الخطاب العام في مسألة التصويت لمواطني اسرائيل الفلسطينيين في الانتخابات للكنيست أسير في اطار نقاش ثنائي القطبية وبسيط جدا. في حين أن المشاركة الجماهيرية للمواطنين العرب في الانتخابات – التي لم نشهدها في أي يوم – تطرح على الاغلب كاشارة على التخلي عن الهوية الوطنية الفلسطينية في صالح الأسرلة، فان الدعوة لمقاطعة الانتخابات تعتبر تعبيرا أصيلا لزيادة الوعي الوطني الفلسطيني. ولكن مقابل التعقيد الذي ميز وضع الشعب الفلسطيني في بداية العقد الثامن لفقدان وطنه القومي، يبدو أن القطبية النمطية من هذا النوع بين الفلسطينية والاسرائيلية تقتضي اعادة الفحص.
سنبدأ من أنه بصورة متناقضة الى حد ما، الدولة التي قامت على انقاض المجتمع الفلسطيني والتي أدت الى النكبة، توفر الآن بدون قصد لجزء من الشعب الفلسطيني الوسيلة الثابتة والاكثر نجاعة لمواصلة التمسك بجزء من وطنه. القصد هو المواطنة الاسرائيلية. أجل، بفضلها العرب في اسرائيل محصنين الآن من الطرد من الوطن، الامر الذي لا يمكن قوله بالطبع عن فلسطينيي 1967.
اضافة الى ذلك، لأن الدولة الاسرائيلية التي تحتل اراضي فلسطين وتمنع عودة الفلسطينيين الى وطنهم، تلعب بطبيعة الحال دور حاسم في حياة الشعب الفلسطيني، فان واقع المواطنة الاسرائيلية النشطة – التي ليس من الصحيح أنها من الخصائص الاساسية للأسرلة – يمكنها أن تمكن الفلسطينيين الاسرائيليين من التأثير بصورة جوهرية على مستقبل الشعب الفلسطيني كله.
في هذه النقطة تصعب المبالغة في اهمية التصويت للكنيست. لنتخيل أن القائمة المشتركة لا تتفكك، بل تتبلور من جديد الى حزب وطني فلسطيني موحد. المواطنون الفلسطينيون يصوتون لصالحها بجموعهم، والحزب الجديد يحصل على عشرين مقعدا. بتعاون مع الحزب الوطني الفلسطيني يتم تشكيل حكومة يسار شجاعة، تتوصل الى اتفاق سياسي مع السلطة الفلسطينية على تقسيم البلاد الى دولتين، من خلال تفكيك كامل لمشروع الاستيطان القمعي. الشعب الفلسطيني يحظى بتحرر قومي في جزء من وطنه – وهذا هو المدهش جدا، بفضل هذه الأسرلة للمواطنين الفلسطينيين، الموصوفة كنقيض للنشاط القومي الفلسطيني.
من المعقول حقا الافتراض أن سيناريو كهذا لن يثير حماسة زائدة في اوساط عدد كبير من مواطني اسرائيل الفلسطينيين الذين لديهم وعي وطني عميق. سيقولون على الاغلب أن الامر يتعلق بنموذج مثل اوسلو، التخلي عن فلسطينيي الـ 1948، ومصالحهم كأقلية قومية لصالح رعايا الدولة اليهودية، التي في لحظة التوصل الى تسوية سيتم وضع جانبا كل مطلب لهم لتجسيد حقوق وطنية جماعية لهم، بزعم أن حقوقهم الوطنية يجب أن يطالبوا بها فقط في الدولة القومية الفلسطينية. ولكن الحقيقة هي أنه ليس هناك طريقة لتقويم مظالم 1948 سوى تلك الطريقة التي تمر بانهاء احتلال 1967 على اساس الاعتراف المتبادل الكامل بين القومية الصهيونية والقومية الفلسطينية، من خلال المساواة في حق تقرير المصير القومي بين النهر والبحر، حيث أن الاستعداد القومي للفلسطينيين معدومي حقوق المواطنة في مناطق 1967 واستمرار النزاع القومي النازف مع الحركة الوطنية الفلسطينية، تنعكس بصورة واضحة سلبا على مكانة الفلسطينيين مواطني اسرائيل من خلال تعميق شيطنتهم وتشجيع العنصرية تجاههم.
في المقابل، من يعتقد أنه يمكن التوصل الى مساواة حقيقية بين القومية اليهودية والقومية الفلسطينية في اطار دولة واحدة، يخطيء بوهم خطير. حيث أن ذلك سيكون كيان استيطاني ضمي، دولة قانون القومية، الذي يحدد نهائيا المكانة المتدنية للمواطنين الفلسطينيين في الطابق السفلي في مبنى المواطنة الاسرائيلية. دولة كهذه – في خلاف قطبي لنبوءات الغضب لبني موريس، الذي يتصور الاسرائيليين الذين في أيديهم آلة عسكرية من افضل الآلات تطورا في العالم، كأقلية مضطهدة – ستحول السكان الفلسطينيين الى مجموعة قومية مقموعة اكثر من أي وقت مضى، وستضطر بمعظمها، بعد حرب اهلية دموية، الى الهجرة من وطنها.
في المقابل، الدولة التي ستخرج من المعركة امام مشروع الاحتلال والاستيطان منتصرة، بعد ضربة قاضية ستوقعها على رأس القومية المتطرفة اليهودية المسيحانية، سيكون بالامكان البدء في محو التشريع العنصري من كتاب القوانين الاسرائيلية، والبدء من جديد في اعادة بناء الدولة الاسرائيلية التي ستدمج بين الهوية اليهودية والمساواة المدنية والقومية في اوساط كل مواطنيها.
صحيح، من اجل أن يتحول هذا السيناريو الخيالي الى حقيقة سيكون على مواطني اسرائيل الفلسطينيين أن يوافقوا على حسم داخلي وطني صعب، الرؤيا التي بموجبها دولة اسرائيل، رغم أنها قامت خلافا لرغبة الفلسطينيين وسلبت منهم وطنهم، ستعبر عن مبدأ عادل لتقرير المصير القومي للشعب اليهودي. من اجل حدوث ذلك يجب على معظم اليهود أن يثبتوا للفلسطينيين بأن حق تقرير المصير القومي لليهود لا يشمل أي جزء، حتى لو صغير، من الهيمنة القومية، بل يمكنه أن يتعايش تحت سقف واحد مع حقوق الاقلية القومية للمواطنين الفلسطينيين، الذين يوجد لهم ايضا الحق الكامل في تقرير المصير القومي – الثقافي في الدولة الاسرائيلية المدنية واليهودية الليبرالية؛ دولة تعترف بمسؤولية الحركة الصهيونية على مظالم الماضي وتعمل باخلاص وبجدية على اصلاح ما يمكن اصلاحه، بما في ذلك دفع التعويضات لعائلات اللاجئين في الداخل الذين فقدوا بيوتهم واملاكهم في زمن النكبة؛ التمييز لصالح الفلسطينيين في الحاضر، وكذلك الاستعداد لاستيعاب عدد محدود وبشكل تدريجي من احفاد اللاجئين في اسرائيل، بصيغة ما وافق عليه اهود اولمرت في “انابوليس”.
ولكن الشرط المسبق والاساسي لتحقق هذا السيناريو هو أن مواطني اسرائيل الفلسطينيين يتحركوا بأعداد كبيرة نحو صناديق الاقتراع. هذا التطور من جانبهم ممكن، لكن فقط اذا اعترفت الاقلية القومية الفلسطينية في اسرائيل بأن الأسرلة – كعملية للمشاركة المتزايدة للفلسطينيين في تحديد صورة وطابع اسرائيل – ليس فقط أنها لا تناقض المصالح القومية للشعب الفلسطيني، بل العكس، تشكل احد الادوات الاساسية من اجل تحقيق هذه المصالح.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف