عندما تمّ التوقيع على اتفاق أوسلو، باتت ملامح الخطر الوشيك على حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم؛ خاصة وأن ملف التفاوض على القضية أحيل إلى مفاوضات الحل الدائم، دون الإشارة إلى منحى هذه المفاوضات، وخاصة أيضاً، أن شمعون بيريس أطلق مشروعه المعروف الداعي «إلى حل عادل متفق عليه بين الطرفين». وهو المشروع الذي عادت وتبنته ما يسمى «المبادرة العربية» في بيروت (2002)، للتأكيد على استعداد العرب للتخلي عن حق العودة، مقابل الدولة الفلسطينية، والتطبيع مع إسرائيل. وهو ما اعترف به بوضوح شديد، ودون أي غموض نائب رئيس الوزراء الأردني الأسبق، والسفير الأردني الأول إلى إسرائيل، الدكتور مروان المعشر في كتابه الصادر عن «دار النهار» في بيروت تحت اسم «نهج الاعتدال».
لجان حق العوة، والمراكز البحثية، والمجتهدون في الصحافة الفلسطينية أبدو اهتماماً ملحوظاً بملف اللاجئين وحق العودة مع اقتراب موعد مفاوضات الحل الدائم. وأدى الجميع بدلوه في تسليط الضوء على هذه القضية ومحورية موقعها في القضية الوطنية، وخطورة العبث بها، أو المقايضة بها، أو تجزئة حلها، مؤكدين في الوقت نفسه أن حق العودة، إلى جانب كونه حقاً جماعياً للشعب الفلسطيني الا أنه في الوقت نفسه حق فردي لا يحق لأي مفاوض أو مسؤول فلسطيني، مهما علت مرتبته، أن ينوب عن أصحابه في البت به. هو حق لا مقايضة عليه ولا تجزئة له، ولا إنابة فيه. وانعقدت مؤتمرات اللاجئين، في الضفة الفلسطينية، وفي القدس، وفي مخيمات الشتات، وفي أوروبا، وكلها أجمعت على رفض العبث بقضية اللاجئين، مؤكدة على التمسك بحق العودة إلى الديار والممتلكات التي هجر منها اللاجئون منذ العام 1948. ومع ذلك واصل المفاوض الفلسطيني في السير على طريق التنازلات، من القول بأن القرار 194 يكفل «التعويض» دون الإشارة إلى حق العودة، إلى القول بالعودة إلى «جناحي الوطن» في الضفة والقطاع، بديلاً للعودة إلى الديار في الـ48، إلى القول بحل يقوم على «توفير مكان سكن دائم للاجئ»، بديلاً لحق العودة، إلى القول بعودة لعدد من اللاجئين من المولودين في فلسطين دون ذريتهم، وعلى دفعات تمتد لعشر سنوات. وكلها جرى تقديمها كحلول، أبدى المفاوض الفلسطيني موافقته عليها، حتى أن الرئيس محمود عباس يحرص على الدوام، عند الإشارة إلى القرار 194 إلى الربط بينه وبين المبادرة العربية، التي أسقطت من نصوصها أية إشارة إلى حق العودة، ودعت إلى العمل بمشروع بيريس «حل عادل متفق عليه بين الجانبين»، أي أن يكون لإسرائيل حق الفيتو على «حق العودة»
* * *
الآن، لم تعد القضية، قضية تحليل، واحتمالات وتحذير، ومشاريع تطرح هنا وهناك، كبالونات اختبار، وكمحاولات لجس النبض. بل أصبحت القضية مطروحة على جدول الأعمال، في منحى سلبي لشطب حق العودة، يستفيد أصحاب هذا المشروع، من المقدمات كما وردت في المواقف الرسمية الفلسطينية، و«مبادرة السلام العربية».
إذ، وقبل أن يقوم ترامب بخطواته للإطاحة بحق العودة، مهدت حكومة نتنياهو المسرح بتقديم سلسلة تقارير، تمت صياغتها في أكبر المراكز الإسرائيلية ركزت على مدخلين لشطب حق العودة. المدخل الأول التشكيك بجدوى بقاء وكالة الغوث، واعتبارها سبباً من أسباب تعقيد المشكلة، ما يتطلب حلها أو إنهاء خدماتها. أما المدخل الثاني فهو التشكيك بالحالة القانونية للاجئين غير المولودين في فلسطين قبل العام 1948 مايؤدي إلى تقزيم المشكلة وتحويلها من مشكلة ستة ملايين لاجئ إلى مشكلة أقل من أربعين ألفاً، يغادرون الدنيا تباعاً، لكبر سنهم؛ في تعويل على دور عامل الزمن في حل المشكلة.
استقلبت الدراسات والتقارير الإسرائيلية هذه، بلا مبالاة من قبل القيادة الرسمية ودائرة شؤون اللاجئين، وفي أحسن الأحوال تم الرد عليها ببيانات عامة، لا تعالج الأمر، بدلاً من تجنيد فريق من المختصين لمتابعة القضية على الصعيد الدولي، ومقارعة التحرك الإسرائيلي النشط والخطير، بتحرك مضاد.
ترامب في خطواته لتنفيذ «صفقة العصر»، تبنى المشروع الإسرائيلي. فقلص، في خطوة أولى مساعدة إدارته للأونروا. ثم خطا الخطوة الثانية وأوقف تماماً تمويله لها، داعياً حلفاءه ليحذوا حذوه. ثم دعا إلى إعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني، لينزع الصفة القانونية عن ملايين اللاجئين، ما يقود، أيضاً من البوابة الأميركية إلى إنهاء القضية واستبعادها من ملف المفاوضات، بذريعة أنه لا شيء يصلح للتفاوض عليه.
* * *
القضية باتت الآن في دائرة الخطر. صحيح أن المجتمع الدولي هبّ لنجدة وكالة الغوث وأن المفوض العام اعترف بأن الحالة المالية للوكالة باتت أشبه بالطبيعية، لكن الصحيح أيضاً أن معركة الولايات المتحدة وإسرائيل ضد حق العودة، وباقي الحقوق الإجتماعية والإنسانية للاجئين لم ولن، تتوقف، وأن العقل العدائي لهذين الطرفين سيواصل طرح مشاريع هدفها اسقاط القضية. لذلك من الخطر بمكان النوم على مخدة حرير، والقول إن جزءاً مهماً من الأزمة المالية لوكالة الغوث قد وجد طريقة للحل. بل بات مطلوباً وضع خطة استراتيجية تتعاطى مع قضية القدس، والأقصى، ومايحيط بهما من مخاطر، وقضية الإستيطان وما تحمله من خطر على المشروع الوطني.
هذا يستدعي أولاً من القيادة الرسمية أن تتبنى سياسة واضحة، وغير غامضة، وغير ملفقة إزاء قضية اللاجئين؛ في المقدمة رفض أي حل بديل لحق العودة إلى الديار والممتلكات. والتوقف عن التراكيب اللفظية التي من أهدافها التمويه على الإستعداد للمقايضة بين حق العودة وقيام الدولة الفلسطينية. الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس الشرقية على حدود 4 حزيران، حق لا تراجع عنه ولا مقايضة عليه. وحق العودة إلى الديار والممتلكات التي هجر منها اللاجئون منذ العام 194، حق لا تراجع عنه ولا مقايضة عليه. والتأكيد أن القرار 194 كفل حق العودة إضافة إلى حق التعويض، لا تراجع عنه، والتوقف عن الإدعاء أن القرار المذكور يخير اللاجئ بين العودة والتعويض، والتوقف عن النغمة التي تقول: مادمنا لن نحصل على حق العودة، فلماذا لا نتمسك بحق التعويض؟
كما يستدعي من اللجنة التنفيذية، والقيادة الرسمية، والسلطة الفلسطينية، والمجموع الوطني الفلسطيني، وضع خطة متكاملة، بعناصرها وأدواتها، بالتعاون الوثيق مع حركة اللاجئين، والجاليات الفلسطينية في العالم، للتصدي لمحاولات شطب القضية؛ سياسياً، ومالياً، وإعلامياً.
على ذكر الإعلام الفلسطيني الرسمي... كم نتمنى على القائمين على هذا الإعلام التنبه إلى أن الشرعية الفلسطينية لا تقف عند حدود الدفاع عن «القيادة الفلسطينية وعلى رأسها السيد الرئيس»، بل تنطلق الشرعية أولاً وقبل كل شيء من شرعية الحقوق الوطنية الفلسطينية. إذا ما خسرت هذه الحقوق شرعيتها، فلن يبقى شرعية لأية قيادة، بمن فيها «القيادة الفلسطينية على رأسها السيد الرئيس».

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف