رغم أن قباطنة المؤسستين السياسية والأمنية في إسرائيل أعلنوا منذ بدابة الحرب العدوانية الحالية على قطاع غزة أنها ستستمر طويلاً وستشهد توسعة وتكثيفاً، وأن جميع الخيارات مدرجة في جدول الأعمال بما في ذلك بل وفي المقدمة تنفيذ عملية اجتياح برية، إلا إن الوقائع المتراكمة تتيح إمكان الخلوص بالاستنتاجات التالية:
(1)
ازدياد المؤشرات إلى رسوخ قناعة لدى معظم أصحاب القرار الإسرائيلي باستحالة تحقيق حسم عسكري ضد المقاومة.
ولا نبالغ إذ نقول إنه وفقاً لهذه المؤشرات تدرك المؤسستان السياسية والأمنية في إسرائيل مسبقاً استحالة تحقيق حسم، ولذا حددتا للحرب "هدفاً متواضعاً"، هو إعادة الهدوء إلى الجنوب، ووقف إطلاق الصواريخ.
ونفترض أن ذلك جاء نتيجة استخلاص دروس الماضي من حروب شبيهة بما في ذلك ضد القطاع.
صحيح أنه كانت هناك أصوات دعت إلى الحسم العسكري، على غرار وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان الذي طلب في اجتماعات المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر للشؤون السياسية ـ الأمنية التصرّف هذه المرّة على نحو مغاير، وحثّ على اقتحام غزة براً وتحقيق حسم، محذراً الوزراء من أن الثمن الذي يمكن أن تدفعه إسرائيل في المستقبل عندما تصبح في حيازة حركة حماس عشرات ألوف الصواريخ طويلة المدى سيكون أشد بهظاً من الثمن الذي قد تدفعه الآن وفي حيازتها 3 آلاف صاروخ كهذا. لكن رغم ذلك فإن ليبرمان ما زال ـ بحسب وسائل الإعلام الإسرائيلية ـ يعبّر عن موقف الأقلية في الحكومة في حين أن الأغلبية فيها تسعى لتحقيق الردع لا الحسم.
(2)
إن ما يؤكد أيضاً أن هذه الحرب تسعى لتحقيق ردع، إعلان قيادة الجيش الإسرائيلي بعد البدء بشنّها أنها أعدّت عملية تتصاعد بالتدريج وفقاً للتطورات في الميدان، وذلك لاعتقاد هذه القيادة أن المقاومة ستقبل بالتهدئة، فلن تضطرها بالتالي للانتقال إلى مرحلة أخرى.
بموازاة ذلك جرى التلميح إلى أن حركة حماس تواجه في الوقت الحالي ضائقات اقتصادية وداخلية وسياسية الأمر الذي دفعها إلى تصعيد إطلاق الصواريخ باتجاه الأراضي الإسرائيلية، ولا تلبث أن تخنع لتهدئة جديدة غير مشروطة. لكن ما يتبين حتى الآن ليس فقط أن هذه الحركة لم تتخل عن شروطها للعودة إلى تفاهمات ما بعد عملية "عمود سحاب" (سنة 2012)- وفي مقدمها شرط إطلاق إسرائيل سراح الأسرى المحررين في «صفقة غلعاد شاليط» الذين اعتقلتهم بعد خطف ومقتل المستوطنين الثلاثة من غوش عتسيون ـ وإنما أيضاً أن لديها مفاجآت مثل الصاروخ الذي وصل إلى الخضيرة على بعد 120 كيلومتراً من قطاع غزة، ولم تكن إسرائيل على علم بحيازتها له، كما نُشر في الإعلام الإسرائيلي.
(3)
من الملفت أنه منذ أول أيام الحرب على غزة تكرّر في الإعلام الإسرائيلي نمط الأداء الذي يتصدّر المشهد في إبان أي حرب أو عملية عسكرية تخوضها إسرائيل، والذي رسمه يؤثر معظم الصحافيين والمحللين الإسرائيليين أن يبقوا في المناطق التي يغمرها الضوء وألا يبحثوا عن الخفايا الموجودة في العتمة.
وعدا استثناءات قليلة، فإن وسائل الإعلام الإسرائيلية استغلقت على خطاب واحد ـ هو الخطاب الحربيّ ـ ولم يكن لديها أدنى استعداد لسماع أصوات أخرى تتضاد مع هذا الخطاب.
كما اتسم أداء وسائل الإعلام هذه بتغييب الجانب المدنيّ المتعلق بالطرف الآخر، الفلسطيني، حيث أن قصص المعاناة لدى السكان المدنيين الفلسطينيين لا تجد لها حتى الآن موطئ قدم على الشاشة الصغيرة وكذلك ضمن تقارير الصحافة المكتوبة والمسموعة.
(4)
غسل رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو يديه مسبقاً من أي جرائم حرب يمكن أن ترتكب ضد المدنيين، وحمّل المقاومة الفلسطينية مسؤولية سقوط ضحايا من المدنيين بذريعة أنها تختبئ عمداً وراء ظهورهم.
هنا المجال كي نعيد إلى الأذهان أن اللهجة التي يخاطب بها نتنياهو العالم عامة ودول الشرق العربي خاصة تنطوي على قدر كبير من الاستعلاء والتكبّر. وهي لهجة مدجّجة بفاعلية قوى إسرائيلية في القاع، أضحت العنصرية والفاشية دينها وديدنها.
وكان عالم الاجتماع الإسرائيلي النقدي باروخ كيمرلينغ قد لفت قبل وفاته بأعوام، وفي معرض تلخيص نتائج الانتخابات الإسرائيلية العامة سنة 2006، إلى أن أغلبية اليهود الإسرائيليين- يمينيين ويساريين، صقوراً وحمائم ـ تفضّل أن تستفيق صبيحة ذات يوم صاف وتكتشف أن الفلسطينيين قد اختفوا أو تبخّروا بطريقة عجيبة، وأن كل هذا الصراع، وحقيقة وجود عرب بين ظهرانيها ومن حولها وفي أي مكان، كان مجرّد كابوس ليس أكثر، أو كان حلماً سيئاً وتبدّد.
ونوّه أيضاً أنه عقب فشل محادثات «كامب ديفيد» (سنة 2000) وإعلان أن «لا شريك» الذي أطلقه رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق إيهود باراك، فإن موضوعاً واحداً ظلّ طاغياً على الأجندة العامة لمعظم الناخبين الإسرائيليين هو: كيف يمكن التخلّص من العرب، أو على الأقل كيف يمكن التخلّص من أغلبيتهم؟. وتنبأ بأن يظل طاغياً على هذه الأجندة وقتاً طويلاً.
ولدى سؤاله عن توقعاته بالنسبة إلى ما سيلي انتخابات 2006، قال إن الخيارين الرئيسيين في نظر قطاعات واسعة من الجمهور اليهودي لمواجهة ما أسماه «تصعيد الصراع القومي ـ الإثني» هما: الترانسفير والجدران.
في ضوء آخر الوقائع، يمكن القول إننا نشهد الآن تحقق نبوءة كيمرلينغ هذه بكيفية ما.
وبخصوص الترانسفير وقبل تصريحات ليبرمان الأخيرة في هذا الشأن، سبق أن أشير في بداية العام الحالي إلى أنه في مناسبة الحديث حول اتفاق نهائي بين إسرائيل والفلسطينيين بالتزامن مع آخر جولة مفاوضات بين الجانبين، طُرحت مرة أخرى فكرة نقل مناطق من المثلث العربي في إسرائيل إلى سيادة الدولة الفلسطينية التي ستُقام.
ووفقاً لصحيفة "معاريف" فإن الحكومة الإسرائيلية قدمت إلى الولايات المتحدة اقتراحاً يقضي بتسليم الفلسطينيين في إطار اتفاق تبادل أراض جزءاً من منطقة المثلث يسكن فيه نحو 300 ألف مواطن عربي في مقابل ضم الكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية إلى إسرائيل.
أمّا بالنسبة إلى الجدران، فتكفي مراجعة الخطاب الذي ألقاه رئيس الحكومة نتنياهو في الندوة التي عقدها "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب حول "خيارات إسرائيل الراهنة" يوم 29 حزيران/ يونيو الفائت، وطرح فيه "عقيدته الاستراتيجية" المحدثة.
طبقاً لهذه العقيدة، فإن التحدي الأمني القومي الإسرائيلي الأول بحسب نتنياهو هو تحصين الحدود والدفاع عنها، عن طريق بناء جدار أمني في الشرق عند منطقة الحدود مع الأردن، إلى جانب الجدار الموجود في هضبة الجولان وذلك الموجود في شبه جزيرة سيناء. ويضاف إلى ذلك وجود عسكري طويل الأمد على نهر الأردن والمحافظة على استقلالية إسرائيل العسكرية.
في ضوء ما تقدّم يُطرح السؤال: هل ثمة خطط جهنمية في الأدراج الإسرائيلية لتحقيق أمنية تبخّر أغلبية الفلسطينيين؟

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف