يكشف غولن عن الأسباب والخلفيات الحقيقية للتمسك بيهودية إسرائيل والدعوة لتبادل «المناطق والسكان».
تخاف إسرائيل الوصول مع الفلسطينيين إلى «الحل الدائم» لذلك تراها تماطل في طرح الشروط والمتطلبات التي تدرك سلفاً أنها مرفوضة من الفلسطينيين، بما يطيل أمد المفاوضات دون سقف زمني محدد، فتتحول إلى «مفاوضات من أجل المفاوضات» بينما يستمر الاستيطان والتهويد، ويتواصل في القدس الشرقية وفي أنحاء الضفة الفلسطينية المحتلة، بما يعيد رسم الوقائع، ويفتح الباب لسيناريوهات حلول جديدة، تعتقد إسرائيل أن إعادة طرحها، والمماطلة في مناقشتها، والتسويف في اتخاذ مواقف نهائية منها، كلها أمور من شأنها أن تكسب تل ابيب المزيد من الوقت، وأن تبعد، أكثر فأكثر، احتمالات الوصول إلى حل دائم، وبحيث يكون الاحتمال الأكثر إلحاحاً عندئذ، هو الوصول إلى حلول مؤقتة.
و«الحل الدائم» الذي يرعب إسرائيل هو قيام الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس الشرقية، وبما هي تحقيق حي وملموس للتطلعات القومية والوطنية للشعب الفلسطيني، وبما هي انقلاب استراتيجي في رسم الخارطة الإقليمية، وبما يعكسه ذلك من إعادة صياغة للعلاقات الإقليمية، بما في ذلك إعادة صياغة للعلاقات داخل إسرائيل نفسها.
في هذا السياق يطرح خبراء الوضع الاسرائيلي قضيتين سوف يكون لها الأثر الكبير في إعادة بناء العلاقات المجتمعية داخل إسرائيل.
القضية الأولى هي زوال «الخطر الخارجي» الذي يتهدد وجود إسرائيل، خاصة إذا ما التزم العرب بمبادرتهم للسلام وذهبوا إلى الاعتراف الجماعي بها، ووضعوا نهاية لحالة اللاحرب واللاسلم القائمة الآن، لصالح حالة سلام وتطبيع في العلاقات، وتبادلات تجارية وسياحية وغيرها. عندها سوف تنهار النظرية الإسرائيلية الداعية إلى «الالتحام الداخلي»، وتأجيل البت بالصراعات المذهبية والأثنية، وحتى الطبقية الإسرائيلية، في ظل «الخطر الخارجي» الذي يتهدد وجودها ويتمثل بحالة العداء العربي (والإسلامي) لها.
أما القضية الثانية التي تشغل بها بال المفكرين الإسرائيليين، فهي ما سوف يطرأ من تطور على أوضاع الفلسطينيين العرب داخل مناطق 48. وما هو تأثير ولادة دولة فلسطينية على مشاعرهم القومية، وعلى حالتهم المعنوية، وعلى تطلعاتهم المستقبلية، انطلاقاً من الرأي القائل بأن ولادة دولة فلسطينية تشكل هزيمة تاريخية للمشروع الصهيوني.
المحلل السياسي الإسرائيلي اساف (عساف) غولن كتب في معاريف (في 18/3/2014) يقول بوضوح إن قيام دولة فلسطينية، «سيشكل نقطة انطلاق لتطلعات مشابهة لدى عرب إسرائيل في المثلث والجليل والنقب»، ويتوقع في هذا السياق أن يقوى تطلع هؤلاء نحو قيام «حكم ذاتي خاص بهم»، يمارسون من خلاله حقهم في تقرير المصير. ويستند غولن إلى استحالة الوصول، تحت سقف دولة إسرائيل، إلى حل ديمقراطي للوجود الفلسطيني داخل «الدولة»، بل يتوقع، بالمقابل، أن تتأجج داخل إسرائيل عناصر التعصب القومي والديني والمذهبي، وأن تشهد إسرائيل صراعات بين مختلف فئاتها السكانية. أي بتعبير آخر، يرى غولن أن قيام دولة فلسطينية، في سياق نجاح المشروع الوطني الفلسطيني، سوف يعني انطلاقة جديدة للحالة القومية للفلسطينيين داخل إسرائيل، خاصة في ظل سياسة التمييز العنصري التي تتبع ضدهم، وإحساسهم، بالظلم التاريخي الذي لحق بهم.
إذن ما هو الحل الذي يقدمه غولن؟. إنه يدعو بفجاجة، ودون مواربة، إلى تبادل واسع «للمناطق» مع الجانب الفلسطيني، تبادل مناطق مع السكان، بحيث تضم إسرائيل الوجود الاستيطاني داخل الضفة إليها، [بما في ذلك القدس الشرقية وغلافها طبعاً] مقابل أن تضم الدولة الفلسطينية إليها، المناطق «الإسرائيلية» المكتظة بالسكان الفلسطينيين العرب. وهو يدعو إلى عدم الخجل، في استعمال تعبير «الترانسفير» [التهجير الجماعي] بل يرى ضرورة إعادة الاعتبار إلى هذه العبارة، ويدعو إلى طرح هذا الأمر بشكل واضح وصريح مع الجانب الفلسطيني إلى طاولة المفاوضات، «فعدم حديثنا عن الهوية الفلسطينية لدى عرب إسرائيل – يقولن غولن – لا يعني أنها لم تعد موجودة في الحقيقية».
ليست هي المرة الأولى التي يدعو فيها الإسرائيليون إلى «تبادل المناطق مع السكان» مع الجانب الفلسطيني. فلقد سبق لوزير خارجية إسرائيل أفيغدور ليبرمان أن دعا إلى مثل هذا الأمر حين اقترح ضم المثلث كله (سكانه بدون أرضه) إلى الدولة الفلسطينية. لكن ما تكتم ليبرمان عن شرح أسباب دعوته، أفصح عنه غولن بوضوح وصراحة: أن إسرائيل، الدولة القائمة على التمييز العنصري، مازالت ترى في وجود الفلسطينيين العرب تحت سقفها قنبلة موقوتة مهددة بالانفجار بين يوم وآخر، ولعل قيام دولة فلسطينية، وتحقيق الفلسطينيين خطوة كبيرة كهذه على طريق مشروعهم الوطني، هو التوقيت المناسب لانفجار مثل هذه القنبلة. لذلك، وبدلاً من إعادة النظر بالقوانين العنصرية الإسرائيلية وبدلاً من التقدم نحو تفكيك البنى القانونية للمشروع الصهيوني العنصري التمييزي، تدعو إسرائيل إلى الاعتراف «بمشروعية عنصريتها» القائمة على أساس أنها «دولة يهودية»، بما يسمح لها عندئذ، لتطرح علناً، «نقل» [تهجير] كل من لا ينتمي إلى «يهودية» هذه الدولة.
غولن، في مقاله المذكور أعلاه، يكشف ورقة إسرائيلية جديدة، قد تبدو عنصر قوة في جانب منها، كالدعوة إلى «تهجير» الفلسطينيين العرب ونقلهم إلى تخوم الدولة الفلسطينية. لكن، حقيقة ما يكتبه غولن، ما هو إلا تسليط الضوء على الخاصرة الرخوة لدولة إسرائيل. فبعد مرور ستة وستين عاماً على ولادتها، وامتلاكها القنبلة النووية، وترسانة أسلحة تضعها في مصاف الدول «القوية» عالمياً، إلا أنها مازالت تشكو من وجود العنصر الفلسطيني في داخلها، المؤهل ليفجرها من الداخل، ويدفع بها نحو مسار تاريخي، معاكس للمسار التاريخي للمشروع الصهيوني.
من هنا، على سبيل المثال، تمسك الجانب الفلسطيني برفضه الاعتراف بيهودية إسرائيل، ورفضه التنازل عن حق العودة، ورفضه فكرة ضرورة «تبادل محدود للأرض» وتحويلها إلى تبادل للمناطق والسكان.
الفلسطينيون في إسرائيل هم أيضاً جزء من المعركة التفاوضية. هكذا يقول لنا اساف غولن في «معاريف».

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف