بعد الاستباحة الشاملة للضفة الفلسطينية، وصبِّ نتنياهو وأطراف مجلسه الوزاري المصغر جامّ حقدهم على الضفة الفلسطينية، ووعيد بـ "عمود الدخان الثاني" على قطاع غزة، وفي وضع فلسطيني يتميّز على المستوى الشعبي ويتهيأ نحو الانتفاضة الثالثة الشاملة، وواقع إقليمي ممتلئ بالنيران والتناقضات، فعلى المستوى الشعبي الفلسطيني وبعد عقدين ونيف من السنوات العجاف والتطهير العرقي والحصار والاستيطان، انجرفت به الضفة الفلسطينية إِلى شفا الدمار من جميع النواحي، بما فيه "خيار الدولتين"، وقد ساعدت هذه السياسات أن تكون الحكومة المتطرفة حكومة الاستيطان الذي يحكم عموم "إسرائيل" التوسعية.
بعد استغلال نتنياهو إعلامياً، مقتل المستوطنين الثلاثة، ومحاولة استغلال الحادثة بالعدوان العسكري على غزة –السور الواقي 2- والثأر اليومي من الضفة، مع بروز موجات احتجاج في المجتمع اليهودي، بسؤال: ماذا يفعل هؤلاء (المستوطنين) في أرضٍ ليست لهم؟ مع توصيفهم بأنهم من "زعران التلال"..!!
بروز هذه الانتقادات في الحالة المحدودة الإسرائيلية، والمقروءة بأصدائها في الخارج، دفع بزعيم المعارضة العمالية للتصريح: "يجب ألا تسمح إسرائيل للمتطرفين، لا من طرفنا ولا من الطرف الفلسطيني، بإملاء جدول الأعمال، فالمتطرفين من الجانبين يحاولون جرنا جميعاً إلى دائرة دموية، لكن معظم المجتمع اليهودي والفلسطيني يتحفظ على ذلك، ويريد العيش بسلام"... علماً أن الحملة العسكرية على الضفة الفلسطينية والتهديد بـ "عمود الدخان" على قطاع غزة، قد خيضت بشعارات عنصرية صريحة تدعو إلى الثأر، شارك بها أطراف متعددة بالحكومة الإسرائيلية والعديد من كبار قادة الجيش الإسرائيلي مساهمةً وتصريحات، أسفرت عن مقتل وإصابة عدد من الأطفال الفلسطينيين والتنكيل بهم، وصورهم موثقة، والتنكيل بمجتمع مدني يعيش على أرضه تحت الاحتلال.
في الاجتماع الوزاري المصغر ليلة الثاني من الشهر الحالي (تموز)، أضطر نتنياهو وتحت ضغط القدس الشرقية إلى تغيير توجهاته، حيث وضعت شرارات الغضب التي اندلعت من شعفاط، بعد اختطاف الطفل محمد أبو خضير من شعفاط بالقدس وانتقالها إلى عموم القدس الشرقية وإلى حيفا والناصرة وأم الفحم خلف الخط الأخضر في مناطق الـ 48 والعثور عليه شهيداً ومحروقاً في غابة تابعة للقدس، ومن ثم محاولات إسرائيلية مفضوحة لتزوير وقائع الجريمة، لكن الجريمة الشنعاء سحبت سجادة حملة الافتراءات من تحت أقدام نتنياهو وعدم السماح له بتشويه الأحداث، والكذب الإعلامي، بشأن اختطاف المستوطنين الثلاثة، فالسلطة الفلسطينية التي أدانت الحادث على لسان رئيس السلطة أبو مازن، هي لا تملك السلطة على الأرض في عموم التقسيمات الثلاثة المصنفة بـِ (أ،ب،ج)، ولا تنسجم مع حالة الدفع والتطرف والإسناد لقطعان المستوطنين، والعدوان الدائم على الفلسطينيين، الذي يمتد إلى الفلسطينيين خلف الخط الأخضر، ونشوء تنظيمات إرهابية يهودية مثل "شارة الثمن"، فضلاً عن العدوان الدائم على القدس الشرقية ذاتها، فقد وضع نتنياهو بيديه جمراً جديداً فوق الرماد الساخن بفعل الجمر الفلسطيني تحت سطحه، وقد ارتدت أهدافه إلى نحره بفعل افتراءاته وأكاذيبه المختلفة، التي أطلقت هذه القطعان من المستوطنين لتعبث فساداً يومياً في حياة الناس وأرزاقهم تحت احتلال استيطاني غاشم..
وبالعودة إلى التاريخ القريب، إن واشنطن هي مَنْ مكنت السلوكيات الإسرائيلية المتطرفة والشريرة للوصول إلى ما وصلت له، منذ إدارة بوش الابن التي دعمت كامل خطط شارون، وحرب السور الواقي، واحتقار تقرير ميتشيل، وكافة تقارير حقوق الإنسان ومراقبيها في فلسطين، وتجاوز تقارير مبعوثو السلام واللجنة الرباعية بالهيمنة عليها، ثم بين أوباما 2009 في القاهرة، واوباما تحت ضغط المحافظون الجدد فيما يتعلق بالمسألة الفلسطينية في ولاية أوباما الثانية وفقدانها لبرنامج واضح تقوم بإملائه على حليفتها إسرائيل.
إن حجم العنف الذي وقع على المجتمع الفلسطيني في الضفة الفلسطينية، أرغم السلطة الفلسطينية على مطالبة نتنياهو بإدانة اختطاف وقتل وحرق الطفل الفلسطيني، وطالب أبو مازن الحكومة الإسرائيلية بإدانة الاعتداء البشع، ووقف الاعتداءات وقتل للفلسطينيين، بعد أن بلغ عدد الشهداء الفلسطينيين 15 شهيداً، فضلاً عن الجرحى وهدم البيوت والإضرار بالمنازل، لكن جهات التحقيق الإسرائيلية ما زالت تقول إن خلفية قتل الطفل الفلسطيني غير معلومة، وأنها تجري تحقيقاً بذلك، علماً أن اختطافه جرى أمام الناس، وجرى الإبلاغ الفوري عن ذلك، لكن أجهزة الأمن الإسرائيلية اعتادت على التعويم لأي جريمة يقوم بها المستوطنون، وقد اشترطت تسليم جثمانه لوالده بالتوقيع على عدم رفع دعوات قضائية.. فرفض استلامها.. وحتى رضخت "اسرائيل"..
الاجتماع الوزاري المصغر (2/7) انقلبت مواقف نتنياهو التصعيدية والتحريضية مضطراً، بعد الهبّة في القدس الشرقية التي انطلقت وأَشعرت الحكومة المتطرفة بكامل عصابتها أن الأمور ستفلت من يدها، وان حالة التحريض والتصعيد اليومية من أطرافها المختلفة ستقلب الأمور رأساً على عقب، وان المشهد لن يحتمله العالم ببشاعته المتصاعدة ضد شعب أعزل وعلى أرضه تحت الاحتلال، بما توصف به دولة إسرائيل من بطش وقوة ومنهجية عنصرية بكامل ترتيبها الاقتلاعي؛ في منهجية دولة الآبارتهيد المنظم، وهي تدخل اليوم مباشرةً وبأدواتها المختلفة على ممارسة الكراهية والعنف الدموي والحرق لبشر دون سن الثامنة عشرة..
إن شرارة التحدي التي أشعلت النار بدأت من شعفاط في قلب القدس، وانتقلت إلى عموم القدس الشرقية، وإلى الضفة الفلسطينية، بل وصل التحدي إلى حيفا حيث خرجت الأحياء العربية في تظاهرات عارمة رافعةً العلم الفلسطيني، ومطالبةً بالكفِّ عن التنكيل بهذا الشعب، ونحو تقرير مصيره بنفسه، وإدانة الاحتلال الإسرائيلي العنصرية، الأمر الذي دفع نتنياهو إلى نشر نبأ اتصاله بوزير الأمن الداخلي اسحق أهرونوفيتش طالباً منه بذل كل الجهود للوصول في التحقيق حول مَنْ اختطف الطفل الفلسطيني، ثم توجهه إلى "كل الأطراف إلى عدم أَخذ القانون بيدها، وإسرائيل هي دولة القانون، والجميع ملزم بالعمل وفق ما يقتضيه القانون"..!!
إن "القانون" الإسرائيلي يملي على جيشها وفق أول اجتماع "وزاري مصغر" في هذه الأزمة أن يعتقل الناس في الضفة الفلسطينية، وان يدمر محتويات منازلهم، وأن يدمر المؤسسات، وضرب البنى التحتية الاجتماعية، والدعوة بـ "السور الواقي 2" على غزة، وأَن تعلن قيادة هذا الجيش لاحقاً، بان الجيش غير مستعد لهذه العملية بحكم تكلفتها المالية والبشرية، وهذا كله، برسم الائتلاف المتطرف الحاكم، الذي يمثل حلبة مزاد عنصرية، ويا لها من أُعجوبة حين يصرح المتطرف موشيه يعلون وزير الحرب بان الجيش يرد على صواريخ غزة.. ولكن "هذا هو الوقت، كما دائماً للتصرف بمسؤولية واتزان وحكمة وعقل، والتفكير من الرأس وليس من البطن، وأن نكون صابرين"، كلٌ وجد أسلوبه الجديد والمعاكس للعنتريات في المهمات الثلاثة التي سبق وحددها لهم نتنياهو وأعلنها على الملأ.. لقد تلاشى هذا كله، فهل سنشهد تفككات في الائتلاف الحاكم المتطرف؟! وماذا سيكون مواقف "البيت اليهودي" و"إسرائيل بيتنا".. ونتنياهو ذاته بإعادة احتلال قطاع غزة.. "السور الواقي2"! أم أن هذه النماذج أمام مصالحها المباشرة وتزويرها.. فلا صدقية لها..
المطلوب الآن تبيان خلفيات هذه المخاطر، وفهم شامل للحاضر ومخططاته المعلنة، وألا تمثل هذه الاستدارة المضطرة إلى القفز فوق عقول الناس، وتجعل من حرق الإنسان أي إنسان عنواناً للتقرب إلى الله والثأر له، أليست هذه ذاتها هي "الفتاوي" السوداء من كارهي البشرية والإنسانية، وأنها نتيجة متراكمة لعدوانية كارهة ولفعل الشر بإسم "التطهير" (!) في سلسلة تربوية متراكمة على دماء الشعب الفلسطيني فوق أرض وطنه..
في الخلاصات؛ ينبغي وعلى رؤوس الأشهاد إبراز ما يمثله الاستيطان من جرائم يومية بحق الشعب الفلسطيني وتوثيق ذلك كله وفضح الاحتلال الاستيطاني إعلامياً، بما يترتب على هذه القطعان الهائجة من اعتداء على الحقوق الوطنية المشروعة غير القابلة للتصرف، وعلى أمن المجتمع الفلسطيني، ووفقاً للمعاهدات والقرارات الدولية ذات الصلة...
كما ضرورة توحيد الخطاب السياسي الفلسطيني، وتبني سياسة فلسطينية جديدة للخروج من "غياب وأزمة المشروع الوطني الفلسطيني الموحّد" ترتقي لمستوى المطالبة الشعبية الفلسطينية، والتوجه إلى المجتمع الدولي ممثلاً بالأمم المتحدة، ومواصلة الهجوم السياسي الوطني والدولي ضد الاحتلال ورفع أية صبغة تعني أنه "أمر واقع" عبر قرارات الشرعية الدولية قديمها ومستجدها، وعزل إسرائيل لانتهاكها قرارات ومواثيق الشرعية الدولية، والاستعداد لبناء نموذج ديمقراطي فلسطيني موحد، بوحدة جميع الفصائل في الميدان، وتشكيل لجان الدفاع عن الوطن، في معركة الاستقلال الوطني والخلاص من الاحتلال والاستيطان..

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف