بعد ثلاثة أشهر تقريباً على الانتخابات البلدية في تركيا، وبعد أن قام بلي ذراع مجلس الانتخابات الأعلى وأجبره على إعادة إجراء الانتخابات في إسطنبول، يقف رجل طيب اردوغان أمام الهزيمة الأكثر شدة في فترة ولايته. رئيس تركيا سيضطر الآن إلى إجراء نقد ذاتي لحزبه، وبالأساس لنفسه، إزاء الخسارة الساحقة لمرشحه بينالي يلدرم، والفوز الساحق لخصمه أكرم ايمامولو بفارق 9 في المئة من الأصوات.


كما هي الحال في الحملة الانتخابية السابقة، هذه المرة أيضاً اعتبر اردوغان بأن الانتخابات تصويت على الثقة به شخصياً وليس بمرشحه الذي كان رئيس حكومة تركيا من قبل حزبه، وبهذا حول نفسه إلى صاحب الفشل.

خلافاً للمدن الكبرى-العاصمة أنقرة، ومدينة الأعمال التجارية الرئيسية أزمير، والمنطقة السياحية الرائدة أنطاليا ـ التي خسر فيها كلها مرشحو حزب العدالة والتنمية، فإن الخسارة في إسطنبول هي الأكثر تدميراً، المدينة الأكبر في الدولة التي يعيش فيها نحو 15 مليون نسمة كشفت عن الشرخ العميق في السور الحصين الذي أقامه اردوغان حوله وحول حزبه في الـ 16 سنة من ولايته المتواصلة كرئيس للحكومة وكرئيس للدولة. وقبل ذلك كرئيس للبلدية التي حكمها حزبه حوالي 17 سنة.


توزيع الأصوات غير واضح تماماً، لكن يبدو أن أصوات الأكراد هي التي رجحت الكفة، بعد أن قرروا عدم طرح مرشح خاص بهم وتأييد مرشح المعارضة. حاول اردوغان إغراء الأكراد بمنح زعيم حزب العمال الكردي، عبد الله أوجلان، إمكانية الالتقاء للمرة الأولى منذ تسع سنوات مع محاميه، وفي المقابل حصل منه على تصريح تأييد مهم.

أوجلان وشقيقه طلبا من الأكراد عدم تأييد المعارضة، لكن يبدو أن الحرب الضروس التي شنها اردوغان ضد القيادة السياسية للأكراد على المستوى القطري تغلبت على توصية الزعيم الكردي. في الأحياء الثرية في إسطنبول تعزز تأييد ايمامولو مقارنة بالانتخابات السابقة، رغم حقيقة أن مرشح المعارضة تعهد بعدم بيع الكحول في المراكز الجماهيرية والفصل بين الرجال والنساء في برك السباحة العامة.


وفي الأحياء الفقيرة والمتدينة في المدينة، ومنها حي باتيا المحافظ ـ الديني، حظي ايمامولو بزيادة كبيرة في الدعم. يبدو أن خطاب «درع الإسلام» لم يساعد اردوغان. إذا كان قد وضع نفسه في الانتخابات السابقة على رأس الحرب ضد الخوف من الإسلام عندما استخدم قتل المسلمين في نيوزيلاندا، ففي هذه المرة استغل موت الرئيس المصري المعزول محمد مرسي من أجل المطالبة بإجراء تحقيق دولي ضد الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي. وحتى أنه وصف حزب المعارضة التركي كمن يقلد السيسي الذي سيطر على الحكم بالقوة. ولكن يبدو أن هذه النصوص تدعو للتفاؤل.


يبدو أن السبب الأساسي للسقوط الذي حدث في الانتخابات أمس يكمن في تعاظم الأزمة الاقتصادية الشديدة التي فيها تركيا، زيادة الأسعار ونسبة البطالة التي وصلت إلى 25 في المئة في أوساط الشباب. هذه الأمور كانت وبحق موجودة قبل ثلاثة أشهر، لكن في الفترة الانتقالية فقد الشعب التركي الثقة بوعود اردوغان لإجراء تحسين اقتصادي وتطبيق إصلاحيات تسهل حياة المواطنين.


الليرة التركية واصلت الهبوط ومستثمرون جدد يبتعدون عن الدولة. التوتر، أو أكثر دقة، الشرخ في العلاقة بين تركيا وأمريكا بسبب تصميم اردوغان على شراء الصواريخ المضادة للطائرات «اس 400» من روسيا وعدم الجدوى من تدخل تركيا في الحرب السورية ـ كل ذلك ساهم بدوره في فوز ايمامولو.


اردوغان قطف ثمار قراره عرض الانتخابات المحلية كحسم وطني. وبهذا أطلق للمعركة إخفاقاته السياسية والاقتصادية. الآن سيضطر إلى مواجهة الفشل على المستوى الوطني. كرئيس انتخب قبل سنة تقريباً لولاية من خمس سنوات وكمن يسيطر بشكل مطلق على البرلمان، فإن نتائج الانتخابات لا تهدد مكانته.

لدى اردوغان صلاحيات عليا يمكنه من خلالها تنغيص حياة رئيس بلدية إسطنبول الجديد، وتأخير الميزانيات ومنعها، ووقف مشاريع أو سن قوانين قطرية تقيد حرية عمل ايمامولو. رئيس البلدية أيضاً يتوقع أن يقدم للمحاكمة بسبب إهانته لحاكم إقليم أوردور في حملته الانتخابية. واردوغان سارع إلى التحذير من أنه إذا حكمت عليه المحكمة بعقوبة السجن لمدة طويلة فلن يكون رئيس بلدية. اردوغان الذي أسس صناعة الدعاوى ضد الذين وجهوا الإهانة له ونجح في التسبب بسجن خصومه بهذه الطريقة، لن يتردد في استخدام كل أداة من أجل إزاحة ايمامولو عن الكرسي الجديد الذي حصل عليه أمس.


ولكن لرئيس البلدية الجديد أدوات كثيرة من أجل المس بمكانة اردوغان. فهو يستطيع أن يمس بالمصالح التجارية لرجال أعمال يؤيدون الرئيس، ويمنع خطط بناء وتطوير للحكومة عن طريق وسائل بيروقراطية، ويحدد نظام أولويات جديد في توزيع الميزانية البلدية التي تعاني عجزاً يقدر بنحو 4.5 مليار دولار، وبالأساس استخدام منصبه من أجل بناء نفسه كبديل لاردوغان في الانتخابات الرئاسية القادمة. ايمامولو يمكنه أن يشكر اردوغان لأنه صمم على إعادة إجراء الانتخابات. وبهذا تحول المنافس المعارض إلى جسم مواز مقابل اردوغان، وليس فقط ضد مرشح لرئاسة البلدية، يلدريم. وهذه مكانة من شأنها أن ترفع ايمامولو وحزبه على المستوى الوطني، ففوزه ينقل رسالة لمعارضي اردوغان الذين تعرضوا لخسارة تلو الأخرى في الحملات الانتخابية، والتي تقول إن الساحر قد فقد سحره. وفي المقابل، حتى إجراء الحملة الانتخابية القادمة للرئاسة والبرلمان سيمر ما يكفي من السنوات من أجل أن يتمكن اردوغان من إصلاح مكانته وإصلاح اقتصاد الدولة والوقوف مرة أخرى كمنقذ للأمة.









لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف