أثار مشروع “قناة البحرين”، الذي كان يفترض أن يضخ الماء من خليج ايلات الى البحر الميت الذي ينازع الحياة، وفي الطريق ايضا ينقذ العربا الجرداء والاردن الجاف – أثار في السنوات الاخيرة حماسة قليلة فقط في ديوان رئيس الوزراء. فبعد سلسلة من الاحتفالات والاتفاقات الرسمية مع الاردنيين، الامريكيين والاتحاد الاوروبي، تبين بان الجدوى الاقتصادية للصيغة الحديثة للحلم الهرتسلي – ذاك الذي وجد مكان شرف حتى في كتابه “التنويلند” موضع شك.

غير أن المشروع يحظى الان بلحظة مجد متجددة في القيادة الاسرائيلية، وليس بالذات بسبب جاذبيته الاقتصادية المشكوك فيها بل بسبب الامكانية الكامنة فيه لاعادة بناء العلاقات المتعثرة مع الشريك في المشروع – الاردن. البحر الميت الآخذ في الاختفاء، الظاهرة الطبيعية التي لا ثان لها من عجائب الدنيا – قد يتلقى، رغم كل شيء، تمديدا اضافيا بل وامل في اعادة التأهيل في المستقبل، وذلك فقط اذا ما نجح المشروع التجريبي الاولي لقناة البحرين.

ثمة بضعة اسباب للمرارة التي سادت في القيادة الاسرائيلية حتى وقت اخير مضى في موضوع المشروع العظيم. اولا – الاردنيون. فهؤلاء يتلقون من اسرائيل منذ اليوم 55 مليون مكتر مكعب من المياه في السنة، نحو 20 في المئة اكثر مما تعهدت به اسرائيل في اتفاق السلام. ثانيا، الاردنيون يجدون صعوبة في تجنيد نصيبهم في تمويل المشروع. كما ان الاستثمار المطلوب في الجانب الاسرائيلي، 1.3 مليار شيكل فقط من اجل ان تقام في العربا البنية التحتية المرتبطة بقناة البحرين، لا يزيد شعبية الخطة في المحيط الاقتصادي لرئيس الوزراء نتنياهو.

ينبغي ان يضاف الى ذلك ايضا التعهد الاسرائيلي، ظاهرا، لشراء الماء من الاردنيين بسعر دولار للمتر المكعب – سعر أعلى باربعة اضعاف من سعر الماء في اسرائيل وكذا الاثار البيئية للمشروع والتي لا تزال محوطة بالغموض.

وعلى الرغم من ذلك، فحين تكون العلاقات مع الاردن – الراغب جدا في تحقيق المشروع – تتعثر، فانهم في القدس يعملون مرة اخرى على التقدم في المشروع العظيم. والسياق الفوري هو قرار الملك عبدالله عدم تجديد عقود التأجير التي سمحت حتى الان للمزارعين الاسرائيليين لفلاحة الاراضي في نهرايم وفي العربا. وعلى خلفية القرار تسارع في الاسابيع الاخيرة في ديوان رئيس الوزراء واساسا في وزارة التعاون الاقليمي برئاسة الوزير تساحي هنغبي، الاتصالات مع الاردنيين والفحوصات المهنية المختلفة.

النية المعلنة هي لرفع المشروع الى المستويات العملية. وفي الاشهر القريبة سينشر الاردنيون بالتنسيق مع اسرائيل عن عطاء لاقامة منشأة التحلية لمياه البحر الاحمر، في الجانب الاردني من الحدود، على مسافة نحو 23 كيلو متر شمالي البلاد في منطقة المطارات، وكذا لاقامة انبوب (وليس قناة مثلما جرى الحديث في الماضي) بطول اكثر من 200 كيلو متر يضخ المياه الى القسم الشمالي من البحر الميت.

وحسب التقديرات، فان اسم الشركة الفائزة، واحدة من خمس صاحبات الامتياز (من فرنسا، اليابان، اسبانيا والصين)، سينشر في نهاية سنة من نشر العطاء. بعد سنة اخرى ستبدأ الاعمال على الارض وفي نهاية أربع سنوات اخرى في 2025، سينتهي بناء منشأة التحلية والانبوب وسيبدأ ضخ محدود، تحت الرقابة للماء من البحر الاحمر الى البحر الميت.

للانعطافة في القيادة السياسية بالنسبة لمشروع قناة البحرين، ساهم موضوع آخر لا يرتبط مباشرة بالمسألة: الرغبة في الامتناع عن حوار متجدد مع الاردنيين على عناصر الوضع الراهن في الحرم. فقد استأنف الاردنيون مؤخرا طلبهم لاقامة “مأذنة خامسة” على السور الشرقي للحرم، وفي اسرائيل سعوا الى الامتناع عن اعادة فتح الاتفاقات والتفاهمات مع الاردن في مسألة الحرم، الهاديء مؤخرا. وهكذا إذن يجلس موظفون اردنيون واسرائيليون دون الاعلان عن ذلك ويجملون هذه الايام تفاصيل العطاء الذي سينشر قريبا لبدء الاعمال على مشروع قناة البحرين.

الاردن يجف

لم يستطب الاردنيون البرودة التي اظهرتها اسرائيل في السنوات الاخيرة بالنسبة للمشروع. ففي اثناء “ازمة السفارة” أبلغت اسرائيل الاردن بانه اذا لم تعد السفيرة ولم تفتح السفارة وتعود للعمل كما في الماضي، فانه لن يتم العمل على تقدم مشروع قناة البحرين ايضا. فهدد الاردن في حينه بالانطلاق على الطريق وحده، ولكن في اسرائيل لم يتأثروا واستبعدوا امكانية سيناريو من هذا القبيل.

في فرص اخرى اوضحت اسرائيل للاردن بانها لن تقعد مكتوفة الايدي امام مظاهرة مناهضة لاسرائيل من جانب المملكة، سواء كان ذلك في ازمة مع احداث الحرم، ام في مشاركة الاردن في مبادرات مناهضة لاسرائيل في المنظمات الدولية في العالم. أما الموقف الاسرائيلي الذي فهم من مسألة قناة البحرين فقد اقلق الاردن الذي في مناطق عديدة فيه، بما في ذلك عمان، يتبع نظام التقنين المائي. فالاردن يعاني من أزمة شديدة في توريد المياه تؤدي حتى الى توقفات في ضخ الماء الى المنازل، غير مرة بنصف الاسبوع بل واكثر من ذلك. وقبل بضعة اشهر توجه الاردنيون الى الولايات المتحدة مطالبين بان تلتزم اسرائيل بالاتفاقات الموقعة، والتي في اساسها المواضيع التالية:

•​بناء انبوب وقناة على مسافة نحو 220 كيلو متر ينقلان المياه المنهولة من الجانب الاردني من خليج ايلات، بحجم نحو 300 مليون متر مكعب وضخها على طول سهل العربا في جانبه الاردني.

•​اقامة منشأة تحلية شمالي العقبة، بانتاجية 65 مليون متر مكعب من المياه المحلاة نصفها يخصص للاردن ونصفها تشتريه اسرائيل من منشأة التحلية كمياه للري للزراعة في العربا.

•​ضخ المياه والاملاح في الانبوب بحجم نحو 235 مليون متر مكعب من مشروع التحلية وحتى البحر الميت الذي وضعه في اسوأ الاحوال كما هو معروف.

فاستجاب الامريكيون لطلب الاردن ومارسوا الضغط على اسرائيل. واعتمد الامريكيون والاردنيون على حد سواء على ثلاثة اتفاقات من الماضي غير البعيد: مذكرة التفاهم التي وقعت بين اسرائيل، الاردن والسلطة الفلسطينية في العام 2013 (المرحلة الاولى من مشروع قناة البحرين)؛ الاتفاق الثنائي بين اسرائيل والاردن في 2015 بشأن اقامة مشتركة لانبوب المياه (خط انبوب، مخازن ومحطات نهل) – هذا الاتفاق رتب ظاهرا شكل ادارة المشروع وقيادته المشتركة من اسرائيل والاردن؛ وسلسلة تفاهمات في المؤتمر الدولي الذي عقد في الاردن في ايار 2016 بمشاركة البنك الدولي، حين وعدت الولايات المتحدة بمنحو بمبلغ 100 مليون دولار لتقدم المشروع.

تحدث السفير الامريكي في اسرائيل دافيد فريدمان، والمبعوث الخاص جيسون غرينبلت مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في هذا الشأن، واعادت القدس النظر فقررت تحريك المشروع الذي ضغط المستوى المهني على اي حال للتقدم فيه. اما الازمة الحالية مع الاردن فقد حثت فقط هذا الميل. فضلا عن ذلك، في اسرائيل يدرسون الان امكانية تعريف مشروع قناة البحرين كمشروع ذي صلة امنية فيتغلبون بذلك بسهولة اكبر على العديد من الاعتراضات والاجراءات القانونية التي من المتوقع لمنظمات البيئة ان تتخذها، بدعوى ان اضراره البيئية كثيرة. وستكون الكلمة الاخيرة في هذا الشأن لرجال القانون الذين سيقررون اذا كان الامر ممكنا.

تخفيض مستوى تردي المياه

مال كثير استثمر ولا يزال يستثمر من الولايات المتحدة، اسرائيل، البنك الدولي والدول المانحة، وبالطبع من منظمات البيئة في البلاد وحتى من مشاريع البحر الميت، في محاولة لفهم الاثار البيئية التي ستكون للمشروع الى جانب منافعه.

التخوف الاساس هو مما سيحصل للبحر الميت. فالسيناريوهات المختلفة تتحدث عن تلون البحر بالاحمر، عن تحرير غاز الهيدروجين الكبريتي الذي سيطلق روائح سيئة، وكذا عن كتل من الجبس التي ستنشأ وتمنح المياه لونا ابيض.

فهم مشترك واحد يتبلور منذ الان، من جانب مؤيدي المشروع ومعارضيه: من يسعى الى منع التغيير في مزايا البحر الميت وفي الجودة الخاصة لمياهه وحفظه كموقع سياحي، سيكون ملزما بان يقيد كمية المياه التي ستضخ اليه. فتاوى مختلفة رفعت في هذا الشأن، ضمن آخرين من المعهد الجيولوجي، وخبراء البنك الدولي ومجموعة “تهل”. يوصي الباحثون بتقليص بنحو الثلثين الضخ الكامل بكمية 1.100 مليون متر مكعب في السنة، والتي خصصها المخطط الاصلي للبحر الميت، وتقليصها على الاقل بالثلثين. في المرحلة الاولى يدور الحديث عن ضخ 235 مليون متر مكعب الى البحر الميت، وفي كل الاحوال عن ضخ ليس اكثر من 400 مليون متر مكعب.

اذا ضخت كمية مياه اكبر، هناك تخوف من نشوء عملية تسمى “استواء”. والاستواء هي ظاهرة طبيعية تجري في المياه، اساسا بسبب تغيير الحرارة ومستوى الملوحة، ولكن في اللحظة التي يخلط فيها مصدر مياه واحد بمياه من مصدر آخر فان الاستواء كفيل بان يمنع اختلاط المياه من المصدرين.

الاستواء في حالة قناة البحرين من شأنه ان يقلص اختلاط مياه البحر الاحمر التي ستضاف الى البحر الميت، وهكذا ستنشأ في منطقة البحر الميت شريحة مياه يكون فيها مزايا مشابهة اكثر لمياه البحر الاحمر، مثل النباتات البحرية التي لها مزايا والوان مختلفة.

اما تقييد كمية المياه التي ستضخ الى البحر الميت لغرض حفظ مزايا مياهه فلم يسمح بمنع انخفاض المستوى بل ابطائه فقط. وبدلا من انخفاض المستوى بوتيرة اكثر من متر في السنة، سيبلغ الانخفاض نحو 70 سنتمتر فقط. وفقط اذا تبين انه لا توجد اضرار بيئية للبحر الميت ومحيطه، سيكون ممكنا رفع كمية المياه المضخة اليه، وهكذا يخفض اكثر فأكثر وتيرة انخفاض مستوى المياه في البحر.

مشكوك ايضا أن يكون ضخ المياه الى البحر الميت سيحل او يخفف من مشكلة البواليع. فهذه تنشأ كنتيجة لذوبان شرائح الملح الذي يوجد تحت السطح بسبب لقاء هذه الشرائح مع المياه الحلوة. ومياه البحر الاحمر الحلوة، من غير المتوقع ان تساعد في هذا الشأن.

ان وضع البحر الميت، الذي يوجد في بؤرة المباحثات المهنية الجارية حول مشروع قناة البحرين، في اسوأ حال. فخط الشاطيء الذي كان ينزل اليه المستجمون في الفشخة الى البحر الميت قبل نحو 35 سنة يبتعد اليوم نحو 2 كيلو متر فاكثر عن اليافطة الصغيرة التي اصبحت نصبا تذكاريا متواضعا.

على طول الشاطيء تمتد البواليع المعروفة. وهي تتجدد كل يوم، تتسع وتتعمق لمزيد من المناطق: مزروعات التمر التي تموت لكيبوتس عين جدي، مواقع ايقاف السيارات والمباني المهجورة، الاشجار الميتة، وكذا المس والانقراض لانواع من النباتات والحيوانات في المنطقة. البحر الميت اصبح الصحراء الميتة.

خطر في العربا ايضا

كم هو التغيير الذي تجتازه المنطقة عميقا في القرن الاخير تشهد الارقام ايضا. ففي بداية الثلاثينيات من القرن العشرين كان البحر الميت يقع على مساحة نحو 1.000 كيلو متر مربع. اما مساحته اليوم فتبلغ نحو 630 كيلو متر مربع فقط. في العام 1900 كان مستوى 392 متر تحت سطح البحر المتوسط. اما الان فهو 433 متر تحت سطح البحر. في العقود الاخيرة ينخفض مستوى البحر الميت بوتيرة اكثر من متر في السنة، عقب المنع شبه المطلق لدخول المياه من نهر الاردن (بسبب اقامة سد دجانيا) ومن اليرموك اقامة سدود على اليرموك في سوريا وفي الاردن. كما أن نهل المياه في الجانب الاسرائيلي وفي الجانب الاردني يؤثر سلبا (مصانع البحر الميت الاسرائيلية والاردنية).

ضرر ما متوقع ايضا في جودة المياه في البحر الاحمر. فمشروع قناة البحرين سيؤثر وان لم يكن بشكل دراماتيكي مثلما في البحر الميت، على المياه هناك ايضا، على مستوى عكرها وكذا على الاسماك والنباتات فيه. وبحث الجدوى الذي اجراه البنك الدولي في هذا الشأن، يوصي بنهل مياه من البحر الاحمر بعمق 140 متر تحت سطح البحر، عمق حجم مواد التغذية، الاملاح والميكروحيويات فيه، اقل بكثير.

في العربا ايضا توجد امكانية ضرر يقع للحيوانات والنباتات بل وللمياه الجوفية والمياه السطحية. ولا سيما في مرحلة اقامة البنى التحتية (الحفر، تمديد الانابيب واقامة منشآت التحلية وانتاج الطاقة). عنصر آخر في الخطة هو انتاج الكهرباء الذي سيوفر نصف استهلاك الكهرباء للمشروع من خلال استغلال فوارق الارتفاع بين ايلات والبحر الميت. في هذا الشأن ستقام محطتين هيدروكهربائيتين تنتج الكهرباء جراء سقوط المياه من ارتفاع عشرات الامتار. اما المشروع فلن يكون قناة بل انبوبا ضخما يدفن في الارض، وحوله ستقام مشاريع خلفية مختلفة.

الفلسطينيون ايضا سينخرطون في المشروع. والامريكيون هم من يدفعون في هذا الاتجاه واتفق على ان تحصل السلطة الفلسطينية من اسرائيل على 22 مليون متر مكعب آخر من المياه فوق الكمية التي تتلقاها اليوم 12 مليون متر مكعب للضفة و 10 مليون متر مكعب لغزة.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف