جولة القتال التي لا أحد يعرف رقمها، مع حماس والجهاد الاسلامي انتهت حتى الآن، وهذا هو الوقت المناسب لاستئناف النقاش في مسألة ماذا سنفعل مع غزة. الطريقة التي انتهت بها الجولة الحالية، تحت جنج الظلام، وبدون بيان رسمي لحكومة اسرائيل ومع معلومات وصلت بالاساس من الطرف الفلسطيني، لا تبقي أي مجال كبير للأمل في أن تكون فترة هدوء طويلة. المشاكل الاساسية للقطاع بقيت على حالها، بل ازدادت شدة. ايضا اذا وصلت حقائب كبيرة من قطر في الايام القريبة القادمة فان ذلك سيكون على الاكثر حبة دواء مهدئة على الاقل حتى الشهر القادم. السؤال ماذا نفعل مع غزة سيبقى معها لفترة طويلة من الزمن.

في الطرف الاسرائيلي تنشغل بهذه المسألة جهات مثل معهد ابحاث الامن ووزير المواصلات والخارجية اسرائيل كاتس – لكن ليس الجهات ذات العلاقة حقا. رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو أدار في العقد الاخير مئات النقاشات حول غزة، لكن بشكل عام تناول الجوانب المستعجلة والمشتعلة لعلاج مشكلة الصواريخ والانفاق ونقل البضائع في المعابر الحدودية ومسألة الاموال القطرية. نقاشات عملية قليلة في مسألة كيف نحل مشكلة غزة على المدى البعيد، لم تثمر أي حل، ليس لأنه لا يوجد اقتراحات: الوزير كاتس يحاول الدفع قدما منذ سنوات خطة “الجزيرة – اردوت” التي ترتكز على اقامة جزيرة صناعية امام شواطيء غزة يتم اقامة ميناء فيها ومطار وبنى تحتية للطاقة والمياه. الجزيرة ستعمل باشراف دولي وستمكن من أن توفر لغزة احتياجاتها الاساسية وأن تطور اقتصادها، والاشراف الدولي سيكون مسؤول عن أن لا تتحول هذه الجزيرة الى جزيرة ارهاب (واذا حدث ذلك فان عملية اسرائيلية امام جزيرة كهذه ستكون اقل خطرا من الدخول البري الى غزة، التي يعيش فيها 1.9 مليون انسان).

فكرة كاتس تحظى باهتمام وتعاطف دولي، ايضا في الساحة السياسية والامنية في اسرائيل هناك من يعتقدون أنه يجدر تطبيقها. إلا أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق والمعد لذلك، افيغدور ليبرمان، لم ينضما اليه. ليبرمان يعارض أن تعطى لحماس هذه الجائزة. ونتنياهو؟ لم يقل نعم ولم يقل لا.

​50 في المئة من الغزيين يعيشون بأقل من 5 دولارات يوميا

يصعب معرفة ماذا يريد نتنياهو أن يحدث في غزة. التقديرات الاخيرة التي ترتكز على تصريحات لعدد من المتحدثين باسمه، هي أن نتنياهو يفضل تخليد الانفصال القائم بين حماس التي تسيطر على غزة وبين قيادة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية – لأن هذه هي الطريقة لدفن فكرة الدولتين. بناء الجزيرة من شأنه أن يغير التوازن بين الفصيلين الفلسطينيين، في حين ان نتنياهو يشعر كما يبدو بالراحة بالوضع الحالي.

ولكن بين غزة والضفة لا يوجد توازن مطلقا. منذ 2005 تم فتح فجوات اقتصادية كبيرة بين قسمي فلسطين. في تقرير نشر في 2015 ينسب البنك الدولي الفجوات للمواجهات المستمرة بين حماس واسرائيل، والحصار الاسرائيلي على القطاع. معهد ابحاث الامن نشر قبل سنة تحليل اقتصادي لقطاع غزة كتبه البروفيسور عران يشيف والون ريغر، الذي يشير الى انقطاع بين اقتصادين منذ الانفصال. حسب التقرير، الناتج الاجمالي الخام للفرد في القطاع في العام 2015 كان 1700 دولار مقابل 3700 دولار في الضفة الغربية. ومن اجل المقارنة، الناتج الاجمالي للفرد في اسرائيل في تلك السنة كان 36 ألف دولار، الاجر اليومي المتوسط في غزة في العام 2016 كان 62 شيكل مقابل 94 شيكل في الضفة الغربية. البنك الدولي قدر في التقرير أنه لولا المواجهة والحصار الاسرائيلي لكان الناتج في غزة سيكون مساويا لمثيله في الضفة الغربية وحتى قد يكون أكبر.

التقرير الاخير للبنك الدولي الذي نشر في 2019 يصف فجوات دراماتيكية بين الاقتصادين وبين وضع المجموعتين السكانيتين. حسب التقرير فان نسبة البطالة في غزة قفزت الى 52 في المئة في العام 2018 مقابل 18 – 19 في المئة في الضفة الغربية. البطالة في اوساط الشباب في غزة مخيفة – 67 في المئة. نسبة الفقر في غزة هي ايضا مخيفة – 46 في المئة من السكان يعيشون بمبلغ يصل الى 5.5 دولار في اليوم (بمفاهيم قوة الشراء للعام 2011) مقابل 9 في المئة في الضفة الغربية يعيشون بمبلغ كهذا. توقعات البنك الدولي للسلطة الفلسطينية للسنوات القريبة القادمة غير مشجعة: الاستثمارات الحكومية والاجنبية التي هبطت الى الصفر تقريبا ستدهور الاقتصاد، وحسب التوقعات فان النمو سيكون 0.5 في المئة فقط في العام 2019. أي أن الناتج للفرد سينخفض. فعليا هناك مجال آخر فيه السلطة الفلسطينية تعرض معطى افضل من مثيله في اسرائيل – النسبة بين الدين والناتج. في السلطة يبلغ هذه السنة 21 في المئة مقابل 61 في المئة في اسرائيل. ولكن فعليا هذا فقط دليل محزن لوضع السلطة التي لا تستطيع الحصول على قروض، لا من السكان ولا من المصادر الاجنبية.

المعطيات معروفة للمجتمع الدولي ولحكومة اسرائيل والسلطة الفلسطينية وحماس ايضا. ورغم ذلك فان احتمال أن الجولة الحالية ستؤدي بالطرفين الى الاسراع في ايجاد حلول من اجل تحسين الوضع الاقتصادي في غزة، ضعيف. الانقسام الفلسطيني الداخلي هو أحد اسباب ذلك، لكن اليه يضاف ايضا موقف حماس، التي تفضل اطلاق الصواريخ الدوري من اجل الحصول على ملايين الدولارات من قطر. التأخير في تحويل الاموال القطرية ربما هو اشارة الى أن مزود الاموال النقدية لحماس بدأ يمل من وظيفته.

اسرائيل لا تتحدث مع حماس؟

هل هذا يعني أن اسرائيل يجب عليها العمل بطريقة اخرى؟ أن تبادر؟ الجنرال احتياط يئير غولان الذي كان في السابق نائب رئيس الاركان، نشر في الاسبوع الماضي مقال من خلال معهد القدس للاستراتيجية والامن الذي فيه يقترح مقاربة جديدة تجاه غزة: تبني سياسة سخية تجاه حماس تناسب الطرف القوي. ما هي هذه السياسة السخية؟ توسيع القدرة على انتاج الكهرباء في القطاع وتزويده من اسرائيل أو من مصر، علاج ملح للبنى التحتية للمياه والمجاري في القطاع. وتوسيع قدرة الحصول على أجر للسكان – حتى بواسطة فتح سوق العمل الاسرائيلية لبضعة آلاف من العمال من غزة الذين ينتقلون عبر حاجز ايرز. غولان يقول إنه لا يجب أن نتوقع من السلطة الفلسطينية تعاون ما في كل ما يتعلق باعمار غزة. حسب اقواله، الامر الموثوق جدا والثابت في المنطقة هو عمق الانقسام الفلسطيني. ماذا يحدث اذا لم تؤد هذه الخطة الى هدوء امني وحماس لم تتعاون؟ غولان يعتقد أنه في هذه الحالة اسرائيل ستضطر الى وقف المساعدات المدنية لغزة والعمل عسكريا ضد حماس وقواتها المقاتلة، بما في ذلك عملية برية: “قتال سريع كهذا سيقتضي حرب برية وتحت ارضية داخل قطاع غزة وبحجم كبير. في العقود الاخيرة كان لدينا ميل لتعظيم قوة العدو والتقليل من قدراتنا”، كتب غولان. الثمن بالأرواح الذي سيكون للعملية البرية غير معروف، لكن من الواضح أنه سيكون كبير. هذا يمنع تبني الصيغة: هيا نكون لطفاء مع الغزيين، واذا شاغبوا فسنضربهم بشدة.

بالنسبة للحكومة الحالية (والقادمة ايضا) غزة هي مشكلة شديدة، لن يخرج منها أي شيء جيد. دمل يجب التعايش معه وأن ندفع في كل مرة ثمن الألم الذي تسببه. ولكن ليس من المؤكد أنه يمكن تطبيق رؤية كهذه لفترة طويلة. الوضع الانساني في القطاع يزداد شدة ويحتاج الى حلول ما.

في التقرير الذي تم نشره يقدر يشيف وريغر الامكانيات الكامنة لغزة. حسب تقديرهما هناك امكانية لتطوير السياحة على طول الشاطيء، تعزيز قطاع الخدمات، اعادة تأهيل التصدير الزراعي، وحتى انشاء صناع هايتيك. ويعتقدان أن رأس المال البشري في القطاع له امكانيات كامنة اقتصادية، والتعليم العالي سائد في القطاع بفضل وجود خمس جامعات تعمل هناك. على المدى الأبعد، يوجد لغزة احتياطي من الغاز الطبيعي يمكن أن يكفي لعشرين سنة في حالة تم تطوير هذا المخزون.

طالما أن حماس تسيطر على القطاع وتدير فيه سياسة ابتزاز وارهاب، فان احتمالية أن يحدث ذلك هي معدومة، لكن هذه الامكانية قائمة. من اجل الوصول الى تطبيقها مطلوب أسس أقل تفاخرا لاعادة اصلاح البنى التحتية في غزة، وربما فتح سوق العمل لعمال من هناك. لمن يبدو له هذا خياليا، نذكر بأنه حتى بداية سنوات الالفين كانت 15 في المئة من قوة العمل الغزية تعمل في اسرائيل.

من اجل ايجاد حلول اقتصادية وانسانية سيطلب من الحكومة الجديدة – بتركيبتها المتشابهة تقريبا – اجراء نقاشات حول مستقبل غزة. ويبدو أن ما يمنع اجراء هذه النقاشات هو ادعاء اسرائيل الذي يقول إنها لا تجري مفاوضات مع حماس. إلا أن واقع جولات القتال الاخيرة بين اسرائيل وغزة اثبت أن حكومة اسرائيل برئاسة نتنياهو تتحدث مع حماس اكثر حتى مما تتحدث مع أبو مازن.


لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف