العائلة، العامل الاجتماعي الاول والرئيسي في المجتمع العربي الفلسطيني، توجد في مركز الصراع العاطفي الذي يقوم به الابناء والبنات الفلسطينيون ضد ثلاث شخصيات أبوية رمزية: الأب الشخصي في العائلة النووية، الأب الحاكم في العائلة الوطنية الفلسطينية والأب الشاذ (زوج الأم)، الاسرائيلي. الابناء الفلسطينيون الذين تحولوا ليكونوا “ليسوا أبناء أحد” يخجلون من الأب الشخصي الذي يقوم بخصيهم من اجل التعويض عن ذكوريته الجريحة، بعد أن تم خصيه من قبل الأب الحاكم الفلسطيني؛ هم يحتقرون الأب الحاكم الفلسطيني الذي يقوم بقمعهم من اجل التعويض عن ذكوريته الجريحة وعن اهانته من قبل زوج الأم الاسرائيلي، وهم غاضبون منه لأنه يهتم برفاه عائلته الخاصة والمقربين منه بدل رفاهية عائلته الوطنية؛ هم يريدون الانتقام من زوج الأم الاسرائيلي، الذي يقوم باحتلالهم ويحرمهم من حرية العيش بكرامة.
من اجل أن يستطيعوا استكمال عملية البلوغ يجب عليهم التحرر من الحياة في مجتمع عاطفي يخضع لنظام ثقافي أبوي قمعي، يعلم على الخوف والخضوع والسلبية والاهانة، وانشاء مجتمع عاطفي يقوم على التعددية الثقافية وحرية التفكير والعدل الاجتماعي وتحقيق الذات والتضامن الاجتماعي، بدون تمييز في الدين والطائفة والطبقة والجنس.
الخضوع لغطرسة الأب في العائلة النووية واستبداد الحاكم الوطني والخوف من العقاب، تتحول بالتدريج الى أمر سطحي وهامشي. وكلما تزايد اقصاء الابناء وتهميشهم كلما ازداد استعدادهم للتمرد ضد الآباء. الانكشاف على القرية العالمية من خلال الشبكات الاجتماعية يمكن الشباب من التغير وتبني سلوك جديد عاطفي ومعرفي. لقد أرادوا أن يأخذوا بعيدا من الثقافة الغربية التلقائية الحساسة وأن يزيلوا عنهم قيود العادات التقليدية والتعليم الجامد. وقد أرادوا التعبير علنا عن المشاعر والافكار وتحرير الكلمات التي علقت والصرخات التي خنقت والمواقف التي بقيت في خيالهم.
توجد للفلسطينيين وخاصة للغزيين الذين يعيشون تحت حكم حماس اسباب جيدة للتمرد، وهم لا يحتاجون الى نماذج للتقليد. ولكن دائما من الجيد أنه في المحيط القريب أو البعيد هناك تمرد آخر للمجموعات السكانية المقصاة. تمرد الجمهور في الجزائر في الاسابيع الاخيرة انعشت لدى عدد منهم الذكريات المنسية من ايديولوجيا فرانس كانون وكتابه “المعذبون في الارض”، الذي كان مصدر الهام لمحاربي الحرية في الجزائر ومقاتلي التحرر الفلسطيني في بداية طريقهم. المظاهرات في القطاع وفي الضفة بين الفينة والاخرى هي نقاط غضب متراكمة على محور الزمن، وهي تذكر بما حدث في السنوات السابقة من ثورات “الربيع العربي”.
ايضا هنا في القطاع، مشاعر الخوف والغضب واليأس التي تسكت من الداخل بالتدريج مشاعر الخجل والغضب على تجربة طويلة من الظلم والاهانة والقسوة والقمع من قبل السلطة. شبيها بما حدث في تونس ومصر فان منظمي المظاهرات في غزة اعلنوا أنهم لا ينوون اسقاط حكم حماس بالعنف، وكل ما يريدونه هو الحرية والعدالة والعيش بكرامة. بدلا من القمع والاستعباد والفساد والاقصاء. مثل اخوتهم في الدول العربية المجاورة هم يريدون أن يكون بشر ومواطنين وليس عبيد. هم يريدون العيش مثل ابناء الحاكم ويطلبون من جميع الفصائل الفلسطينية – حماس والجهاد وفتح والجبهة الشعبية – التوقف عن سرقة الصندوق العام.
شبيها بالتمردين في مصر وتونس فان الغزيين يتحررون بالتدريج من الوعي الكاذب الذي يقول إن الحكام سيحدثون التغيير بارادتهم في بنية السلطة. اطلاق النار الحية من قبل شرطة حماس في غزة شبيها باطلاق النار الحية في مصر وتونس يدل على اللحظة التي فيها يبدأ المواطنون بفهم أن السلطة لا تعتبرهم بشرا أو أبناء عائلة، بل اشياء يمكن قتلها أو استغلالها مثل لحم للمدافع على جدار الفصل مع اسرائيل. هذه لحظة حاسمة من ناحية عاطفية، التي فيها سلاح المقاومة يفقد قدسيته في نظر الجمهور. في هذه الاثناء الغضب يتحول الى كراهية، تكسر حاجز الخوف وتزيد الاستعداد للمخاطرة والانتقام.
عندما تفقد السلطة السلاح الاساسي الذي لديها أمام السكان – الخوف والخجل – يحدث انقلاب في معايير الخضوع. السلطة التي اخافت وضربت الجمهور، يجب عليها أن تخاف منه. السلطة التي جعلت الجمهور يخجل يجب عليها تحمل المسؤولية وأن تخجل من افعالها ضده. المتظاهرون ينشرون صور لموظفين في اجهزة أمن حماس ويشاركون في العنف ويحذرون: “نحن مجتمع قبلي وحينا صغير، الجميع يعرفون بعضهم”. حماس انشأت وحدة للملاحقة الليلية لجنود الجيش الاسرائيلي قرب الجدار. الآن المتظاهرون يدعون لتشكيل وحدات للملاحقة الليلية ضد حماس، ويقولون إنهم لن يكونوا وقود لحماس في حربها ضد اسرائيل.
وشبيها بالانتفاضات في مصر وتونس، المتظاهرون في غزة يميزون بين رجال الشرطة والجيش. الشرطة التي هي فرع لوزارة الداخلية لحكومة حماس، لا يخافون من عرضهم كـ “مافيا مسلحة وخائنة للشعب”، “خنازير وكلاب سمينة، “مصاصو دماء” و”تتار جدد”، يعيشون في القصور ويثيرون الذعر ضد ابناء شعبهم. في المقابل، رجال الذراع العسكري لحماس، كتائب عز الدين القسام، ما زالوا يعتبرون أنه يجب عليهم الوقوف الى جانبهم والدفاع عنهم والانتقام لهم على مشاركتهم في كل الجولات العسكرية مع اسرائيل، بما في ذلك مسيرات العودة التي بدأت في آذار 2018.
المتمردون اصبحوا غير مستعدين للقبول بخضوع المعادلة: “شرطي جائع يطلق النار على مواطن جائع من اجل الدفاع عن قائد شبعان والذي يعيش اولاده برفاه ويمكنهم السفر الى أي مكان”. هم لم يعودوا مستعدين لقبول الممارسات السيئة لحماس عندما تعتبر الشباب ثوريين في الوقت الذي يخدمون فيه الاجندة السياسية لحماس واعتبارهم خونة وعملاء مع أجندة لجهات اجنبية عندما يطلبون العيش بكرامة.
اذا يبدو أنه ليس فقط الوضع الاقتصادي هو الذي يحرك الانتفاضة في غزة، بل ايضا وبالاساس الشعور بالاهانة المرافق للوعي بأن الثراء وفرص التقدم واحتكار اتخاذ القرارات السياسية توجد في ايدي مجموعة صغيرة وفاسدة. هذه ثورة جياع لم يعودوا مستعدين للاكتفاء بالفتات والطرق المهذب على باب الحاكم. الآن يتم طرح سؤال هل كتائب عز الدين القسام ستقف الى جانب الجمهور مثلما وقف الجيش في تونس ومصر، ويشيرون الى المستوى السياسي في حماس الى الطريق نحو الخارج، أم سيفضلون الوقوف الى جانب القيادة الحالية لحماس، الفاسدة والمترددة، ويجرون القطاع الى حرب اهلية دموية وقاسية.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف