يدّعي كيري، وزير الخارجية الأميركي، أنه دعا إلى عملية تفاوضية، بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بدون شروط مسبقة.

لكن الملاحظ أنه فرض، على الفلسطينيين وحدهم شرطين كبيرين. الأول أن لا يتوجهوا إلى الأمم المتحدة لتفعيل عضوية دولة فلسطين في المنظمة الدولية، بما في ذلك الانتساب إلى الوكالات والمنظمات والمؤسسات الدولية واتفاقية جنيف الرابعة، طوال العملية التفاوضية ومدتها تسعة أشهر، وعدم استئناف الهجوم الدبلوماسي الهادف إلى عزل إسرائيل ونزع الشرعية عن الاحتلال وممارساته، واللجوء إلى محكمة الجنايات الدولية ومحكمة لاهاي.

الشرط الثاني ألا يطالبوا بوقف الاستيطان في القدس وأنحاء الضفة الفلسطينية. مما يتيح لحكومة نتنياهو مواصلة سياسة فرض الأمر الواقع ميدانياً عبر توسيع المستوطنات القائمة، وفصل القدس المحتلة عن مناطق الضفة الفلسطينية، وشقّ المزيد من الطرق الالتفافية والجسور والأنفاق والمعابر، التي تفتت المناطق الفلسطينية، وتجعل منها دولة غير قابلة للحياة، مثلومة السيادة الوطنية في الأرض والبحر والجو.

حوّل نتنياهو المفاوضات إلى مجرد عملية لالتهام الوقت، واستكمال مشاريعه الاستيطانية رغم تصاعد الصراخ في إسرائيل، وفي الولايات المتحدة من أن سياسة التوسع الاستيطاني من شأنها أن تقلص فرصة «حل الدولتين لشعبين» كما دعت له واشنطن، وأن تقود إلى قيام الدولة الواحدة، ذات أغلبية فلسطينية بديلاً لإسرائيل اليهودية.

لذلك لا يملّ الرئيس الأميركي باراك أوباما، ووزير خارجيته جون كيري (ومن قبله الوزيرة هيلاري كلينتون) من تحذير نتنياهو بأن استمرار الاحتلال وعدم الانسحاب من المناطق الفلسطينية من شأنه أن يهود مستقبل يهودية إسرائيل ونقاءها العنصري. فيدعونه إلى الاستجابة لنداء الانسحابات، ليس حرصاً على حق الشعب الفلسطيني في التمتع بالحرية والاستقلال، بقدر ما هو خوف على مستقبل المشروع الصهيوني ويهوديته.

لكن الملاحظ أن نتنياهو لا يستمر فقط في الاستيطان، بل ويضع شرطين كبيرين للوصول مع الفلسطينيين إلى ما يسمى بالسلام.

* الشرط الأول أن يتخلوا طواعية عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وممتلكاتهم التي هجروا منها منذ العام 1948. كما يشترط إلى جانب إسقاط حق العودة أن يقرّ الفلسطينيون ويعترفوا بأنه بعد الوصول إلى اتفاق عن قضايا الحل الدائم، فإنه لن يتقدموا بأية مطالب إضافية، وبأن هذا الاتفاق ملزم بكل الأجيال الفلسطينية القادمة. وحجة نتنياهو في ذلك أن على الفلسطينيين أن يجدوا حلاً لقضيتهم في الدول العربية المضيفة، لأن عودة الملايين منهم إلى إسرائيل سوف يقضي على هويتها كدولة للشعب اليهودي.

* الشرط الثاني أن يعترف الفلسطينيون بيهودية إسرائيل وهو شرط مرتبط بسابقه. فالاعتراف الفلسطيني بيهودية الدولة، لا يشكل ضمانة لإسقاط حق العودة فحسب، بل فيه اعتراف فلسطيني بأن هذه الأرض، التي يدّعي الفلسطينيون ملكيتها، هي أرض بني إسرائيل، وبأن حق اليهودي فيها هو حق تاريخي لا جدال فيه وبأن قيام إسرائيل على أجزاء من فلسطين هو تجسيد لهذا الحق التاريخي الذي تأخر حوالي ثلاثة آلاف سنة.

اللافت في مواقف نتنياهو هذه أنه يدرك في قرارة نفسه أن الفلسطينيين يرفضون هذين الشرطين، فحق العودة بات بمستوى الحق المقدس الذي لا يستطيع أي طرف فلسطيني العبث به والتخلي عنه. أما الاعتراف بيهودية إسرائيل فهو أكثر تعقيداً من سابقه، ولن تجد فلسطينياً يعترف لإسرائيل بحقها (المزعوم) في فلسطين على حساب حقوق الشعب الفلسطيني. فضلاً عن أن هذه القضية تتجاوز الحدود الفلسطينية لتصبح قضية عربية وإسلامية.. وبالتالي ما هو مصير على سبيل المثال هذا التراث الغني والمقدس من المساجد والمقامات والمقدسات الإسلامية في طول فلسطين وعرضها، وفي المقدمة المسجد الأقصى، وقبة الصخرة وكنيسة القيامة، وما حول كل هذا.

واللافت في السياق نفسه، أن نتنياهو يصرّ على شروطه، رغم إدراكه المسبق أنها مرفوضة، وهو بذلك يراهن على إدامة المفاوضات أطول فترة زمنية ممكنة، توفر له الوقت الكافي لإنجاز مشروعه الاستيطاني في الضفة، وقد وصل عدد المستوطنين فيها إلى حوالي 700 ألف مستوطن، يحتاج نتنياهو إلى قليل من الوقت ليصلوا إلى المليون. وهو رقم، عندها، سيتحول إلى حالة سياسية ديمغرافية وكتلة سكانية لا يمكن تجاوز دورها وقرارها حسب تقديرات نتنياهو في رسم مستقبل الضفة الفلسطينية ومدينة القدس الشرقية المحتلة.

هل معنى ذلك أن نتنياهو يطمح لإقامة الدولة الواحدة، التي تضمّ «عرباً ويهوداً» معاً؟

ومنهم من يعتقد أن نتنياهو يفكر في هذا الحل. بل هو يبحث عن حل بديل يتجاوز فيه «حل الدولتين» ويتجاوز فيه قيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل لصالح حل إقليمي عربي إسرائيلي، يكون الفلسطينيون أحد الأطراف فيه. وهو حل كان قد اقترحه على القيادة الإسرائيلية مؤتمر هرتسيليا السنوي الذي انعقد العام الماضي في منتصف آذار (مارس) دعا إلى حلّ متعدد الطرف يكون الأردنيون والمصريون (بشكل رئيس) أطرافاً فيه، بحيث يبتّ بوضع الضفة مع الأردن (بما في ذلك مصير القدس ومقدساتها باعتبار أن عمان هي المعنية، حسب التفويض الفلسطيني، بالإشراف على المقدسات الفلسطينية فيها) ويبتّ وضع قطاع غزة مع القاهرة.

وكما أوضح بعض الباحثين الإسرائيليين، فإن المكان الأنسب لقيام الدولة الفلسطينية هو قطاع غزة، الذي يجد عمقه في دولة عربية كبيرة هي مصر، تمدّه بعناصر الحياة، نظراً لقوتها وقوة اقتصادها. أما الضفة فتدار بشكل من أشكال الحكم الذاتي، بصيغة مركبة، إدارياً وسياسياً مع القطاع، باعتباره قلب الدولة الفلسطينية، واقتصادياً مع عمان، باعتبارها البوابة الوحيدة نحو العرب. وتنكفئ إسرائيل خلف حدودها، متحللة من أي عبء سياسي أو قانوني عن الوجود الفلسطيني إلى جوارها، مع الحرص على عقد اتفاقية أمنية مع الأردن، في امتداد معاهدة وداي عربة، تضمن لإسرائيل ما تسميه حدودها الشرقية.

فهل ينجح نتنياهو في مسعاه، وهل يوفر لهذا المسعى التأييد الإسرائيلي والأميركي الضروريين. وكيف سيكون الردّ الفلسطيني عن هذا المشروع؟


لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف