يمكن أن نفهم رغبة رئيس حركة “طريقنا”، منظمو مسيرة الذكرى لاسحق رابين هذا الاسبوع، بدعوة ممثلي اليمين الذي عارض بصورة شديدة نهج رابين الى القاء خطاب في التجمع التذكاري. حيث أن كل القوميات وكل الدول القومية دائما سعت الى تحويل احداث مقسمة في تاريخ الأمة الى مصدر ورمز للوحدة الوطنية الجديدة – لا شك أن قتل رابين يعد مع هذا النوع من الاحداث. ولكن، بصورة تتراوح بين التساذج والوقاحة، يغطي هذا الحدث على السبب الحقيقي للقتل ويدنس بذلك ذكرى رابين ويمنع الفهم لعمق تراث سياسته القومية – المدنية، الضرورية لمواصلة بناء الأمة في دولة اسرائيل.
وكما كتب هنا في السابق اكثر من مرة سلمان مصالحة، فان اسحق رابين قتل بسبب “شرف العائلة”. رابين أراد تحقيق اتفاقات اوسلو، التي رسمت الطريق لتقسيم ارض اسرائيل، بدون أن يتردد في الاعتماد على دعم اعضاء الكنيست العرب. حقيقة أنه سعى الى اشراك ممثلي مجمل مواطني الدولة، يهود وغير يهود، في قرار يعتبر في نظر اليمين القومي المتطرف والقومي المتطرف – الديني، قرار موجود في مجال الاختصاص الحصري للاغلبية القومية الدينية اليهودية، هو الذي وقف خلف التحريض منفلت العقال الذي أدى الى قتله.
بكلمات اخرى، رابين قتل بسبب كونه رئيس الحكومة الاول في تاريخ دولة اسرائيل الذي شجع فعليا دولة كل مواطنيها. ازاء هذا ولأن الهدف الاسمى لليمين في اسرائيل هو أن يفشل نهائيا تحقيق حلم الدولة الاسرائيلية التي تعود لكل مواطنيها، وهو الهدف الذي تحقق، كما يعتقد اليمين، بصورة نهائية مع سن “قانون القومية”، فان مجرد التفكير بشمل ممثلي اليمين المؤيدين للمركزية العرقية والعرقية – الدينية في التجمع ليس اقل من تدنيس لذكراه.
الكثيرون، ليس في اليمين فقط بل في اليسار ايضا المناهض للصهيونية بصورة واضحة، يعتقدون أن الدولة الاسرائيلية لكل مواطنيها تعني نهاية حلم السيادة وتقرير المصير للشعب اليهودي في دولته، ولكن في حقيقة الامر يصعب أن يخطر بالبال ادعاء اكثر رفضا.
دولة كل مواطنيها الاسرائيلية التي ستواصل في أن تسمى من قبل يهودي مؤمن مثله باسم “اسرائيل”، ستضم كل الخصائص اليهودية للجمهور والضرورية لتحقيق تقرير المصير اليهودي وتأمين المشاعر البيتية القومية للشعب اليهودي. اللغة العبرية ستواصل في أن تحظى بصورة طبيعية وبدون فرق بالمكانة المسيطرة في الحياة الثقافية اليومية. اعياد اسرائيل ستواصل تشكيلها للواقع اليومي في الدولة، ليس أقل مما تفعله الاعياد المسيحية في الولايات المتحدة. كذلك العلم والنشيد ايضا، رغم كونهما شفافين في جوهرهما بصورة واضحة لواقع السيادة والحرية، يمكن أن يبقيا على حالهما. ولو فقط بسبب أن تغييرهما سيؤدي الى زعزعة رموز الهوية الغالية على قلب مواطني الدولة اليهودية، الامر الذي لن يساهم في تعزيز المواطنة المشتركة بين اليهود وغير اليهود.
ولكن في نفس الوقت دولة كل مواطنيها الاسرائيلية ستتنازل عن كل تلك الصفات اليهودية التي تخليدها ليس فقط غير ضروري لتحقيق تقرير المصير وتأمين الشعور الداخلي والوطني لليهود، بل حتى تضر بها بسبب المس بالنسيج المدني متعدد القوميات ومتعدد الاديان في الدولة. أولا، في دولة كهذه لن يسمح للتفوق المؤسس للقومية الاثنية – العرقية اليهودية في كل مجالات الحياة، بدء من التمييز المنهجي ضد مواطنيها غير اليهود في توزيع موارد الدولة وانتهاء بقمع الهوية القومية والثقافية للاقلية القومية الفلسطينية.
ثانيا، الدين سيفصل عن الدولة – وهي خطوة فقط ستفيد اليهودية كدين لأنها ستلغي عداء العلمانيين الاسرائيليين تجاهها والنابع أولا من التدخل الفاضح للمؤسسة الدينية الارثوذكسية في حياة المواطنين اليومية.
ثالثا، هذه الدولة ستحترم مجمل الحقوق والروح الجماعية للاقليات الدينية والثقافية – مثلا، لن تتردد في طلب العفو من المواطنين الفلسطينيين عن النكبة وستدفع تعويضات لاحفاد اللاجئين في الداخل الذين صودرت املاكهم و/ أو سلبت في 1948، في نفس الوقت ستعترف بحقوق الحريديين بعدم الخدمة في الجيش لاسباب ايمانية دينية.
رابعا، الدولة المدنية، دولة كل مواطنيها الاسرائيليين، ستضمن قانون اساس المساواة المدنية المطلقة بين كل مواطنيها، وستمنع بصورة صريحة تفضيل مصالح مجموعة مدنية قومية – دينية واحدة على زميلاتها – وكل ذلك ليس فقط “على ضوء رؤية حلم انبياء اسرائيل”، كما كتب في وثيقة الاستقلال، بل ايضا على “ضوء الحلم السياسي لآباء الصهيونية”.
اجل، خلافا لما يعتقد اسرائيليون كثيرون، يهود وعرب على حد سواء، ليس هذا فقط لن يكون في تناقض بين صورة الدولة الاسرائيلية وبين طموحات الصهيونية السياسية، بل بالعكس، سوف تعبر عنها بصورة دقيقة وبصورة اكثر نقاء.
صحيح، منذ بدايتها ارادت الصهيونية انشاء “الدولة اليهودية” التي اعتبرتها ولاية اسرائيلية في اطار الامبراطورية العثمانية (قبل 1917) وبعد ذلك كديمقراطية متعددة القوميات (طوال فترة الانتداب البريطاني). ولكن رغم أنه من الواضح أنه بعد تصريح بلفور، الطموح الصهيوني لتحقيق الاغلبية اليهودية خلافا لرغبة سكان البلاد الفلسطينيين كان عنيفا وغير ديمقراطي وذا اساس قمعي واضح، فان المشترك بين رؤية المستقبل السياسي للصهيونية كان الرغبة في انشاء دولة لن تسمح بالسلطة المهيمنة للاغلبية اليهودية على الاقلية غير اليهودية، بل ستخلق نماذج متعددة القومية ومتعددة المجموعات لمواطنة مشتركة. هذا سواء بفضل وجود فكرة الحكم الذاتي اليهودي ما قبل الصهيونية لسلطة اليهود – على اليهود فقط – في الخيال السياسي الصهيوني، أو من خلال الرغبة الصهيونية الاصيلة في ان تشكل في ارض اسرائيل قومية جغرافية تثق بنفسها ومنفتحة على “الآخر”، وليس فقط مجتمع عرقي – ديني شتاتي منغلق.
اسحق رابين الذي لم يكن مفكر قومي بل سياسي ورجل عملي، قام بالخطوة العملية الجريئة تجاه الدولة المدنية الكل اسرائيلية – عندما شجع المصادقة من قبل جميع المواطنين على اتفاقات اوسلو. وبهذا رسخ التزامه بالاسس المدنية الجوهرية للقومية الصهيونية.
هذا هو تراثه الذي يتم انكاره من قبل حركة “طريقنا” ومن قبل اغلبية الجمهور الاسرائيلي. ولكن على اقلية رجال اليسار الاسرائيلي – اليهود والعرب الفلسطينيين معا – المؤمنون بحلم دولة كل مواطنيها، يمنع أن ييأسوا ازاء ذلك. بالعكس، عليهم أن يهبوا ويتبنوا بصورة علنية وبدون تردد مباديء الحلم القومي – المدني لرابين، والقول لمعظم الجمهور الاسرائيلي، المتمسك بالرؤيا العرقية المركزية لتقرير المصير اليهودي بأنه ليس بالامكان أن تكون “طريقنا” مختلفة عن تطبيق وازدهار “تراث رابين”. اجل، هذا سيكون بلا شك رأي اقلية، التي لا تعبر عن “قيم الشعب” في معظمه. ولكن هذا غير هام. في النهاية يجب أن نذكر بأن الصهيونية نفسها عكست ذات يوم رأي اقلية بسيطة في الشعب اليهودي.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف