أسدل في السابع من حزيران 2014 الستار على ختام فصل هام من فصول الثورة المصرية، بعد تنصيب الرئيس الجديد عبد الفتاح السيسي أمام المحكمة الدستورية. ثلاث سنوات ونصف السنة تقريباً فصلت هذا المشهد عن تظاهرات 25 كانون الثاني 2011 في ميدان التحرير بوسط القاهرة، تلك التي ألهمت الملايين داخل مصر وخارجها بشعارات «عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية». تقلبت الأمور خلال هذه الفترة في بر مصر، فأطيح رؤساء وجاء آخرون على هدير ملايين المتظاهرين في الميادين في مشاهد أقرب إلى الدراما الإغريقية. وللمرة الأولى في تاريخ مصر يتجاور أربعة رؤساء في وقت واحد: رئيس مخلوع (حسني مبارك) ورئيس معزول (محمد مرسي) ورئيس سابق (عدلي منصور) ورئيس حالي (عبد الفتاح السيسي)، في مفارقة تصرخ بالدلالات والمعاني. ربما يكون تحليل الماضي ملهماً لا لاستخلاص الدروس فقط، بل لاستلهام المستقبل في ما هو قادم من الأيام، لذلك تغامر هذه السطور باجتراح رواية مغايرة للرائج الأيديولوجي عما دار في بر مصر خلال فترة السنوات الثلاث ونصف الماضية.

«25 يناير» 2011

شكل حسني مبارك - ابن المؤسسة العسكرية - صمام الأمان لدور المؤسسة طيلة الفترة الممتدة منذ توليه الحكم العام 1981 وحتى العام 2005، إذ أفسح أدواراً متعاظمة للمؤسسة العسكرية في الحياة الاقتصادية تعويضاً عن حصتها المباشرة في النظام السياسي التي كانت لها في العقود الماضية. ولكن الأمر تحول جذرياً ليشكل خطراً محدقاً على المؤسسة ذاتها في نهايات حكمه، مع محاولات توريث السلطة لابنه جمال. وجاءت انتخابات برلمان العام 2010 لتدق المسمار الأخير في النعش السياسي لمبارك، فالانتخابات زورت مثل سابقاتها، ولكنها أتت بموالين ليس للحزب الكرتوني الحاكم فقط، بل ولمشروع توريث السلطة لجمال مبارك أيضاً. وكانت تلك الانتخابات «البروفة» النهائية قبل التوريث الرسمي للسلطة، الذي لم يكن متصوراً أن يتم إلا بوجود مبارك على رأس السلطة. وزادت مؤشرات توريث السلطة وضوحاً مع إعادة ترتيب النخبة الاقتصادية المتحلقة من حول جمال مبارك، للمشهد الاقتصادي بما يتوافق ومصالحها ويضرب مصالح المؤسسة العسكرية. لم يكن ممكناً للأخيرة التصدي لـ«سيناريو» كهذا من دون ظهير شعبي، وإلا لكان الأمر انقلاباً عسكرياً فجاً. كانت نقطة الضعف الأساسية متمثلة في الحراك الخامد في مصر، بسبب غياب توازن القوى بين المجتمع والدولة، بالرغم من كل مظاهر الترهل لدى الأخيرة. حققت «دولة يوليو الناصرية» إنجازات لا يمكن انكارها على صعيد العدالة الاجتماعية، ولكن خطيئتها الكبرى تمثلت في إعطاب الحيوية السياسية المجتمعية، فحلت الدولة من يومها لاعباً فاعلاً أوحد في الحياة السياسية. وفي عهد مبارك تم التضييق على التيارات الليبرالية واليسارية واستتباع الأحزاب المدنية العلنية للسلطة، في حين ظل تنظيم «الإخوان المسلمين» القابع تحت الأرض بكامل جاهزيته التنظيمية. كانت القيادة السياسية لجماعة «الإخوان المسلمين» قابلة بالفتات في عصر مبارك، وبحصة تناهز خمس مقاعد البرلمان من دون أي قدرة على رسم الخطوط العريضة للدولة. مع اندلاع تظاهرات «25 يناير» 2011 كان الوجه القبيح لنظام مبارك يتعرى، ثم مع تحول التظاهرات إلى مليونية يوم «28 يناير» 2011 انضمت جماعة «الإخوان المسلمين» إليها على استحياء. وانعقد المجلس العسكري الأعلى الممثل للقوات المسلحة، وأعلن نفسه في حالة انعقاد دائم في خطوة لها دلالاتها. ساعتها استنفر مبارك وحاشيته وسائل لتطويق التظاهرات، من إجراء حوار مع عمر سليمان الذي عينه مبارك نائباً له، فانخرطت في الحوار جماعة «الإخوان المسلمين» ورموز وشخصيات لا تمثل حالة تنظيمية حقيقية، ولكنها أعطت النظام بعض المصداقية. وبعد إلقاء مبارك كلمة مؤثرة للمصريين عن رغبته في أن يُدفن في مصر وأنه غير راغب في البقاء بالسلطة بعد انتهاء ولايته، فقد بدا أن قطاعات من المصريين تأثرت بهذا الخطاب. في اليوم التالي دخل البلطجية بالجمال والخيول لفض اعتصام ميدان التحرير (كانت وحدة من القوات المسلحة تطوق الميدان ساعتها)، فاشتعلت التظاهرات أكثر، لتطيح التأثير الإعلامي لخطاب مبارك ورغبته في التقاعد. ثم وصلت الأمور إلى ظهور عمر سليمان نائب مبارك ممتقع الوجه أمام الكاميرات في كلمات متلعثمة، ليعلن تنحي مبارك عن السلطة وتسليمها للقوات المسلحة، تلك التي أدت التحية للشهداء وتلاحمت مع المتظاهرين تحت شعار «الجيش والشعب يد واحدة». ساعتها احتفل المصريون بسقوط مبارك وذهبوا إلى بيوتهم، تاركين السلطة في عهدة الجيش ليبدأ فصل آخر من فصول الرواية.

«الإخوان المسلمون» يبرمون الصفقات

كان المجلس العسكري الأعلى في موقف صعب يوم 11 شباط 2011، فالمماطلة في تسليم السلطة كانت ستعني عودة التظاهرات والتعرض لضغوط دولية تحت شعار «حماية الديموقراطية» في مصر، والتهديد بفقدان الوضع الخاص في الدولة والمجتمع. وبرز على الساحة وقتها قوتان رئيستان: المؤسسة العسكرية وجماعة «الإخوان المسلمين»، أما القوى الثورية فكانت تعبيراً عن حالة شبابية وثورية من دون تنظيم وأسس شعبية واضحة، فأبرمت ساعتها الصفقات بين الطرفين الأقوى. حينذاك أعد المجلس العسكري قانوناً للانتخابات البرلمانية يوسع الدوائر الانتخابية بشكل جعلها تشمل ملايين الأصوات في إفساح للمجال أمام الجماعة لتحصد مقاعد أكبر من حجمها الحقيقي بكثير. ومع انتخابات رئاسة الجمهورية فقد بدا للبعض أن انحيازاً خفياً، وربما غير مفهوم، لمرشح «الجماعة» محمد مرسي قد شاب العملية الانتخابية، في مقابل مرشح فلول النظام أحمد شفيق أو القيادي المنشق عن «الجماعة» عبد المنعم أبو الفتوح. كان فوز شفيق سيعني عودة التظاهرات لإسقاط النظام بكامله هذه المرة، أما أبو الفتوح فقد كان ميالاً لفكرة التحالف مع تيارات مدنية أخرى، بما يهدد السيناريو المعد سلفاً. وعند أعلان فوز محمد مرسي بالانتخابات الرئاسية، انتهى فصل جديد من فصول الثورة المصرية.

«الإخوان» يستأثرون ويخسرون

اعتقدت «الجماعة» بسذاجة، أنها أحكمت قبضتها على السلطة، على الرغم من أن الدكتور محمد مرسي لم يكن متحكماً في أعمدة السلطة: الجيش والشرطة وأجهزة الأمن والإعلام، تلك التي تشكل أركان السلطة في بلدان العالم الثالث. ومع تنكر الجماعة للقوى الثورية صاحبة المشروعية في الثورة، والحديث عن «غزوة الصناديق» و«الحكم الإسلامي» و«التمكين للجماعة» كانت الهوة تتسع كثيراً مع ملايين المصريين. وساهم سعي «الجماعة» نحو احتكار السلطة في ظهور تحالف موضوعي مؤقت بين الناقمين يضم القوى الثورية ومؤسسات الدولة وأجهزتها، وهو التحالف الذي لم يكن متصوراً من دون وجود «الإخوان المسلمين» إسمياً في السلطة. وشكل «حزب النور السلفي» ـ وبعضه يشتبه بالارتباط بأجهزة الأمن - كحليف للجماعة، ضامناً لعدم التفاف القوى السياسية حولها في حكومة وحدة وطنية. ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية وعدم الرغبة في تغيير آليات السيطرة الاقتصادية والاجتماعية القائمة والتوجه نحو إقصاء التيارات السياسية الأخرى، كانت النتيجة محتومة، بالرغم من ضعف وتشرذم «جبهة الإنقاذ» المعارضة. اندلعت الموجة الثانية من الثورة في 30 حزيران 2013 بعشرات الملايين في الشوارع للإطاحة بمحمد مرسي وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، من دون قدرة فعلية على فرضها. وبعد ثلاثة أيام عصيبة لاح خلالها شبح الحرب الأهلية، أعلن وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي الإطاحة بمرسي في مشهد جمع ممثلي الأحزاب الليبرالية واليسارية وحركات الشباب وشيخ الأزهر وبابا الكنيسة الأرثوذكسية، وبالطبع ممثل «حزب النور السلفي». مرت سنوات ثلاث مثل كابوس على المصريين المعتقدين بعمق في محورية دور الدولة والمشتاقين إلى الأمن والاستقرار، والخائفين على بلدهم من مصائر دول عربية مجاورة. ساعتها تبلورت الحالة الشعبية الراهنة التي باركت تسليم السلطة للجيش وممثله عبد الفتاح السيسي، ورجته واستعطفته أن يقبلها كملاذ أخير لإنقاذ الوطن من «الضياع».

الفصول المقبلة من الرواية

اكتسح «مرشح الدولة» الانتخابات الرئاسية في مواجهة «مرشح الثورة» لأسباب متنوعة، فعادت الأمور بعد فصلين دراميين إلى مربعها الأول: نظام مبارك من دون مبارك ومن دون توريث وبمباركة شعبية عارمة، ولكن وهو الأهم بذات آليات السيطرة الاقتصادية والاجتماعية حتى الآن. وبالرغم من المهارة والذكاء الواضح للمؤسسة العسكرية المصرية في توجيه الحراك السياسي نحو سيناريو محدد سلفاً؛ وصولاً إلى الإطاحة بمبارك و«الإخوان المسلمين» معاً على وقع التظاهرات الشعبية، فإن مسببات الثورة ما زالت قائمة بالرغم من كل ذلك. سيرفع الستار ابتداءً من اليوم عن سياسات الحكم الجديد، ليختبر المصريون استجابته لمطالبهم المؤسسة: العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، ليقرروا ـ هم وليس غيرهم هذه المرة - في الفصول المقبلة نهاية الرواية!


لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف