بصمت وهدوء وبدون الزبد الذي يغلي على سطح الماء، الذي رافق في السابق استقالة شخصيات رفيعة في قمة جهاز الحكم في ادارة ترامب، استقال في الاسبوع الماضي الجنرال احتياط انطوني زيني من وزارة الخارجية. “خدماتي لم تعد مطلوبة”، أوضح. خدماته بالتحديد مطلوبة جدا، لكنه فشل في المهمة الدبلوماسية المعقدة التي فرضها عليه الرئيس: قبل سنة ونصف تقريبا ارسله ترامب لحل ازمة العلاقة بين السعودية وقطر، وخلال ذلك محاولة تشكيل تحالف استراتيجي عربي، الذي حظي بلقب “الناتو العربي”.
الشرخ بين الدولتين العربيتين ولد العقوبات الاقتصادية الشديدة التي فرضتها السعودية ودولة الامارات والبحرين ومصر على قطر في 2017. هذا الانقسام شكل شوكة في حلق فكرة الحلف الاستراتيجي، وبدون حل هذه المسألة فان التحالف لا يمكنه أن يقوم. زيني، المعروف الذي عين في فترة جورج بوش الابن لاحداث معجزة في العملية السلمية بين اسرائيل والفلسطينيين ما زال يعتبر حتى الآن أحد الدبلوماسيين المؤهلين جدا بين قادة الجيش. لقد استسلم بعد أن فهم أنه رغم الضربة الشديدة التي تلقتها السعودية في قضية قتل جمال الخاشقجي، ما زالت ترفض مصافحة يد قطر – حتى من اجل اقامة تحالف ضد ايران. لا توجد لزيني أي ادعاءات تجاه ادارة ترامب، التي دعمت مهمته، لكن تركيبة العلاقة المسمومة بين دول الخليج هزمته. الآن يحاول وزير الخارجية، مايك بومبيو، استخدام السقالات التي ابقاها زيني خلفه من اجل احياء نفس الاستراتيجية.
بعد اقل من شهر سيهبط في وارسو ممثلو سبعين دولة للمشاركة في العرض الذي بادر اليه بومبيو ضد ايران. هدف هذا المؤتمر غير واضح، حيث أن العملية الاستراتيجية الاهم – الانسحاب من الاتفاق النووي – قررتها الادارة الامريكية. الجهود لاقناع دول الاتحاد الاوروبي بالانضمام لهذه الخطوة لم تنجح، العقوبات سبق وفرضت، وإن كان تطبيقها الكامل تم تأجيله الى بداية أيار، الرسالة مرت. هذا المؤتمر يعقد بشكل عام كخطوة استباقية لخطوات سياسية أو عسكرية. ولكن يبدو أنه في هذه المرة الحديث يدور عن جهد معكوس: هو يستهدف الحفاظ على الزخم المناهض لايران بعد أن لم تجعلها التهديدات والضغوط توافق على مفاوضات جديدة بشأن الاتفاق النووي أو حول اتفاق آخر يضع شروط لتطوير برنامج الصواريخ البالستية. في اسرائيل، كما هو متوقع، راضون عن هذه المبادرة، لأن مؤتمر القمة في وارسو يمكنه أن يمنح نتنياهو فرصة لالتقاط الصور ومصافحة عدد من زعماء الدول العربية. التصريحات المناهضة لايران التي ستنثر فيها هي فقط زيادة مرافقة، لأنه يصعب تخيل أن مأكولات بولندية مثل البيروجي والكولودني ستجعل الدول العربية المتعادية ترسم خطوط عمل فعلية ضد ايران.
الاستراتيجية السياسية الامريكية، اذا كان يمكن تسميتها هكذا، تسير في مسارين رئيسيين: في احد المسارات تحاول اقناع اكبر عدد من الدول بالانضمام الى العقوبات ضد ايران، وأن تقلص بذلك الثغرات الكبيرة التي علاقات ايران مع روسيا والصين وتركيا تنشئها. في المسار الثاني الولايات المتحدة تريد انشاء تحالف عربي فعال مهمته ضد تأثير ايران في الشرق الاوسط. حول طريقة عمل وزارة الخارجية الامريكية ضد ايران يمكننا معرفتها من رسالة سرية ارسلتها سفارة لبنان في واشنطن الى وزارة الخارجية اللبنانية. في البرقية اقتبست السفارة واشنطن: “نحن نحث لبنان وكل الدول الاعضاء في الجامعة العربية على الامتناع عن دعوة سوريا (القمة الاقتصادية العربية في بيروت في 20 كانون الثاني – الكاتب). ونحن نشجع لبنان على الامتناع عن اتخاذ أي خطوة يمكنها أن تضمن مصادر تمويل للنظام السوري، مثلا، الاستثمار في سوريا أو ارسال تمويل لاعادة اعمار الدولة. كل مساعدة مالية أو مادية لنظام الاسد ومؤيديه ستكون خاضعة للعقوبات الامريكية”.
في هذه البرقية التي كشفتها هذا الاسبوع صحيفة “الاخبار” اللبنانية، المقربة من حزب الله، اجابت وزارة الخارجية الامريكية على سؤال وجهته حكومة لبنان من اجل فهم سياسة امريكا بالنسبة للتعاون مع سوريا. لبنان غير مسؤول عن دعوة سوريا للقمة أو عدم دعوتها، وصلاحية ذلك هي للجامعة العربية التي ما زالت تتخبط في قضية دعوة سوريا للقمة التي ستعقد في شهر آذار. رغم ذلك، مجرد توجيه السؤال للادارة الامريكية يدل على أن لبنان، ومثله دول عربية اخرى، مشوش من سياسة امريكا. ما يبدو، المطالبة بعدم دعوة سوريا الى القمة الاقتصادية وربما ايضا القمة العربية، استهدفت قطع الطريق على تطبيع العلاقات بين الدول العربية وبين حليفة ايران. ربما أنها تريد اجبار لبنان نفسه على التقرير اذا كان يقف الى جانب سياسة امريكا ضد ايران، أو أنه يخضع لاملاءات حزب الله وايران. وهذا موقف يمكن أن يمس بالمساعدات الامريكية المقدمة لجيش لبنان.
هذه المعضلة اوضحها بصورة جلية نائب وزير الخارجية الامريكي لشؤون السياسات، دافيد هيل، الذي في زيارته لبيروت في هذا الاسبوع اعلن أن “انتخاب الحكومة هو شأن الشعب اللبناني وحده، لكن طبيعة الحكومة التي ستنتخب تهمنا جميعا، وتهم نمو لبنان واستقراره”. لكن مفهوم “جودة الحكومة” استهدف التحذير من منح وظائف كبيرة لممثلي حزب الله في الحكومة التي لم تشكل بعد. هذا الطلب يعرف هيل، الذي كان سفيرا للولايات المتحدة في لبنان ويعرف جيدا لعبة القوى السياسية في الدولة، أنه ليس له أي احتمال للتحقق. لقد اثار التصريح كما هو متوقع عاصفة سياسية في لبنان ازاء تدخل الولايات المتحدة في الشؤون الداخلية للدولة. جميع الوزراء، وبالاساس وزير الخارجية جبران باسيل، المحسوب على التيار الديمقراطي الحر، والحليف السياسي لحزب الله، تنافسوا فيما بينهم على ادانة “وقاحة” هيل. قضية واحدة اعفي منها لبنان وهي أنه لم تتم دعوته للمشاركة في مؤتمر وارسو، ولكنه فجأة وجد نفسه في مركز الاختبار الذي تضعه الادارة الامريكية لدول المنطقة.
يوجد له حلم
الطلب – التوجيه لوزارة الخارجية الامريكية للبنان، الامتناع عن المساعدة في اعمار سوريا، يثير على الاقل الاستغراب، وبالاساس القلق من انغلاق الشرايين الذي تعاني منه الادارة في واشنطن، حيث أنه فقط قبل اسبوعين صرح الرئيس ترامب بأن السعودية ستكون الدولة التي ستتحمل عبء اعادة اعمار سوريا بعد الحرب. من بالضبط ستساعد السعودية اذا لم يكن الرئيس بشار الاسد، الذي سلمت الولايات المتحدة ببقاء حكمه؟ واذا كانت السعودية ستساعد الاسد في اعمار بلاده، فهل بهذا سيغلق خط الاموال من ايران؟ ولكن حتى قبل التساؤل عن طبيعة هذا التناقض، من المهم معرفة لماذا تصمت الادارة الامريكية على فتح سفارات للبحرين ودولة الامارات في دمشق. وقبل ذلك صمتت عند قيام رئيس السودان عمر البشير بزيارة دمشق.
لن يكون خطير جدا التقدير أن هذه الخطوات تمت بموافقة واشنطن أو على الاقل بعلمها. التفسير الذي قدمه ممثلو هذه الدول يحاول الاقناع بأن هذه الخطوة استهدفت تقريب سوريا الى الدائرة العربية من اجل ابعادها عن ايران. ولكن اذا كان هذا التفسير قد ارضى الادارة الامريكية فمسموح لنا التساؤل ثانية: لماذا لم تجدد هذه الدول علاقاتها الدبلوماسية مع قطر من اجل نفس الهدف المقدس. يبدو أنه ايضا في المعركة العربية ضد ايران هناك سلم اولويات لا يخضع للاولويات التي تريد الولايات المتحدة وضعها. ايران على كل الاحوال، منحت الرحلة العربية الى سوريا عنوان خاص بها: “المهزومون عادوا الى سوريا”، كتب في احدى الصحف. على الاقل حسب تصريحاتها وردودها على اقوال نتنياهو الذي دعاها الى “اخراج قواتها بسرعة من سوريا”، فان ايران لا تنوي التنازل عن مواقعها في سوريا طالما أن “النظام السوري لا يطلب ذلك”.
ترامب يمكنه فقط الاحتجاج على نفسه – الوضع المناقض لقوانين الطبيعة التي وضعها – اذا اكتشف أن حلفاءه في الخليج لا ينسون تغريدته الفاخرة التي اعلن فيها بأن القوات الامريكية ستغادر سوريا وأن “ايران تستطيع أن تفعل في سوريا ما تشاء”. هم ايضا لن يحتاجوا الى البحث الطويل في الارشيف كي يجدوا بيع التصفية الذي اجرته هذه التغريدة للاكراد. الرسم البياني لسياسة الولايات المتحدة ضد ايران في الشرق الاوسط يجبرها بداية على اجراء مصالحة داخلية بين الدول العربية، واقناع العراق بتقليص علاقاته مع ايران ودفع لبنان الى الحسم في موضوع مشاركة حزب الله في الحكومة وفحص ما يمكن فعله لانهاء الحرب في اليمن واقناع تركيا بالانفصال عن المحور المشترك لها مع ايران. كل مهمة من هذه المهمات ثبت أنها غير قابلة للتحقق، وتنفيذها معا سيقتضي كما يبدو استبدال جميع زعماء الدول العربية.
في كانون الاول الماضي، بعد ستة اشهر على اقالة ترامب له، قال وزير الخارجية المقال، ريكس تلرسون بأن “ترامب لا يحب القراءة. هو لا يقرأ التقارير التوجيهية ولا يحب الدخول في التفاصيل في مواضيع كثيرة”. يبدو أنه بالامكان اضافة الى الصفات الفنية التي تشكل الرئيس الامريكي ايضا قدرته على الخيال: مثل مارتن لوثر كينغ، ايضا يوجد له حلم – أن تختفي ايران. هو يعرف طبعا كيفية القيام بذلك. التفاصيل، مثلما قال تلرسون، غير مهمة حقا.
هآرتس – مقال – 18/1/2019

بقلم: تسفي برئيل

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف