تواصل حكومة نتنياهو تنفيذ الرؤية التوسعية الإسرائيلية والتي تبلورت في سياق الإعداد لاتفاق أوسلو وما تبعه من اتفاقات وبروتوكولات «تكميلية».
وبينما كان الهدف المعلن من إطلاق عملية التسوية قبل نحو عشرين عاما يتركز في إقامة دولة فلسطينية «قابلة للحياة»، جهدت تل أبيب لأن تؤدي آليات تطبيق الاتفاق إلى تشكيل «دولة المستوطنين» في القدس وأنحاء عدة من الضفة الفلسطينية.
ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم أصبح الوجود الاستيطاني واستمراره، أحد الركائز الأساسية في النقاش الإسرائيلي حول سبل التسوية وتحديد مستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وفي سبيل تحقيق ذلك، لم تتردد تل أبيب في خوض اشتباكات سياسية حتى مع حلفائها، وتجلى ذلك في التجاذبات الحادة التي وقعت بين حكومة نتنياهو وإدارة أوباما عقب خطاب الرئيس الأميركي في القاهرة ومطالبته بتجميد الاستيطان.
ويأتي الإعلان الإسرائيلي مؤخرا عن إطلاق عطاءات لبناء 3300 وحدة استيطانية جديدة في سياق استمرار في العمل لبناء «دولة المستوطنين» في الضفة، على الرغم من أن بعض وسائل الإعلام حاولت تصوير إطلاق هذه العطاءات كرد على تشكيل حكومة التوافق بين حركتي حماس وفتح؛ فتل أبيب لا تحتاج سببا «طارئا» لمواصلة سياستها التوسعية، وإن كانت تحاول الاستفادة من كل حدث فلسطيني لا ترضى عنه وإدخاله قاموس مبرراتها.
وعلى العكس مما يعتقد البعض، فإن مرور المفاوضات في مراحل ارتفع فيها منسوب التوقعات والرهانات على قرب الوصول إلى حل، كان حافزا لأن تسرع تل أبيب من وتيرة الاستيطان كي تقطع الطريق على أية حلول تقترب من التطبيق قبل أن تستكمل مشروعها التوسعي في القدس وأنحاء الضفة؛ ويصبح أمرا واقعا يفرض نفسه على الأطراف المعنية بالتسوية.
ومنذ العام 2001 ووصول شارون إلى مقعد رئاسة الوزراء في إسرائيل وحتى فوز نتنياهو بولاية ثالثة، تكرر الحديث الإسرائيلي عن مليون مستوطن في الضفة كخطة تم تنفيذ أكثر من نصفها حتى الآن؛ وهذا يعني أننا سنكون أمام عشرات آلاف الأبنية الاستيطانية إذا ما تركت تل أبيب طليقة اليد في تنفيذ خطتها التوسعية؛ وطالما هي تضع معظم أراضي الضفة الفلسطينية تحت تصرفها المباشر.
في النتيجة، يقوم السيناريو الإسرائيلي لمستقبل الضفة الفلسطينية على بناء شبكة استيطانية قوية ومتواصلة ، تتوفر لها كل مقومات الحياة والاستمرار، وعلى أطرافها تتوزع التجمعات السكانية الفلسطينية في المدن والقرى دون تواصل حر على الأرض بحسب مقتضيات الاعتبارات الأمنية الإسرائيلية وسيطرتها الدائمة على الحدود والمعابر والمناطق التي ترى تل أبيب أنها حيوية و«حساسة» لأمنها.
وفي الوقت الذي كانت فيه الحكومات الإسرائيلية قبل أوسلو، تمرر مشاريعها الاستيطانية في القدس تحديدا دونما إعلان، باتت العطاءات الاستيطانية خلال السنوات الأخيرة في مقدمة التصريحات الإعلامية على لسان أقطاب الحكومة الإسرائيلية، ودخل تسريع الاستيطان وتوسعته في ميدان التسابق الانتخابي بين معظم مكونات المشهد السياسي والحزبي الصهيوني في إسرائيل.
السؤال الملح أمام الحالة الفلسطينية هو، إذا كانت إسرائيل بدأت بالاستيطان في الضفة بما فيها القدس منذ احتلالها في العام 1967، وسرعت وتيرته منذ بدء الحديث عن التسوية، فهل ستترك طليقة اليد حتى استكمال خطتها التوسعية في الضفة؟
تدل التجربة أن الحالة الفلسطينية لم تخض معارك جدية ومفتوحة مع الاستيطان. وركن المفاوض الفلسطيني هذه المعركة على رف انتظار ما ستأتي به عملية التسوية التي كان من المفترض أن يكون الوقف الفوري والشامل للاستيطان أحد ركائز الموقف الفلسطيني من انطلاق عملية التسوية برمتها.
حصل ذلك في وقت كانت فيه الولايات المتحدة ومعظم أركان المجتمع الدولي مهتمة فعليا بإنجاز تسوية على جبهة الصراع الفلسطيني/العربي ـ الإسرائيلي قبيل انعقاد مؤتمر مدريد خريف العام 1992. وكانت الأطراف الإقليمية والدولية تضع مسألة حل الصراع القائم في المنطقة على رأس اهتمامات سياساتها الخارجية، وفي مرحلة كانت فيها تأثيرات الانتفاضة الفلسطينية الأولى ما تزال ماثلة أمام الجميع.
وعلى الرغم من ندرتها، ثمة إنجازات فلسطينية وقعت خلال السنوات الأخيرة، وأبرزها الانتصار في الجمعية العامة للأمم المتحدة التي اعترفت بفلسطين دولة تحت الاحتلال بما يمكنها من الدخول إلى المؤسسات والاتفاقات الدولية تطرف أصيل. وقلنا منذ ذلك الوقت إنه ينبغي عدم التلكؤ في هذه العملية، والبدء فورا بالانتساب إلى هذه المؤسسات وخاصة تلك المعنية بالمحاسبة على جرائم الاحتلال ومنها محكمة الجنايات الدولية واتفاقيات جنيف الأربع وملحقاتها.
ولأننا لا نستطيع مقارعة الاحتلال وهزيمته بقدراتنا الخاصة بحكم موازين القوى المحتلة لصالحه بشكل كبير، فإن مقارعته في المؤسسات الدولية وميدان الجمعية العامة للأمم المتحدة ممكنة ، وتضيف إلى قدراتنا قدرات وإمكانات الدول التي تقف إلى جانب حقوقنا الوطنية وهي كثيرة.
وسيجد المجتمع الدولي نفسه مضطرا للدخول على خط الصراع مع الاحتلال بشأن الاستيطان وغيره، لأن المعركة المفترضة معه تستند إلى قرارات الأمم المتحدة التي اتخذها المجتمع الدولي نفسه. وتساعد على البدء في هذه المواجهة ومواصلتها المواقف الدولية التي تعترض على الاستمرار في نشر الاستيطان الإسرائيلي في الضفة، وهي مواقف وازنة في الاتحاد الأوروبي وغيره.
وسبق أن بادرت مؤسسات اقتصادية واجتماعية أوروبية إلى مقاطعة منتجات المستوطنات، وأحدث ذلك قلقا جديا لدى الحكومة الإسرائيلية التي شعرت بأنها قد تكون أمام حملة مقاطعة واسعة ومتزايدة بكل ما يعني ذلك من خسائر اقتصادية.. وسياسية.
لقد أكد المجلس المركزي الفلسطيني في نيسان/أبريل الماضي على ضرورة استكمال المسعى الفلسطيني نحو الأمم المتحدة، واعتبر الانتساب إلى مؤسساتها حقا فلسطينيا لا يجب المساومة عليه. وقلنا منذ صدور قرارات المجلس أن العبرة في التزام هذه القرارات وتنفيذها. وعدم التعامل معها كورقة سياسية لاستدراج عروض تفاوضية «أفضل» دون تغيير أسس التسوية برمتها.
وقد سبق أن أهمل إنجاز فلسطيني سابق في العام 2004، عندما اتخذت محكمة لاهاي قرارا استشاريا رأى في جدار الفصل العنصري خطرا يهدد حياة الفلسطينيين وطالب بإزالته فورا؛ والمشكلة أنه لم يتم تثمير هذا القرار على الرغم من بلورة خطة وطنية لتحقيق ذلك. والنتيجة أن «الجدار» لا يزال يخنق حياة الفلسطينيين ويقطع أوصال تجمعاتهم.. فهل تتكرر التجربة المريرة هذه المرة أيضا.. أم أن الحالة الفلسطينية ستجد في تجربة «الجدار» وفي خطر الاستيطان على مستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة حافزا كي تبدأ معركتها مع الاستيطان سياسيا وشعبيا؟

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف