هآرتس :


وقفت في الطابور لأحصل على تأشيرة للولايات المتحدة، تلك المرأة التي أمامي تقول إنها المرة الأولى التي تأتي فيها إلى السفارة، لزيارة أولى إلى أمريكا. قالت لي بغضب كم كان صعباً عليها تجنيد المال من أجل هذه الرحلة. اشتكت بأننا نعيش في دولة لا تهتم بمواطنيها. بالإجمال، وأخيراً تمكنت من السفر والاستمتاع. هل هذه هي المرة الأولى التي تسافرين فيها إلى أمريكا؟ سألتني. أجبتها باختصار على أمل أن تنهي الحديث، دون جدوى. اقتربت مني أكثر وتحدثت.. في مرحلة ما همست بأنها مسرورة من ترامب الذي نقل السفارة إلى القدس، وأظهر للعرب بأن الوقت حان كي يعرفوا قيمتهم، وكم من المؤسف أنهم ينغصون لنا حياتنا في هذه الدولة.

امرأة أخرى سمعت هذه الأقوال، تدخلت وقالت إنها وجدت أخيراً شخصاً يتعامل مع العرب في هذه الدولة، هؤلاء العرب ليس لهم حدود. تقدم الطابور ببطء.. وصمتّ رغم كل ما أملك أن أقوله، ولكنني لم أكن راغبة في التحدث في ذاك الصباح الحار، أو أن أستمتع بذاك الحوار عن دولة كل مواطنيها، دولة الحقوق والمساواة وكل هذه الكلمات الكبيرة. استمر الطابور في التقدم ببطء.

عندما خرجت من مبنى السفارة، لوحت لي تلك المرأة الثرثارة.. أخبريني هل توجد هنا حافلات؟ سألت. هل يمكنك نقلي عدة أمتار إلى الأمام؟ لقد مرت في ذهني فكرة بأن أبقيها تحت الشمس الحارقة، لكني أشفقت عليها، وفكرت أن ثمة فرصة في السيارة أبين لها من الذي يجب عليه أن يعرف قيمته. سأقول لها ما أفكر فيه بشأن أفكارها ضد العرب. تعالي، سأنقلك، قلت لها.

سرنا نحو السيارة وسافرت، وبعد ذلك انطلق الراديو بأغنية لا أحبها، غير جميلة وغير هادئة أبداً، بالعربية. المرأة بجانبي تحجرت.. المرة الأولى التي تصمت فيها منذ أن قابلتها. شاهدت بطرف عيني قطرة عرق على جبينها. بدأنا السفر وواصل والراديو بث الأغنية التي لا أحبها. أمسكتْ بالمقعد بدهشة. بعد بضع دقائق سألتني من أين أنا. قلت بلهجة عربية ثقيلة “باقة الغربية”، وأنا أشدد على حرف الباء. أين هذه بالضبط؟ سألت. بشكل عام أقول إنها قرب الخضيرة. هذه المرة اخترت أن أقول لها قرب طولكرم. ثم أمسكت بحزام الأمان وصمتت.

لقد شعرت بأنني أصبت الهدف، نجحت في أن أضعها في مكانها. سنرى ترامب وقد جاء لينقذك الآن، فكرت في نفسي. ولكني على الفور عرفت أنني غير مسرورة أبداً من المشهد. لست إنسانة سيئة، وبدون أن أفعل شيء قلت: من أين أنا بلهجتي الطبيعية. شعرت وكأنني فعلت شيئاً سيئاً. لقد خافت مني، هذا واضح. ولكني خفت أيضاً. شعرت أنني لا أعرف نفسي، وأن شيئاً سيئاً يخرج مني، متعالياً، ومتسلطاً، لا سمح الله.

بعد دقائق من الصمت ضبطت نفسي وفهمت أنني لست هي، ولن أكون هي في أي يوم. لقد كبرت وتربيت بصورة مختلفة وعلى قيم مختلفة. لقد غضبت من نفسي لثوان لأنها جعلتني أفقد شخصيتي، ولكن على الفور قلت لها إنني سأساعدها في العثور على الحافلة التي تبحث عنها. أثناء بحث طويل ظلت تنظر إليّ بنظرة فاحصة، لكن أقل دهشة، قلت: ها هو. وفجأة وجدت نفسي أقول لها بلطف: سيدتي، يبدو من الأفضل أن تتجولي هنا، في دولتك، قبل أن تذهبي إلى أمريكا. من هذه المحطة تنطلق حافلات إلى بيت لحم والخليل، من هنا تنطلق حافلات زرقاء مخصصة للفلسطينيين وحافلات خضراء مخصصة للإسرائيليين. نحن على بعد خمس دقائق سفر من الحاجز الذي يفصل بيننا وبين الفلسطينيين الذين يعيشون في بيت لحم.

قبل لحظة من نزولها من السيارة شكرتني على النقل وضحكنا وقلنا ربما نلتقي في الولايات المتحدة. وطوال طريقي إلى البيت، قلت في نفسي: كم هو محزن أن القدس، تلك المدينة التي تحظى من بدء التاريخ بتنوع إنساني مدهش، مقسمة اليوم مثلما لم تكن في أي يوم.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف