يوسف سامي اليوسف هو صنيع ذاته، وصنيع ظروف كثيرة خلقت «مزاجه» الذي ظل يعوِّل عليه كثيراً، يبوح في حوار معه «لم يؤسسني أفلاطون ولا أرسطو، ولا كانط ولا هيغل، ولا الدكتور جونسن ولا ت. س. إليوت الناقد، ولا الآمدي ولا الجُرجانيّان, وإنما أسستني النكبة، أو الكارثة التي حلت بفلسطين سنة 1948». ولهذا جاء كتابه الشهير «رعشة المأساة»، الذي كرسه لدراسة أدب غسان كنفاني، ليعلن أن الجانب الوطني أو الجانب المقاوم، هو ما أبرزه في معظم الدراسات التي قدمها عن الأدب الفلسطيني، وهو يقول: «لكنني لم أغفل القيم الإنسانية التي اهتم بها غسان، ولا سيما في مسرحه الذي ما أتيحت له فرصة النضج، فقد اغتيل الرجل وهو في أوج العمر، أو عند بداية النضج بالضبط».
يوسف سامي اليوسف كان واحداً من أهمّ النقّاد في عالمنا العربي، وبرحيله تفقد الساحة الثقافية العربية واحداً من أشدّ نقادها ومبدعيها خصوصية وعمقاً، وهو الذي ملأ خريطة الإبداع والنقد بنتاج ثقافي لا يتكرر. لقد تمتّع الناقد الفلسطيني الكبير بأدوات لم يمتلكها سوى قلة من نقادنا العرب، وتميّز بنكهة لاذعة حدّ القول إنها حارقة. فهو عاش بقليل من الشهرة التي كان عازفاً عنها، ورحل بصمت الكبار الذين عاش معهم. ومن عرفه عن قرب، يعرف كم كان وكم ظلّ عزيز النفس، لا طموح لديه خارج دائرة الإبداع العميق والخاص. وعلى صعيد حياته وعلاقاته، جمع اليوسف بين التزمت والتسامح في شخصه المعطاء.
وبالنسبة إليه، وبعد خبرة طويلة في النقد، كان يرى أن «جُلّ العملية النقدية يتجذر في مزاج الناقد، والمزاج هو الطبع الذي يولد مع المرء، ولكن يتأثر كثيراً بالحوادث الحادة التي يعيشها في حياته، ولا سيما بالكوارث الوطنية والاجتماعية التي من شأنها ان تشحذ الحساسية، وأن تمدها بزخم عارم لم يكن لها من قبل، والحساسية عندي هي اليخضور الساري في شجرة الحياة كلها».
هذه الروح الخاصة، في عمقها وفرادتها، هي التي قادته إلى رؤى وآراء نافرة، مستفِزّة، ومنفِّرة أيضا، ذلك أنه لم يكن يتساهل أبداً في رأيه ورؤيته، بل كان حاداً متشبثاً بما يرى، لا تغريه المجاملات، ولا تنال منه المدائح. اختار منهجه في الحياة وفي الكتابة، مستندا على ركائز أساسية لا تتغير، فكان موسوعياً كما يتطلب الأمر من الناقد الحقيقي، وصاحب ذائقة لا تتساهل مع الرداءة، مؤكداً في عمله على رفض النظرية الواحدة، ليرسخ التعددية والصدقية أساسين في كل عمل إبداعي ونقدي كذلك. لم يذهب عمله هباء، رغم العزلة التي فرضها على نفسه، مبتعداً عن البذاءة، ومخلصاً لحريته واشتغالاته، ورغم إنجازاته، منذ مقالاته «في الشعر الجاهلي» (1975)، و»الشعر العربي المعاصر» (1978)، وتاريخ فلسطين(1989)، ومقدمة للنفّري (1997)، حتى «تلك الأيام»، وهي مذكراته في ثلاثة أجزاء،‏ كان، وبحسب حديث له يتطلع «إلى البرهة التي أكف فيها عن ممارسة هذا العناء السقيم العقيم الذي يسمى الكتابة، فلا مراء في أنني أشقى وأتعب بغير مردود، أياً كان نوعه. فلو لم يكن هنالك سوى مردود معنوي لرضيت. ولكن، ما من شيء إلا التعب اللامجدي، والعداء من كل حدب وصوب، واللصوص ينهبون الكثير مما أكتب، من دون أن يشعروا بأي حياء أو خجل».
الكاتب الراحل هو من مواليد لوبية – فلسطين عام 1938، نزح إلى لبنان عام 1948، وغادر إلى سورية سنة 1956، انتسب إلى جامعة دمشق 1960 وتخرج فيها. وعاش حياته في مخيم اليرموك، في بيت متواضع بناه «حجراً على حجر»، وعلى مراحل، وكان بيته وكانت مكتبته ملاذاً لأجيال من المبدعين الفلسطينيين والسوريين والعرب المقيمين في سورية. وللكثيرين منهم شهادات معلومة في هذا الشأن، وكنت أحد من يلذ لهم الالتقاء به أو زيارته. ومما قاله فيه الشاعر السوري المعروف عبدالقادر الحصني: «أتاحت لي صداقتك المبكرة في مطلع سبعينات القرن الماضي أن أكون الأقربَ إلى أغزر من عرفت ثقافةً في الفلسفة وعلم النفس والتاريخ والأدب العالميّ، فاغتنت ثقافتي التراثية آنذاك بما لديك، فأنا مدين لك بما أنا على نحوٍ ما».

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف