لقد أثار تواجد كبار مسؤولي المخابرات المصرية في المهرجان الذي القى فيه يحيى السنوار خطابه يوم الجمعة قبل اسبوع اهتماما شديدا في وسائل الاعلام الاسرائيلية. فقد نظمت قيادة حماس المهرجان على شرف ذكرى سبعة القتلى في تلك الحادثة الغامضة التي انكشفت فيها قوة خاصة من الجيش الاسرائيلي قرب خانيونس. وصرح السنوار بانه قريب اليوم الذي يعود فيه الفلسطينيون الى الاقصى وذكر أن لدى رجاله صواريخ تصل حتى تل أبيب. في الصف الاول كان يجلس ضابطان مصريان متجمدا الوجه. الكبير بينهما هو احمد عبد الخالق، المسؤول عن الملف الفلسطيني في المخابرات العامة المصرية. يمكن أن نرى في تواجدهما تعبيراعن تأييد سلبي للمواقف المتطرفة لزعيم حماس. كما يمكن الادعاء بان تواجدهما يشكل موافقة صامتة على تصريحات مسؤول حماس.
هكذا ايضا بالنسبة لمسرحية المسدس. ففي ذروة الخطاب توجه واحد من مسلحي الذراع الى السنوار وسلمه مسدسا مع كاتم صوت، زعم انه ترك في ساحة الحدث من احد مقاتلي الجيش الاسرائيلي. ولكن المسؤول المصري جلس هناك في مهامة هامة، وحضوره خدم اهدافها. هذه هي السياسة الاقليمية. بعضها يتم على المنصة، ومعظمها – من خلفها.
عبدالخالق معروف جيدا لقيادة حماس. في ماضيه، كضابط شاب في المخابرات المصرية، عاش بضع سنوات في غزة. كما أنه معروف للاسرائيليين. منذ ثلاثة اسابيع على التوالي يهبط في مطار بن غوريون مباشرة من القاهرة، ومن هناك يواصل الى قطاع غزة. مهمته هي الاشراف عن كثب على تنفيذ تفاهمات حساسة اتفق عليها بين حماس واسرائيل. ومثل الشرطي، هو وواحد أو اثنان من شركائه في المخابرات المصرية ينظرون الى ما يجري من مسافة الصفر، يطرحون الاسئلة الصحيحة ويضغطون حيثما ينبغي. مهمتهم هي الحرص على ان يعمل رجال حماس على لجم البالونات الحارقة، العبوات الناسفة على الحدود والمشاغبين المتطرفين. وبالفعل، في ايام الجمعة الثلاثة التي انقضت (اليوم يكون الرابع) لم يقتل اي فلسطيني بنار الجيش الاسرائيلي. يوم الجمعة الماضي انهى عبدالخالق مهمة الرقابة ودعاه السنوار الى المهرجان. طبيعة مهمته هناك، والاتصالات القريبة بينهما لم تسمح له بان يقول لا. وفي واقع الامر لماذا يرفض. فبعض التقرب كان دوما جميلا لبناء الثقة.
المشكلة القانونية
ان الزيارات المتواترة للضابط الكبير الى غزة هي نتيجة توافقات سرية بين اسرائيل، مصر، قطر وحماس. فهذه التوافقات تجري في محورين متوازيين. الاول هو القناة الاسرائيلية – القطرية – الغزية؛ والثاني هو قناة اسرائيلية – مصرية – غزية. قطر مسؤولة عن ارساليات المال. مصر مسؤولة عن ان تلجم حماس نفسها وتلجم الالاف من الناس. هذه التسوية جاءت لانقاذ وقف النار الذي دخل حيز التنفيذ في 15 آب، وهددت بالانهيار. يدور الحديث عن مخلوق غريب يستهدف التغلب على رفض ابو مازن قبول المنحة القطرية السخية وتحويلها الى غزة قانونيا. ولغرض التفاهم على الحدود، توسط المصريون بين اسرائيل وحماس. ولتنسيق وصول الدولارات، تحدثت اسرائيل مع قطر مباشرة. واستأنفت الدوحة والقدس الاتصالات المتواصلة بينهما مؤخرا، على خلفية قضية غزة. هذا أكثر بكثير مما عرفه المصريون وقطر. هذان الطرفان، المعاديان الاول للاخر، لم يتبادلا بينهما كلمة، رغم انهما شركاء في الاتفاق الرباعي.
لم يعترف اي طرف من الاربعة اطراف رسميا بوجود التفاهمات كي لا يحرجوا انفسهم في نظر جمهورهم. حكومة اسرائيل تخشى من أن تعلن بانها تتحدث مع قطر وتعقد الصفقات مع حماس، بخلاف تصريحاتها انها لن تتفاوض مع الارهاب. التخوف ذاته موجود لدى حماس، التي يتهمها معارضوها بانها باعت مبادئها مقابل الدولارات. القاهرة، من جهتها، لم تدرج على الكشف عن طبيعة علاقاتها مع اسرائيل. وصمتها بالنسبة للتسوية يرمي ايضا الى حماية حماس من الانتقاد الداخلي.
وثمة لهذا الصمد اسباب مشتركة لكل الاربعة. كلهم يخشون من تحطم التفاهمات. ويفضلون اخفاءها كي لا يكونوا مطالبين بالمسؤولية عن دورهم بالفشل اذا ما وقع. السبب الثاني، وهو ذو وزن اكبر، هو قانوني. فالسلطة هي صاحبة السيادة الرسمية على غزة، وتجاوزها يشكل خرقا ظاهرا للقانون الدولي وخرقا لاتفاقات اوسلو. صحيح أن التسوية تنجح حابيا، ولكن خطوطها الرئيسة تذكر بسلوك القراصنة. توافقات سرية، حقائب مال، رسل يخرجون ويأتون من هذه العواصم وتلك. يبدو ان ليس صدفة ظهر مسدس في المعركة الثانية. اضافة الى ذلك اي منهم لا يريد ان يضيف الى غضب ابو مازن. فهو على اي حال مصمم على ان ينتقم من غزة على انها رتبت لنفسها منحة كبيرة.
ما الذي سيحصل عليه كل طرف من الاطراف اذا ما نجحت التسوية؟ اسرائيل ستنال الهدوء النسبي ووقف كرة الثلج (او للدقة، كرة النار) التي تطورت على طول الحدود. قطر حققت بضع نقاط في المنافسة مع مصر على قلب حماس، ولكن في الرأي العام ايضا. وهي تصبح الدولة العربية الوحيدة الداعمة ماليا للقطاع في لحظات الانهيار الاكبر له. القاهرة تحيي من جديد “الدور المصري”. ذاك التعبير التاريخي الذي مثل مكانتها الرفيعة كوسيطة بين المتخاصمين في المنطقة. صحيح أن مصر توفر على ابناء القطاع سفك الدماء على الحدود، ولكن نظرتها تبعد الى ما وراء الافق. فتسوية اللجم على الحدود هي الحجر الاساس لاتفاق المصالحة، التي يأمل المصريون بفرضه على حماس والسلطة.
واضح ما تفوز به حماس. فالتسوية الرباعية تضخ المال النقدي الى الاقتصاد الغزي. فمنذ ان فرض ابو مازن عليهم العقوبات الشديدة، قبل نحو سنة ونصف، فانه ليس صندوق حماس وحده قد فرع بل ومحافظ سكان القطاع ايضا. خصص القطريون 150 مليون دولار ستدخل الى القطاع بالتدريج على مدى ستة اشهر. ينقسم هذا المبلغ الى قسمين: فهو يتضمن 90 مليون دولار لرواتب 28 الف موظف حكومي، اوقف ابو مازن رواتبهم. و5 الاف عائلة محتاجة. الدفعة الاولى نقلت كما يذكر في بداية تشرين الثاني. اضافة الى ذلك خصصت الدوحة 60 مليون دولار لتمويل السولار لمحطة توليد الطاقة في القطاع. هذا سولار اسرائيلي، يدفع القطريون لقاءه لشركة الطاقة الاسرائيلية، وهو يرسل الى القطاع في ناقلات. وتقرر انه في اثناء هذه الاشهر الستة يبحث الاطراف عن حل دائم. وكلما نجحت التسوية تقدم اسرائيل لحماس بادرات طيبة رمزية اخرى.
استعراض العضلات
كل الشركاء الاربعة سجلوا مكاسب فرعية ايضا. قطر واسرائيل استأنفتا الاتصالات غير الرسمية بينهما. أما حماس من جهتها فتنهي رأي الصدع الاكبر مع القاهرة بعد سنوات من الابتعاد والعداء فيما بينهما. يحيى السنوار هو رجل مصر في غزة. مصر اعادت الى نفسها ثقة اسرائيل في قدرتها على التوسط فيما بينهما بعد أن نشأ شرخ بين القاهرة والقدس في حرب الجرف الصامد. اما اسرائيل وحماس فتتعلمان بالطريقة الصعبة لانهما متعلقتان الواحدة بالاخرى. صحيح عبر وسطاء، وبشكل متردد وفي ظل خدوش في الوجه. ولكن لا سبيل آخر لان نقول هذا: غزة والقدس عقدتا صفقة.
اعتقدوا انهم يشتروننا مقابل السولار والدولار”، قال السنوار في خطابه قبل اسبوع. بضع دقائق قبل ان يتسلم المسدس. اخمن بان الضابطين المصريين صفقا له. ان لم يكن بايديهما، فبالتأكيد بقلبيهما. ليس بسبب العزة الوطنية التي عبر عنها، مثل التغطية التي تمنحها هذه الكلمات للتسوية المتحققة. فالسنوار يعرف ان بوسع ضخ المال القطري ان يقمع اعمال الشغب الدموية ضد الجيش الاسرائيلي وان يمس بورقة الضغط المركزية التي توجد في يديه على اسرائيل. ولكن من اجل الاظهار بان السيطرة على الاضطرابات لا تزال بيد حماس فقد اضطر لان يستعرض العضلات. فقبل ساعات فقط من اثارته لحماسة الجماهيرية، كان رجاله قد منعوا الاف المتظاهرين من التدفق نحو الحدود.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف