الصحافة هي كما يبدو المهنة الحرة الاكثر خطرا. ويدل على ذلك عشرات الصحافيين الذين قتلوا في الحروب في سوريا والعراق، والصحافيون المطاردين والمسجونين في تركيا وسوريا ودول اخرى – والصحافي السعودي جمال خاشقجي. مصر هي عضو محترم في نادي قامعي وسائل الاعلام، ولكن يتبين أن اليد الطويلة لا تتجاوز ايضا باحثين واكاديميين يتجرأون على انتقاد النظام. الحالة الاخيرة هي حالة عبد الخالق فاروق، وهو اقتصادي عمل في السابق في وزارة المالية في مصر وفي معهد ابحاث “الاهرام” كمحلل. فاروق اعتقل هذا الشهر من قبل السلطات بتهمة “نشر معلومات كاذبة من شأنها المس بالسلامة والامن العام وزرع الخوف بين المواطنين، وبسبب نشر تصريحات وتقارير كاذبة”.
الامر يتعلق باتهامات خطيرة، التي اذا أدين بها فمن المتوقع أن يواجه فاروق سنوات سجن طويلة وغرامات كبيرة. جريمته الفظيعة هي نشر كتاب بعنوان “هل مصر هي حقا دولة فقيرة”. الكتاب صدر عن دار النشر “دار السلام” التي تم اعتقال صاحبها ايضا بنفس التهمة. قوات الامن صادرت 200 نسخة مطبوعة. ولكن الكتاب شق طريقه على صيغة “بي.دي.اف” وهو الآن يقرأ من قبل الكثيرين في مصر وخارجها. حسب اقوال محامي فاروق، علي عطية “النظام يتهم موكله بالاستهزاء من مؤسسات الدولة نظرا للطريقة التي يديرون بها القوى البشرية في مصر”. يبدو أن احد الادعاءات التي اغضبت النظام تتعلق بسيطرة الجيش على الاقتصاد المصري.
الكتاب تم اعداده كي يشكل رد ملموس على ادعاءات الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي اعلن في كانون الثاني 2017 “إننا دولة فقيرة، فقيرة جدا… ايضا أنا فقير، من أين سأعطيكم؟”. فاروق يقتبس من اعلانات الاعلام الرسمي بيانات تشير الى أن مصر لا تعاني من نقص الاموال، بل من تقسيم غير عادل للثروة. هكذا مثلا كتب أنه في 2016 بيع في مصر حوالي 200 ألف سيارة، حسب الحسابات فقد اشترى المصريون سيارات في هذه السنة بمبلغ 30 مليار جنيه مصري.
مثال آخر يعرضه يبين انه خلال الاعوام 1980 – 2011 اشترى المصريون منازل بنحو 180 مليار دولار. مجموع العقارات التي يملكها المواطنون المصريون في الخارج يصل حسب قوله الى حوالي 250 مليار دولار. عندما دعا السيسي المواطنين لشراء اسهم في مشروع توسيع قناة السويس في 2014، خلال اسبوعين تم جمع تبرعات بمبلغ 64 مليار جنيه مصري، جزء من البيانات سبق ونشرت في وسائل الاعلام المصرية في حينه، ولكن تقدير قيمة العقارات الموجودة لدى المصريين وحجم الايداعات في البنوك الاجنبية هي نتائج تستند الى معطيات رجل الاقتصاد.
فاروق سأل الى أين وجهت كل هذه الاموال التي كسبتها الدولة. مثلا من أين ستأتي الاموال لاقامة العاصمة الادارية الجديدة التي تكلفتها حوالي 45 مليار دولار. ومن سيربح من اقامتها. حسب اقوال الرئيس سيتم انشاء شركة تتحمل مسؤولية تخطيط وبناء العاصمة الجديدة، وأرباحها سيتم تقاسمها بين الجيش وخزينة الدولة.
ميزانية الجيش الذي يشارك تقريبا في كل مشروع كبير في الدولة غير خاضعة لرقابة البرلمان، ولا يمكن معرفة نصيبه من المداخيل في هذه المشاريع. بناء على ذلك، قال فاروق، عندما لا يمكن معرفة ماذا يحدث مع الاموال فلا توجد امكانية لتوجيه مداخيل الدولة بصورة يستفيد منها المواطنون.
في الاسبوع الماضي نشر في موقع “مدى مصر”، وهو من المواقع النادرة التي ما زالت تنشر حول الفساد والخلل في الدولة، نشر بحث طويل وشامل عن صفقة الغاز بين اسرائيل ومصر. حسب التحقيق الموثق وجد أن المخابرات المصرية شاركت بشكل عميق في الصفقة بواسطة شركات وهمية مسجلة في جزر العذراء وهولندا، التي هي شريكة مع الشركة التي وقعت على صفقة الغاز مع الشركات الاسرائيلية. فاروق يعالج في كتابه ايضا صفقة الغاز التي وقعت بين اسرائيل ومصر في عهد مبارك، وضمن امور اخرى هو يشير الى أن رئيس المخابرات المصرية المتوفي، عمر سليمان، ارسل في العام 2000 رسالة رسمية لوزير النفط سامح فهمي ابلغه فيها بأن المخابرات المصرية تصادق على صفقة الغاز مع اسرائيل. وحسب اقوال فاروق “في حينه قيل إن سليمان تلقى عمولة بمبلغ 11 مليون دولار من الاسرائيليين”.
فاروق الذي كتب 20 كتاب تقريبا، الكثير منها يتناول الرشوة والادارة الفاشلة في مصر، تطرق بتوسع الى الاملاك الخفية للرئيس مبارك، والطريقة التي سرق بها وزراء وموظفون كبار من خزينة الدولة. وضمن امور اخرى، قال إن راتب وزير الداخلية كان في العام 2013، 3750 جنيه مصري، حسب القانون الجديد. ولكن اضافة الى الراتب الاساسي حظي الوزير ايضا بـ 26 علاوة خاصة جلبت له 124 ألف جنيه مصري شهريا. صندوق الهوام الذي كشفه فاروق في كتابه الاخير لا يعتبر مفاجأة كبيرة. الرشوة والفجوات الكبيرة بين الاثرياء والفقراء في مصر يشعر بها في كل بيت. جزء كبير من الكتاب يتناول بشكل عام عهد مبارك. ولكن نظام السيسي عليه أن يوضح ايضا للباحثين الاكاديميين أين يتم فيه شد الحدود المسموح بها. من يريد كشف الفساد، من ينوي انتقاد الادارة في عهد السيسي ومن هو غير الراضي من قوة الجيش الاقتصادية، يجب عليه تحضير حقيبة صغيرة من اجل الذهاب الى السجن.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف