في الجيش الاسرائيلي يستعدون للحرب في غزة. اذا لم تنشب في نهاية الاسبوع مع المسيرات على الجدار، فان هذا سيحصل اغلب الظن بعد الانتخابات ويوم الاستقلال، مع حلول الصيف. كل الخطط جاهزة عمليا. هذه ستكون حربا شاملة مع توغل بري لقوات كبيرة ومناورة برية للمدرعات، حاملات الجنود المدرعة وسلاح المشاة. عمليات سرية لوحدات خاصة واحباطات مركزة، الى جانب هجمات مكثفة من الجو وقصف من البحر.
أما غاية الدخول البري فسيكون احتلال القطاع. الوصول من الحدود وحتى البحر المتوسط، مسيرة نحو عشرة كيلو مترات لا يفترض أن تستغرق اكثر من اربع ساعات. واطلاق القوات البرية نحو المعركة المستقبلية لن يكون فقط لاغراض عسكرية – عملياتية اضطرارية. في هذا سيحاول الجيش الاسرائيلي، بقيادة رئيس الاركان الجديد أفيف كوخافي، ان يصد أيضا الانتقاد من قبيل ذاك الذي وجهه مراقب جهاز الامن اللواء اسحق بريك في أن الجيش البري ليس جاهزا للحرب ويخاف من المعركة.
عندما سيحتل القطاع، سيبدأ القتال من حي الى حي ومن بيت الى بيت. اما هدف الحرب فسيتعين على القيادة السياسية أن تقرره، وأولا وقبل كل شيء – هل هو اسقاط حكم حماس. حتى لو نجح هذا، وثمة حول ذلك شك لا بأس به، فان افكار حماس لن تهزم. من سيحل محل حكمها؟ السلطة الفلسطينية؟ مشكوك جدا أن تحمل على حراب الجيش الاسرائيلي كي تعود وتحكم القطاع. نظام عربي – دولي؟ احتمال طفيف. مصر غير معنية باخذ المسؤولية عن القطاع. رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو روى في محادثات مغلقة بانه في لقاءاته مع زعماء في العالم العربي طرح عليهم فكرة ان يأخذوا تحت رعايتهم ادارة القطاع. اما هم فلم يرغبوا في السماع عن ذلك.
في هذه الظروف ستضطر اسرائيل الى العودة لتحكم القطاع، وتقيم فيه حكما عسكريا، وتحرص على اطعام مليونين من الفلسطينيين وتلبية احتياجاتهم: التعليم، الصحة، الوقود، الغذاء وغيره. وكل ذلك في فترة كفت فيها ادارة ترامب عن تمويل الوكالة. ناهيك عن الضغط من اليمين لاقامة المستوطنات مرة اخرى في القطاع. واذا احتل الجيش الاسرائيلي غزة وانسحب منها بعد زمن ما، فانه لن يبقي فيها الا أرضا محروقة وأرضا خصبة لتصبح مثابة الصومال، بلاد تسيطر عليها عصابات ومنظمات ارهابية مثل القاعدة وداعش.
كل واحد من هذه الخيارات اسوأ من سابقه، ولكن سيناريو الحرب بعد اشهر قليلة ليس قدرا محتوما. يمكن منعه. وهو سيمنع اذا ما عملت الحكومة التي ستقوم بعد الانتخابات على اتصالات مع السلطة الفلسطينية تحت مظلة مؤتمر اقليمي برعاية الدول العربية والقوى العظمى – وفي أزرق أبيض يتحدثون عن ذلك. اما احتمالات ان تنشب فستزداد اذا ما انتخب نتنياهو لولاية خامسة وشكل ائتلافا يمينيا مرة اخرى. ليس لانه يدق طبول الحرب بل العكس. نتنياهو هو زعيم حذر لا يسارع الى القتال. بل بسبب الضغط الجماهيري المتعاظم الذي يتعرض له، بسبب العجز الذي يبديه هو وحكومته لمعالجة مشكلة غزة.
في 30 اذار قبل سنة، بدأت المظاهرات على الجدار وتواصلت باطلاق الطائرات الورقية الحارقة والبالونات المتفجرة والقاء العبوات الناسفة ونار القناصة والكمائن ضد قوات الجيش الاسرائيلي وبين الحين والاخر اطلاق الصواريخ نحو اراضي اسرائيل. واليوم (الجمعة) يمكن احياء سنة بالضبط على ما حصل على حدود غزة. هذه حرب استنزاف بكل معنى الكلمة. حتى نشوبها كان للسكان في غلاف غزة هدوء ثلاث سنوات ونصف. ولكن حكومة نتنياهو ضيعتها، حين امتنعت عن محاولة الوصول الى تسوية.
مخطط التسوية واضح بما يكفي للجميع. على اسرائيل أن ترفع الحصار، تسمح بدخول مليارات الشواكل لاعمار القطاع (المال موجود من الدول المانحة ومن المحافل الدولية)، توسيع مجال الصيد والدفع الى الامام بمشاريع لزيادة قدرة انتاج الكهرباء، تحسين حقيقي لجودة مياه الشرب، اقامة منشآت مجاري وتطهري للمياه العادمة ومشاريع توفر عملا وتقلص البطالة التي تصل الى 50 في المئة. هناك موضوعان يصعبان الامر جدا على هذا المخطط. الاول هو رفض السلطة الفلسطينية المشاركة في العملية طالما لم تستأنف اسرائيل المفاوضات معها. والثاني هو اصرار اسرائيل على أن يكون الشرط المسبق لكل تسوية أو ترتيب هو اعادة اشلاء جثماني الجنديين واعادة المدنيين الاثنين. حماس مستعدة لصفقة تبادل ولكنها تضع شرطا مسبقا لها – تحرير نحو 50 من رجالها، من محرري صفقة شاليط ممن اعيد اعتقالهم عشية الجرف الصامد، وكذا تحرير مئات المخربين من السجون في اسرائيل.
اسرائيل ترفض ذلك، وعن حق. فهذا شرك. لا حراك طالما لا توجد صفقة تبادل للاسرى ولا صفقة لان الثمن المطلوب عال. وبكسر هذه الدائرة الشيطانية يتعين على الحكومة أن تتخذ قرارا شجاعا فتنظر الى الجمهور مباشرة الى العيون وتقول ان حياة سكان غلاف غزة والهدوء اهم من اشلاء جثماني الجنديين والمدنيين الاثنين اللذين انتقلا الى غزة بارادتهما.
ولكن حكومة نتنياهو لا تفعل اي من هذه الامور. وبدلا من ذلك فانها تراوح في المكان من وقف مؤقت للنار وهزيل واحد الى آخر. في الماضي اعتقدت بان الحديث يدور عن غياب السياسة. ولكن مؤخرا في اعقاب معلومة جديدة قليلون جدا انتبهوا لها، تغير رأيي.
قبل نحو ثلاثة اسابيع تحدث رئيس الوزراء في كتلة الليكود. وردا على الانتقاد الذي وجه له بموافقته على نقل المال القطري الى غزه فانه في واقع الامر يدفع خاوة لمنظمات الارهاب، قال نتنياهو ان من يعارض الدولة الفلسطينية يجب أن يؤيد ضخ الاموال.
رسميا، لم يتراجع نتنياهو علنا عن تأييده لفكرة الدولتين، ولكن في فكره وفي افعاله، واضح كالشمس انه يعارض ذلك. يمكن للامر ان يشرح خطواته منذ الجرف الصامد وبالتأكيد في السنة الاخيرة. فهو يبذل كل جهد مستطاع لاضعاف السلطة (تجميد نصف مليار شيكل من أموال ضرائب الشعب الفلسطيني التي تحتجزها اسرائيل كوصي)، وبالتوازي يضخ الاموال لحماس كي يشتري هدوءا مؤقتا.
لا يمكن أن يكون لنهج نتنياهو تفسير آخر: فهو يعبر عن رغبته في شق الشعب الفلسطيني الى كيانين جغرافيين – الضفة وغزة – والى حكمين – السلطة وحماس. وهدفه الاعلى هو سد كل شق، حتى وان كان صغيرا للغاية، يتيح استئناف المفاوضات السياسية، وتحطيم فكرة الدولة الفلسطينية.
هذه سياسة واضحة، تستمد الهامها من ايديولوجيا وفكر متماسك فيه رؤية تاريخية بعد المدى. فهي مستعدة لان تضحي بسكان الجنوب (واستنادا الى نار الصواريخ في الاسابيع الاخيرة غوش دان وشمالها ايضا) على مذبح فكر تاريخي ايديولوجي للمدى البعيد. اذا ما نشبت قريبا حرب في غزة، فانها ستكون حرب خيار زائدة اخرى ونتيجة مباشرة لسياسة، استراتيجية وفكر وليس لغياب السياسة.
يوسي ملمان، معاريف 29/3/2019

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف