رحل الصديق ورفيق الدرب هشام ابوغوش مبكرا قبل أن تكتحل عيناه بتحرير وإعادة بناء بلدته ومسقط رأسه عمواس التي دمرها الحقد الصهيوني بعد عدوان حزيران عام 1967.غادرنا هشام المناضل الصلب في صفوف الجبهة الديمقراطية في زمن باتت فيه الخيانة عبارة عن وجهة نظر لدى البعض. ترجل هشام ابوغوش عن فرسه للمرة الأخيرة في الوقت الذي بات فيه التنازل عن جزء من الأرض والحقوق تعبيرا عن حسن النوايا والرغبة في تحقيق السلام. رحل والتنسيق الأمني مع الذي دمر وهدم بيوت عمواس وغيرها مقدس لا يمكن الاقتراب منه. رحل الرفيق الصلب الذي قارع الاحتلال لعقود طويلة مبكرا وقبل أوانه وفي وقت ما زلنا بأشد الحاجة إليه. توفي هشام قبل أن يتحقق حلمه بان يكون مثواه الأخير في مقبرة عمواس التي ضمت رفات العديد من الصحابة بسبب انتشار مرض الطاعون قبل نحو 1400عام حين حررها عمرو بن العاص.فعمواس قرية فلسطينية احتلت عام 1967وهي تعنى الينابيع الحارة أيضا وفقا لموسوعة الأوكوبيديا، حيث قام الجيش الإسرائيلي بتدميرها وهدمها وطرد أهلها وكان هذا نفس مصير قريتي يالو وبيت نوبا التي يحتضنهم جمعيا لسان اللطرون (كما يطلق عليهم أيضا قرى اللطرون الثلاث). وتقع عمواس على مفترق طرق يوصل بين مدن رئيسية هي رام الله، الرملة،يافا، القدس وغزة. تبعد عن يافا نحو 30 كلم ومثلها تقريباً عن القدس ورام الله وترتفع عن سطح البحر 230 متراً. حولها الاحتلال ومعها بيت نوبا ويالو إلى متنزه أطلق عليه أسم كندا بارك رغم وجود بعض القبور المنتشرة هنا وهناك حالها بذلك كحال مقبرة مأمن الله في القدس.ولد رفيقنا الراحل عام 1947 ونشأ وترعرع ودرس في مدارسها قبل أن ينتقل إلى رام الله ومن ثم إلى الجامعة الأردنية لمواصلة تحصيله العلمي. التقيت هشام لأول مرة في أيلول عام 1971 بعد معارك الأحراش في جرش وتمكنه من الوصول إلى الشام سالما.ثم تكررت لقاءاتي به وتوطدت علاقتي معه وقضينا أياما رائعة في لبنان قبل أن أعود إلى القدس حيث كان مسئولي المباشر آنذاك.وبعد عودتي من الأرض المحتلة في بداية عام 1973سكنا معا في شقة برأس النبع ببيروت وكان معنا رفيق دربنا الثالث جورج ، أمد الله في عمره.لم يكن هشام مسفارا (محبا للسفر) وبقدر ما تسعفني ذاكرتي فقد سافر إلى موسكو على رأس وفد من كادر الجبهة الديمقراطية للتثقيف ومكث نحو 9 أشهر عاد بعدها وهو أكثر التزاما بفكر وخط الجبهة.كان هشام ابوغوش زاهدا وناسكا وصلبا تم انتخابه كعضو في المكتب السياسي في الجبهة وكان أصغر الأعضاء سنا حينها. وقد اتخذ موقفا حازما وقويا ضد خروج مجموعة من الجبهة وتشكيلهم منظمة جديدة لهم، تأثر لكن ذلك لم يضعف من عزيمته والتزامه غير العادي بخط الجبهة وفكرها. لقد وصلت المجموعة التي خرجت من صفوف الجبهة الآن إلى مأزق حقيقي بمغادرة وتشتت معظم قيادات المجموعة العمل النضالي وتفرغهم لإعمالهم الخاصة.وكما قال لي فان ساحة النضال في فلسطين كانت من أكثر الساحات تأثرا بخروج هذه المجموعة نظرا لكونهم كانوا المسئولين المباشرين عن منظمات الداخل التي كانت تعد بآلاف ومما قاله لي فور عودته إلى أرض الوطن، وكنت قد سبقته بالعودة ببضعة سنوات، انه لم يكن ليحزن أو يتأثر كثيرا لو أنهم حققوا بخروجهم أو انشقاقهم بشيء له قيمة أو فائدة للنضال الوطني، لقد تبعثروا وتفرقوا واختلفوا بعد مؤتمرهم الذي عقدوه في أريحا. كان من النادر أن لا اتصل به شهريا أو العكس أثناء وجوده في بيت لحم وفي حالات قليلة حيث كان لدي عمل في الخليل أو بيت لحم نفسها في مجال التدريب أو العمل الاستشاري،كنت اتصل به ونذهب إلى بيته لتناول وجبة نصف دسمة وقليلا ما كان مقصدنا مطعم. وحينما انتقل عمله إلى رام الله كنت أذهب إليه في بناية الميدان ونتحدث ونتشارك في وجبة فول شعبية. كان صريحا معي في تناولنا للقضايا السياسية وأسباب فشل م.ت ـ ف والسلطة في تحقيق أية انجازات ذات دلالة ورغم قسوتي ونقدي لممارسات اليسار ولدوره في تنشيط الحركة الجماهيرية، فإن ذلك لم يضعف من قوة العلاقة بيننا وكان حريصا على تزويدي بالتعاميم والأخبار السياسية بما فيها محاضر اجتماعات اللجنة التنفيذية ،وكنت احصل عليها قبل ذلك من ممثل الجبهة مباشرة .وكان من بين ثلاثة أشخاص أطلعته على نتائج لقائي مع الأمين العام في فندق عمرة قبل نحو 5 سنوات وقد عزمت حينها على نشر مضمون الاجتماع في مقال ،كان يتوجب إرساله إليه للحصول على موافقته قبل النشر كما تقتضي الأصول المهنية لكن الأمين العام أبدى رغبته في عدم النشر في رسالة اليكترونية أرسلها ،وقد اطلعت هشام عليها ولم يحصل على نسخة نزولا عند رغبة الأمين العام بعدم النشر(المقال وملاحظة الأمين العام محتفظ بهما). لقد تحمل بجلد وصبر وعزيمة لا تلين وفاة شقيقيه الكبيرين ورفيقة دربه نهاية ورفاق وأصدقاء آخرين ،لقد كانت لديه قدرة تحمل كبيرة على المصائب وحينما علم بتسلل المرض الخبيث إلى جسده النحيل لم يتقاعس أو تفتر عزيمته أو تلين قناته فبقي يناضل غير عابئ به وتعامل معه وكأنه غير موجود.وقد سمحت له سلطات الاحتلال بالسفر بعد أن رفض طلبه أكثر من مرة، إلى عمان لتلقي العلاج في مستشفى الأردن غادر إلى هناك حيث زاره الأمين العام كعادته دائما ومعه العديد من رفاق ورفيقات دربه للاطمئنان عليه. كان لزاما عليَ أن أسافر إلى عمان لزيارته في المستشفى مع رفيقنا المشترك جورج الذي كان قد سبقني بزيارته حينما علم بوجوده في المستشفى .جلسنا معا ثلاثتنا وتجولنا في ممراته وطلبنا منه البقاء في عمان وقد رجوت جورج أن يصادر تصريحه وجواز سفره وهويته لإجباره على البقاء والخضوع للعلاج ،لكن ذلك لم ينجح .وقلت له: عليك أن لا تضمن موافقة سلطات الاحتلال السماح لك بالخروج مرة ثانية للعلاج ، وهكذا كان. لقد عاتبته كما فعل غيري لكنه لم يكن ليرضى بالبقاء بعيدا عن أرض النضال وهواء عمواس.هشام أو عبد الحميد أو أبوالهيش الذي كنا نطلقه عليه تحببا لدى مجموعة من رفاق دربه المقربين أو داود العمواسي وهو الاسم الحركي الذي اخترته له في المذكرات التي أكتبها حاليا والتي من المتوقع أن ترى النور في العام القادم وألان سنضيف إليها أسم أخر هو فارس عمواس، فكلها أسماء لمناضل صلب أفنى حياته دفاعا عن الثورة والشعب والوطن .كان زاهدا وناسكا وأمينا وطاهرا لم تسجل عليه هفوة في السلوكيات الاجتماعية سواء مع رفاق دربه أو مع الآخرين.كان مناضلا استثنائيا لم يستفد قط من المزايا التي كان يحصل عليه غيره بحكم الموقع الحزبي،فلا سائق ولا مرافق ولا بطاقة VIP ولا تنسيق في المعابر والحواجز.كان صلبا لكنه عصيا على الكسر ومرنا دون التنازل عن الثوابت والمواقف المبدئية. لقد خسرت الجبهة الديمقراطية بوفاته أحد أبرز عناصر النقاء الثوري.هشام ابوغوش لم يعد عمواسيا فهو بات ملك لفلسطين ولم يعد يخص الجبهة الديمقراطية فحسب بل بات وطنيا بامتياز، وهذا ما أكدته ورسخته جنازته الحاشدة وبيوت العزاء التي فتحت له في رام الله وعمان وغزة وطولكرم وبيت لحم ولبنان.هشام يستحق منا جميعا أن نطبع له كتبا ترصد وتتحدث عن مسيرته النضالية ولا أخال الجبهة فاعلة غير ذلك .هشام ابوغوش يستحق وعن جدارة أن يقام له تمثالا يليق بنحو 50 عقدا من النضال والإقدام والتضحية وان تطبع له الكتيبات والنشرات وأن يطلق أسمه على احد شوارع بيت لحم أو رام الله . رفيقي هشام لا أملك وأنت تغادرنا بعد أن تمكن منك المرض الخبيث،إلا أن أقول لك لقد خسرناك بحق ومن الصعوبة بمكان تعويضك.فالشهداء والمناضلون والإستثنائيون أمثالك لا يعوضون وإنما السعي للالتزام بما خطوه وانتهجوه وكرسوه من أفكار وممارسات وسلوكيات. ذلك هو ما يريدون ويأملون منا أن نفعله بعد وفاتهم وهذا ما نحن فاعلون وعازمون عليه بإذن الله.لقد ترك هشام برحيله فراغا في النقاء والزهد والوفاء والتواضع والالتزام من الصعب أن يملأه اخرون بعده. فكل التحية والإجلال والتقدير لك يا رفيق دربي .

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف