عصابة لصوص”، هذا كان الشعار المفضل بشكل بارز للمتظاهرين في يوم الجمعة. لقد رددوه تحت مكاتب مؤسسة التأمين الاجتماعي في وسط البيرة المحاذية لرام الله احتجاجا على كل النظام السياسي – البيروقراطي الذي يدير حياتهم. بدء من الموظفات الموجودات في الاسفل وحتى من يقف على رأس قمة الهرم، محمود عباس، وإن كان اسمه لم يذكر. لم يعنيهم مطلقا أنه في نفس ذلك اليوم، 15 كانون الثاني كان سيلقي خطاب في الامم المتحدة في اطار ما يعرضه هو ورجاله كانجاز دبلوماسي فلسطيني هام آخر: نقل رئاسة مجموعة الـ 77 (الدول النامية) الى دولة فلسطين، رغم مكانتها كمراقبة فقط في الامم المتحدة. الاضراب العام الذي اعلن عنه القطاع الخاص في مدن الضفة الغربية والذي جرى يوم الثلاثاء في موازاة المظاهرات يعني الجمهور اكثر من بادرة حسن نية دولية تتمثل باعتراف احتفالي بدولة على الورق.
الى جانب مطالبة المتظاهرين بالغاء قانون الدفع الاجباري للضمان الاجتماعي، هل يمكن رؤية في الانتظام الذي تقف خلفه قوة جديدة متكتلة، أو هي اضافة لقوى أجهزة الطرد المركزي القوية التي تفكك النظام السياسي الفلسطيني الى أجزاء تبتعد أكثر فأكثر الواحد عن الآخر.
القوة المفككة الاكثر قوة (اذا تركنا جانبا سيطرة اسرائيل وسياسة حظر الحركة لها) هي العداء بين حماس وفتح، التي وصلت في الاسابيع الاخيرة الى مستوى جديد من الاتهامات المتبادلة بالخيانة. في 22 كانون الاول 2018 اعلن محمود عباس عن حل المجلس التشريعي الفلسطيني واجراء الانتخابات بعد ستة اشهر. وسنعود لاحقا الى هذا القرار. في نهاية كانون الاول ونهاية قانون الثاني اعتقلت قوات أمن حماس عشرات المؤيدين لفتح، واستدعوهم للتحقيق وفرقوا بالعنف احتفال لاحياء ذكرى تأسيس فتح ومنعوا اقامة مهرجان آخر. وردا على ذلك الامن الوقائي الواقع تحت سيطرة فتح اعتقل عشرات نشطاء حماس في شمال الضفة. اشخاص مجهولون اقتحموا مكاتب صوت فلسطين التابع للسلطة في غزة وخربوا المعدات. السلطة اعلنت عن سحب ممثليها من معبر رفح، الامر الذي أدى الى اغلاقه. في 9 كانون الثاني اعضاء قائمة فتح في المجلس التشريعي في غزة صوتوا واعلنوا عن عدم أهلية عباس السياسية كرئيس. هذا لم يتم الابلاغ عنه في وسائل الاعلام المؤيدة للرئيس، لكن الفجوة الكبيرة بين جيب غزة وجيوب السلطة الفلسطينية في الضفة – واصلت التعمق. في نفس اليوم ايضا علم أنه خلافا لاعضاء القوائم الاخرى، فان اعضاء المجلس التشريعي لحماس في الضفة لا يحصلون على رواتب التقاعد كمتقاعدي المجلس التشريعي الذي تم حله.
ولكن كل ذلك لم يشغل المتظاهرين في يوم الجمعة. هم يبعدون انفسهم عن الاحزاب السياسية. ابتعادهم هو دليل على تفكك الثقافة الايديولوجية الفعالة التي في يوم ما ميزت جدا النظام السياسي الفلسطيني.
تصميم جماعي
كمرافقة موسيقية للدعوات، فان بعض المتظاهرين نفخوا في الابواق البلاستيكية التي تمت استعارتها من لاعبي كرة القدم في جنوب افريقيا. طابور من رجال الشرطة ورجال الامن الوطني محميين بجدار متحرك اغلقوا الشوارع امام حركة السيارات ومنعوا المتظاهرين من الاقتراب من مكاتب مؤسسة الضمان الاجتماعي. لم يتم استخدام العنف. “بالتأكيد ايضا يوجد لهم اشخاص من العائلة يعارضون القانون”، قال احد المتظاهرين واشار الى رجل الامن الوطني الذي وقف مسلحا بين زملائه وهو يحمل سيجارة مشتعلة بين اصابعه.
منذ انتظام المعلمين في المدارس الحكومية من اجل تحسين شروط عملهم قبل ثلاث سنوات، لم تقم حركة اجتماعية بهذا القدر من التصميم، التي تشرك كل الجمهور الفلسطيني في الضفة الغربية. قانون الضمان الاجتماعي تم التوقيع عليه من قبل عباس كمرسوم رئاسي في 2016، ومنذ ذلك الحين اجتاز عدد من التعديلات والتحسينات بفضل الانتقاد الذي وجه اليه من منظمات المجتمع المدني وممثلي منظمات اليسار. ولكن بالتدريج تم الدفع الى الهامش بالنشاط والانتظام للمطالبين بتغييرات اخرى في القانون، الذين يؤيدون وجوده كجزء من نظام العدل الاجتماعي والضمان المتبادل. الحركة الشعبية الواسعة التي تدعو الى الغائه هي التي تملي النغمة اليوم.
احتجاج المعلمين الذي حظي بتأييد الجمهور تم قمعه من قبل اجهزة امن السلطة، وتم حله عبر التهديد والوعود الكاذبة. ربما لأنها اختارت لجنة معلمين ممثلة مستقلة، وقامت بتحدي طريقة التعيين لمقربي السلطة وفتح كممثلي الاتحادات المهنية، منها اتحاد المعلمين. ولكن الآن ممثلي السلطة يظهرون أنهم يصغون لادعاءات الحركة التي تقف ضد قانون الضمان الاجتماعي. ربما أنهم يخشون من حركة كرة الثلج للشعار الذي يردده اعضاء الحركة. “الشعب يريد الغاء القانون” (على نمط الدعوات في تونس ومصر، “الشعب يريد سقوط النظام”). ويبدو أنهم يقدرون أن الحركة الحالية غير متبلورة بما يكفي ولا تنافسهم على التمثيل السياسي.
في يوم الثلاثاء، الذي فيه دخل القانون الى حيز التنفيذ، اعلن المشرف على مؤسسة الضمان الوطني، ماجد الحلو، عن تعديلات اخرى ستجرى عليه، باتجاه تحسين حقوق العمال وتعزيز تمثيلهم. وقد قال إن القانون لن يلغى، لكنه اعترف بأنه كان هناك فشل للجهات المسؤولة في توضيح اهمية القانون للجمهور. كل تفسير له ووجه بعدم ثقة الجمهور وبتفسيرات مناقضة. عمليا، فشلت ايضا منظمات اليسار ومنظمات المجتمع المدني على انواعها التي اجرت المفاوضات في السنة الاخيرة على تعديل القانون بحيث يدافع اكثر عن حقوق العمال. في نصف السنة الاخيرة شاهدوا كيف تم عقد تحالف بين العمال والمشغلين ضد القانون. مصلحة المشغلين التي تكمن في عدم تخصيص اموال لصالح مخصصات الشيخوخة واجازات الولادة واضحة. ولكن ما الذي يحرك العمال لمعارضة ضمان حقوقهم مستقبلا؟.
اقتحامات متعددة المعاني
ضمانكم لا توجد له ضمانة، كتب على احدى اليافطات في المظاهرة. شعارات اخرى اسمعها المتظاهرون ذكرت أنه في الاسابيع الاخيرة الجيش الاسرائيلي دخل الى رام الله كل يوم وفي وضح النهار – حتى أن الجنود وصلوا الى منزل محمود عباس والوزارات الحكومية – واقتحم عشرات المحلات التجارية والمكاتب، وصادر افلام كاميرات الحماية، أو طلب الارقام السرية للدخول الى صورها. في رام الله يناقشون اذا كانت هناك اهمية خفية لهذه الاقتحامات، التي تجري بالذات في الاحياء الاكثر تماهيا مع السلطة. اذا ليس هناك ضمانة للضمان، لأنه لا يوجد أي شيء مضمون تحت السلطة العليا الاسرائيلية، لكن ايضا لأنه لا توجد ثقة بالمؤسسات التي اقامتها السلطة وبنزاهة كبار المسؤولين والموظفين الذين يديرونها ويضعون أيديهم على اموال الجمهور.
احدى هذه المؤسسات هي “المحكمة الدستورية”، التي في اعقاب توصيتها أمر عباس في نهاية كانون الاول بحل المجلس التشريعي. القانون لاقامتها تم سنه في 2003 ونص على أن مهمتها تقديم الرأي وتفسير مواد الدستور غير الواضحة في حالة حدوث خلاف بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية. عند فوز حماس في انتخابات 2006 تم تغيير القانون بصورة خاطفة، بحيث الغيت مشاركة المجلس التشريعي في تعيين القضاة، والغيت صلاحيات المحكمة الدستورية في انتقاد والاشراف على نشاطات الرئيس. حتى نيسان 2016 لم يتم اشغالها بالقضاة. فجأة اعلن عن تعيين تسعة قضاة، واحد القرارات الاولى لهم كان أن الرئيس يمكنه عزل اعضاء في المجلس التشريعي الفلسطيني – مثلما فعل بعدوه محمد دحلان وزملائه من حركة فتح. الانتقادات الشديدة لعدم دستورية هذه الخطوة وعدم استقلالية القضاء ووجهت بحائط مسدود.
الآن أوصت المحكمة الدستورية بحل المجلس التشريعي الذي منذ تشكيله في 2006، لم يعمل تقريبا. الاعتقالات التي نفذها الجيش الاسرائيلي في اوساط منتخبي حماس في الضفة الغربية ورفض فتح الاعتراف بالهزيمة، أدت الى شله فعليا. بعد الحرب الاهلية في 2007 وتأسيس السلطة المزدوجة فان المجلس لم يجتمع في الضفة الغربية مطلقا، وإن كان اعضاءه قد حاولوا التأثير بطرق مختلفة على قرارات الحكومة وعلى الخطاب العام. المراسيم الرئاسية حلت محل القوانين – في قطاع غزة قائمة حماس تجتمع وتسن القوانين التي هي فقط لصالح غزة. فترة اهلية دورة المجلس انتهت منذ زمن طويل (في العام 2010). في نفس السنة ايضا انتهت صلاحية ولاية محمود عباس كرئيس.
ولكن استمرار وجود المجلس التشريعي اعتبر دائما ثغرة لاحياء نشاط المؤسسات المشتركة في الضفة وغزة كشرط لانهاء الانقسام. الى جانب حقيقة أن عباس لم يحدد أنه ستجري بموازاة انتخابات المجلس انتخابات للرئاسة، لا أحد يؤمن بأن الانتخابات للمجلس ستجري بعد ستة اشهر تقريبا. واذا جرت، فذلك سيكون فقط في جيوب الضفة الغربية، الامر الذي سيعزز الفصل والانقسام بين الاجزاء المختلفة. مع حل المجلس التشريعي وبتوصية المحكمة الدستورية التي قانونيتها مشكوك فيها، يوضح عباس بأنه حتى فصل السلطات الشكلي لا يهمه، وأن الانقسام ليس كارثة، وأنه سوية مع من يقولون له نعم في فتح، هو مستعد لأن يواصل وينفذ دوره في فصل قطاع غزة عن سكان الضفة الغربية.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف