عشية رأس السنة توجه أكثر من 200 مواطن ببيان كبير في الصفحة الاولى لـ «هآرتس» إلى «الجمهور الملتزم بالقيم الاساسية الانسانية في اسرائيل لتأكيد التزامه بتلك القيم، والتعبير عن المعارضة الشديدة «التي لا هوادة فيها» لمواصلة بقاء نظام الاكراه والقمع السائد في المناطق الفلسطينية التي احتلت سنة 1967».
وبعد ايام معدودة من ذلك نُشر في صفحات الرأي في الجريدة مقال ممتاز لأحد الموقعين على البيان، كتب فيه: «الاغلبية المطلقة من الجمهور اليهودي في اسرائيل - تلك التي عُرّفت مؤخراً في قانون اساس كدولة قومية أحادية القومية، والتي تدمج هويتها بمعايير اثنية، عرقية وثقافية - يعيش منذ سنوات في انكار يمكّنه من مواجهة الاستياء الكامن في حقيقة أن دولته ترتكب منذ عشرات السنين جرائم تعتبر جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية» (دانييل بلتمان 14/9).
إحدى هذه الجرائم ترتكب هذه الايام بصورة اكثر شدة: تطهير عرقي. منذ شهور، في كل مرة أذهب فيها الى غور الاردن مع اعضاء المجموعة المصممة الصغيرة لـ «تعايش»، أكون شاهدةً على تقدمه: بصورة ممنهجة وبتصميم وبقسوة تقوم اسرائيل بالتضييق على كسب الرزق وبمرمرة حياة آلاف من عائلات الرعاة المنتشرين في تجمعات صغيرة في هذا الفضاء الواسع الصحراوي، والذي فقط تزدهر فيه المستوطنات اليهودية، حيث إن هذه البقعة من الارض والتي تبلغ تقريبا ثلث الضفة الغربية أعدت لتكون أحادية العرق.
العديد من الادوات اخترعتها الدولة اليهودية بهدف طرد الناس غير المرغوبين، هؤلاء الذين يعيشون هناك منذ أجيال: حوالى نصف المنطقة يعتبر»منطقة عسكرية مغلقة»، أغلبها مناطق نيران. حوالى خمسها يعتبر «محميات طبيعية». حول المستوطنات، ثمة مناطق واسعة تعتبر «منطقة أمنية خاصة». كل هذه المساحات - حوالى 85 في المئة من الغور- ملكيتها مصادرة واستخدامها محظور على السكان غير اليهود: يحظر عليهم أن يقيموا عليها خيامهم ويحظر عليهم البناء عليها، وكذلك الرعي فيها ممنوع. لا يسمحون لهم بالاتصال بالبنى التحتية، ممنوعون من المياه الجارية، والكهرباء، والشوارع. مئات من المباني والخيام سبق أن هدمت، وكذلك من المساكن البائسة المثيرة للشفقة، التي ما زال يسمح لهم ولقطعانهم حتى الان أن يستظلوا فيها، يخلونهم اياما كاملة لاغراض التدريبات العسكرية.
ليس هنالك عدد للجرائم التي ترتكب هنا يومياً.
اليكم ما يبدو عليه الأمر، في «أسبوع الايام الفظيعة» المكان شمال غور الاردن. على أحد التلال قامت قبل سنة أو سنتين نقطة استيطانية اسمها «اغنية الأعشاب».
على سفح التلة تنتشر تجمعات بدوية. كل هذه المنطقة تعتبر»منطقة نيران». المنطقة التي تقع خلفها غير مؤشر عليها في الخارطة حتى كمنطقة نيران ولا كمحمية طبيعية. واسعة هي منطقة النيران تلك، والأعشاب فيها قليلة في هذا الموسم، لهذا فالرعاة يبحثون لقطعانهم بين التلال عن القليل من الأعشاب التي ما زالت متبقية فيها، ولكن المستوطنين والجنود يطردونهم بعنف وبتهديدات وباعتقالات. حتى وقت اقامة النقطة الاستيطانية كانوا يرعون فيها. منذ أن أقيمت النقطة الاستيطانية والاعشاب تغني فقط لسكانها اليهود، المسلحين بالسلاح والعصي، وبالتراكتورات الصغيرة وبالكلاب. هم الذين يرعون غنامهم على التلال.
وهكذا في أحد الأيام الفظيعة تلك، صعدنا إلى التلال التي تحيط بالبؤرة الاستيطانية: شابان وفتاتان. أردنا «تأكيد التزامنا بالانسانية في اسرائيل» كما هو مكتوب في ذلك البيان. أردنا تمكين الرعاة البدو من أن يطعموا هم أيضا اغنامهم. لم ننجح. وربما أيضا لأننا كنا قليلين جداً. أمام أعيننا، بعيدا عن النقطة الاستيطانية، داخل «منطقة النيران» انطلق على ظهر حماره شاب يعتمر قبعة مطرزة كبيرة وبسوالفه الطويلة المجعدة. بين رجليه كان يركض كلب رعي ألماني، وحوله كان هنالك قطيع من الاغنام جميلة المنظر، والاغنام تمضغ طعامها. بعد وقت قصير اقترب منا جيب عسكري ونزلت منه 3 مجندات: «هذه منطقة نيران» قلن لنا ،» أنتم تعرضون حياتكم للخطر اخرجوا حالاً». لم نغادر حالاً ولهذا تم توقيفنا لفترة ما، وعدنا حزينين كل الى بيته.
بعد يومين طرد من هناك الرعاة البدو وطرد أيضاً مرافقوهم الاسرائيليون القليلون وتم توقيفهم لفترة ما، وبعد ذلك اطلق سراحهم. ولكن هذه المرة تمت مصادرة سيارتهم. هذه المرة قال لهم الجنود إنه أعطي لمستوطني «أغنية الاعشب» تصريح خاص لرعي قطيعهم في»منطقة النيران». أمر كهذا حتى الآن لم نسمع عنه. ولكن سواء أكان هذا كذباً أو كان حقيقة، فهكذا هو الواقع هنا طوال الوقت، حول كل بؤرة استيطانية. ومؤخراً تقام في غور الاردن المزيد من البؤر الاستيطانية من مبعوثي المستوطنات. هذه المستوطنات توفر لهم المياه والكهرباء، ويوفر الجيش لهم الأمن صباح مساء. في الليالي يكثرون من زيارة التجمعات البدوية- عليهم أن يعرفوا أن الله لن يتخلى عن اسرائيل و»يهودا» وخاصة اله الجيوش: ليذهبوا من هنا، ليتبخروا.
«المعارضة لنظام القمع العنيف هذا أمر اخلاقي وضرورة وجودية نظراً للأخطار التي تكتنف استمرار هذا النظام»، هكذا أصدر من صاغوا البيان عشية رأس السنة حكمهم. ولكنهم صمتوا ولم يوضحوا أي معارضة يقصدون. ما هي تلك المقاومة «التي لا هوادة فيها» التي يطلبونها من الجمهور «الملتزم بالقيم الأساسية للانسانية في اسرائيل»؟
لقد كتب بلتمان في مقاله أن معظم اليهود في اسرائيل يعيشون اليوم داخل فقاعة انغلاق المشاعر... قبر يوسف في نابلس، الحي اليهودي في الخليل أو البؤر الاستيطانية غير الشرعية للنازيين الجدد في مناطق تهم معظم سكان أشدود، ريشون لتسيون ونتانيا كأهمية الثلج في العام الماضي.
هم لا يزورون هذه الاماكن، ولا يشاهدون سكانها». حسب رأيي حتى الأغلبية الساحقة من سكان تل أبيب لا يهمونهم. وبالرغم من ذلك ليس لديّ شك أنه في مدن اسرائيل وباقي بلداتها مع ذلك هنالك عدد لابأس به وربما حتى يتزايدون في هذا الوقت السيئ، حيث يرون أنفسهم ملتزمين بالتحديد بالقيم الاساسية للانسانية. فكيف تويدونهم يا من صغتهم البيان أن «يؤكدوا التزامهم»– الآن وحيث ان قواعد اللعبة هنا تغيرت كثيراً، الآن حيث يوجد لدينا مصلحة مع النازيين الجدد كما يقول بلتمان «مرتين» في مقاله الذي لا يوجد له مثيل في التطرف؟ لماذا سيداتي سادتي الاكادميين لا تشجعونهم بعريضة للانضمام الى حفنة من يخرجون إلى تلك الأماكن - الى «محطمي الصمت في الخليل» والى « تعايش» وإلى «دراما المشاركة الجماعية» في جنوب جبل الخليل والغور؟ وليس فقط عليكم، أن تتوسلوا لهم للانضمام بل أيضاً ان يرفضوا الاوامر غير القانونية للجيش، والذي ينفذ هذه الجرائم باسم الدولة وباسمهم كواطنيها. اليست تلك هي المقاومة المطلوبة في الظروف الحالية؟
«الوقوف خارج الاجماع ضرورة ليس فقط بسبب مضمونه الذي لا يحتمل» انتم تكتبون، «بل نظراً لأن إعطاء أولوية للانتماء الوطني على الانتماء الانساني يقتضي موافقة بالصمت على قمع الفلسطينيين.
ولكن في هذا الوقت أيضا الاكتفاء بالتوقيع على عرائض مراوغة من هذا النوع أو ذاك مرتبطة بالموافقة. ربما ليست موافقة بالصمت بل موافقة بالوقوف جانباً بصورة مريحة. لأنه في هذه الأثناء ما زال كل مواطن «يهودي» في اسرائيل قادراً على أن يرفع صوته من الآلة الكاتبة الموجودة في بيته دون أن يمسه شيء.
لقد عنونتم عريضتكم بـ «معارضة لنظام القمع في المناطق المحتلة» ولم تعطوا لهذه المعارضة أي مضمون، في الظروف الحالية وإزاء القوانين الجديدة، توسيع المستوطنات، وإنشاء بؤر استيطانية جديدة فإن المعارضة المناسبة الوحيدة هي العصيان المدني. حتى لو بدأ به فقط حوالي 200 من الموقعين على البيان، هذا الصوت - من قلب المجتمع الاسرائيلي - يكون علامة مميزة ومهمة في الطريق، وستكون مفيدة ومشجعة وصحيحة.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف