد جدي سقط ضحية لوشاية الجيران.
بصورة مشابهة جدا، ايضا سلطة الاحتلال الاسرائيلي قائمة بدرجة كبيرة على مؤسسة المتعاونين، سواء المكشوفين (التنسيق الامني مع السلطة الفلسطينية التي هي رهينة لسلطة الاحتلال) أو المخفيين (عملاء الشباك في اوساط الفلسطينيين العاديين، الذين معظمهم كما هو معروف يقعون بأنفسهم تحت انواع كثيرة من الضائقات الانسانية الصعبة، التي تستغل بصورة فعالة من قبل سلطة الاحتلال لاغراض الوشاية من اجل تعميق سيطرتها على السكان الفلسطينيين). اجل، ايضا من الاعلان بشأن موت الريماوي في الاسبوع الماضي يتضح على ما يبدو معلومات تتعلق بالتنسيق الامني الوثيق بين اسرائيل والسلطة – حيث أنه حسب اقوال شقيق المتوفي، اتصل بالعائلة ضابط في المخابرات الفلسطينية وسأل اذا كان الريماوي يعاني من مشاكل صحية.
التبرير الرسمي والمكشوف لاسرائيل لاغراق الضفة الغربية بالجيش غير المرئي من العملاء الواشين، هو محاربة الارهاب، الذي في جزئه الاكبر مخصص لتوفير الامن لمشروع الاستيطان غير القانوني. ولكن يرتبط بذلك بصورة لا مناص منها الدافع الخفي، الذي يميز منذ الازل كل احتلال وكل سلطة غير شرعية، الذي اساسه الرغبة في كسر روح السكان المضطهدين. حيث أنه كلما زادت الشكوك التي تعشعش في كل قرية وفي كل شارع وفي كل عائلة فلسطينية بأن الجار، إبن العم أو الأخ هم المتعاونون مع سلطة الاحتلال، هكذا يقضمون اكثر فأكثر البنى الاساسية الوطنية – الاخلاقية للمجتمع الفلسطيني، ويعمقون بشدة الانفصال الداخلي في داخله ويؤمنون استمرار مشروع الاحتلال والاستيطان لاجيال كثيرة.
ولكن يتبين أن طموحات سلطة الاحتلال الاسرائيلي لتقويض نفسية الشعب الفلسطيني لا تنجح. ليس فقط لأن المقاومة الفلسطينية للاحتلال لم تختف، بل تحولت الى اكثر نجاعة مما كانت في السابق بفضل تبني متزايد لوسائل النضال غير العنيفة، مثل الدعوة العنيدة لاستخدام ضغط دولي على اسرائيل المحتلة والاستيطانية، أو المقاومة الشعبية غير المسلحة مثل التي تمثلها عهد التميمي.
من الواضح أن هذا لا يكفي للتغلب في هذه الاثناء على اجهزة القمع المحكمة والغنية لآلة الاحتلال الاسرائيلي. ولكن على المدى القصير فان استمرار وتوسع الاحتجاج الفلسطيني غير العنيف ضد الاحتلال ضروري جدا من اجل وقف عملية التفكك الداخلي لـ “الأنا” القومية الفلسطينية، التي يعمل على تحقيقها النظام الكولونيالي الاسرائيلي بطرق ظلامية تتمثل بتفكيك النسيج الاجتماعي الفلسطيني، تلك الوسائل التي لا تخجل الكثير من الانظمة الظلامية في القرن الماضي. في نفس الوقت، على المدى الابعد، المقاومة غير العنيفة للفلسطينيين للاحتلال تحمل في طياتها ربما الامل الاخير لخلاص الشعب اليهودي في اسرائيل من الخجل القومي الذي يكتنف قمع واستعباد شعب آخر.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف