الشرق الأوسط هو مهد الحضارة –وهو مهد الحروب المنظمة بين الدول والقبائل. وتأتي أقدم المعارك المسجلة في التاريخ، والبعض من الأكثر تأثيراً على الإطلاق، كلها من هذه المنطقة. ومع أن هذا العرض لا يقدم قائمة شاملة لمعارك المنطقة بأي شكل من الأشكال، فإنه يعرض خمسة من أعظم المعارك التي دارت رحاها في منطقة الشرق الأوسط على مدار التاريخ:
معركة قادش
دارت معركة قادش بين المصريين والحثيين (من تركيا المعاصرة) في العام 1274 قبل الميلاد، في موقع في سورية الحديثة قرب الحدود اللبنانية. وكانت القوتان تتقاتلان من أجل السيطرة على بلاد الشام منذ فترة من الوقت. وتشكل هذه المعركة أهمية خاصة في تاريخ الحرب والدبلوماسية، لأنها أول معركة مسجلة تكون تفاصيلها وتكتيكاتها معروفة. وبالإضافة إلى ذلك، تشكل معاهدة السلام التي تلتها أقدم معاهدة سلام حية معروفة حتى هذا التاريخ. وليس ذلك فحسب، وإنما تم العثور على كل من نسختي المعاهدة، المصرية والحثية أيضاً.
إذا وضعنا الأهمية الواضحة بالنسبة للمؤرخين جانباً، فإن هناك المزيد من السمات التي تجعل معركة قادش مهمة فعلاً. كانت أكبر معركة بالعربات ذوات العجلتين في التاريخ، حيث شاركت فيها 6.000 عربة. وفيما بعد، أصبحت هذه العربات أقل شيوعاً باطراد بسبب التحسينات التي طرأت على أساليب تربية الخيول والمعدات التي جعلت سلاح الفرسان أكثر فائدة. وكانت الحروب المستمرة بين الدولتين عاملاً من عوامل انهيار الكثير من حضارات العصر البرونزي بعد فترة وجيزة من تمكُّن شعوب البحر من تدمير الحثيين. وبدأت تلك المعركة نفسها عندما تحرك الفرعون المصري رمسيس الثاني شمالاً على جناح السرعة من أجل الاستيلاء على مدينة قادش، فقط ليجد أن قواته قد انفصلت بسبب الاندفاع المتعجل، وليجد قوة من الحثيين بالقرب منه. وعلى الرغم من أن المصريين كادوا يخسرون المعركة تماماً تقريباً، فإنهم استطاعوا كسب الزخم بفضل التكتيكات، والشجاعة، والاستفادة من توقف الحثيين لنهب المعسكر المصري. ويعتقد المؤرخون أن نتيجة المعركة كانت تعادلاً، بحيث ادعت كل من القوتين النصر لنفسها.
معركة نينوى
يعمل القدر بطرق غريبة في أغلب الأحيان. ثمة إمبراطوريات قوية، والتي بدت عصية على الهزيمة على مدى قرون، لكنها انهارت تماماً في مجرد بضع سنوات. وهذا ما حدث مع الإمبراطورية الآشورية التي هيمنت على منطقة الشرق الأوسط لثلاثة قرون، وحكمت وأخذت الجزية من بني إسرائيل، والبابليين، والعيلاميين، والمديين، والفرس وغيرهم الكثير. ومع ذلك، انهارت الإمبراطورية الآشورية، بعظمتها التي كانت عليها، بسرعة كبيرة بعد معركة نينوى التي وقعت قرب الموصل في العراق في العام 612 قبل الميلاد، عندما قام البابليون، والمديون، والفرس من إيران الحديثة، والسيثيون من سهوب روسيا الحديثة، بالإطاحة بالآشوريين.
كان الآشوريون إمبراطورية وحشية بطريقة تبعث على الصدمة، حتى بالمعايير القديمة. وبدأ صعودهم إلى السلطة في القرن العاشر قبل الميلاد، وكان هدفهم هو القضاء المبرم على أعدائهم عن طريق تشريد وإعادة توطين الشعوب المهزومة. وبلغت آشور ذروتها حول العام 627 قبل الميلاد، لكنها أصبحت مستهلكة دائماً بسبب المعارك، والحروب الأهلية، والتعامل مع الأعداء المستائين. كما قامت بغزو مصر في نهاية المطاف، واضطرت إلى التعامل مع تلك الأرض أيضاً.
بعد صراع مرير دام عدة سنوات، وصلت الشعوب المختلفة المتحالفة ضد آشور إلى جدران نينوى، عاصمة الإمبراطورية، وتمكنت من الاستيلاء على المدينة بعد حصار دام ثلاثة أشهر. ووفقاً لسجل بابلي، فإنهم "حملوا الغنائم الكبيرة من المدينة والمعبد وحولوا المدينة إلى كومة من الركام". وعلى الرغم من أن الإمبراطورية البالية نهضت على رماد آشور لتحكم الكثير من نفس أراضيها، فإنها لم تكن أبداً بنفس قوتها، ويجب عدم نسيان أن آشور سقطت فقط بمساعدة أناس من خارج منطقة القوة والحضارة الأصلية في منطقة الهلال الخصيب. وبعد ذلك، شرعت السلطة في الشرق الأوسط في الانتقال بثبات بعيداً عن سورية والعراق، وفي اتجاه فارس والأناضول واليونان.
معركة غوغاميلا (أربيلا)
كانت معركة غوغاميلا واحدة من أهم معارك التاريخ على الإطلاق، والتي تمكن فيها الإسكندر المقدوني الكبير من هزيمة داريوس الثالث ملك فارس في العام 331 قبل الميلاد. وحتى ذلك الوقت، كانت الإمبراطورية الفارسية هي أعظم الإمبراطوريات التي شهدها العالم. وقد غزاها الإسكندر فيما كان في ظاهره انتقاماً لغزو فارس لليونان قبل أكثر من مائة عام، لكنه فعل ذلك من أجل المجد على الأغلب.
لكم كانت تلك حملة مجيدة. فعلى الرغم من تفوق العدو عليه عددياً بشكل كبير، كسب الإسكندر المعركة بعد المعركة، وكان قد استولى مسبقاً على الأناضول ومصر بعد هزيمة داريوس في معركة إسوس (333). وحاول داريوس أن يرتب هدنة وأن يمنح الإسكندر نصف إمبراطوريته، لكن الإسكندر قرر أن يكون السيد الأوحد للمنطقة؛ وبذلك التقى الجيشان في غوغاميلا (أربيلا) بالقرب من الموصل، العراق.
تبالغ السجلات اليونانية بلا شك في وصف قوة الفرس، لكن الفرس كانت لهم فعلاً قوة أكبر في المعركة. ولكن، لماذا خسر الفرس بهذه الفداحة على الرغم من أعدادهم الكبيرة وتاريخهم في بناء الإمبراطورية الناجح؟ لقد استخدم الإسكندر كلاً من الحرب النفسية والتكتيكات الحربية بشكل جيد، فقام بتطويق القوات الفارسية، ساحباً أفضل قواتهم إلى الجانبين، ثم هاجم داريوس في الوسط المكشوف. وعندئذ، كسر داريوس الطوق وهرب، إلى جانب جيشه.
بعدئذٍ سقطت الكثير من أجزاء الإمبراطورية الفارسية في يد الإسكندر، وأصبح قادة داريوس مضطربين، بمن فيهم واحد أقدم على قتله. وكسر سقوط الإمبراطورية الفارسية الأخمينية حقبة الهيمنة الفارسية التي استمرت خمسة قرون، لتبدأ حقبة من النفوذ والهيمنة اليونانية عبر الشرق الأوسط، وصعود العديد من الممالك الهلنستية. لكنني أخشى من تصوير ذلك على أنه معركة رئيسية حدثت بين الشرق والغرب، والتي يتردد صداها في الأوقات الحديثة؛ لقد كان ذلك بالأحرى هو انتصار شعب على آخر، وما تلاها من الانتشار اللاحق لثقافة المنتصر، وهو وضع شائع ومألوف في التاريخ.
معركة اليرموك
في القرن السابع الميلادي، كانت القوى العظمى المهيمنة في الشرق الأسط هي الإمبراطورية البيزنطية (روما الشرقية) والإمبراطورية الفارسية الساسانية. وكانت كل الدول الأخرى في المنطقة مجرد ممالك ثانوية أو قبائل. ولم يكن أحد ليتخيل في بداية ذلك القرن أن تاريخ المنطقة سيتغير إلى الأبد في وقت قريب جداً، لكن ذلك هو ما حدث في اليرموك، بالقرب من الحدود السورية الحديثة مع الأردن وإسرائيل، في العام 636 ميلادي. وقد أسفرت تلك المعركة عن احتلال المسلمين العرب لسورية وفلسطين، وعن قطع مصر عن بقية الإمبراطورية، مما جعل من السهل غزوها بعد فترة وجيزة. وبعبارات أخرى، كان الشرق الأوسط العربي المسلم نتيجة مباشرة لمعركة اليرموك.
بدأ الخليفتان الأولان أبو بكر وعمر في مهاجمة جيرانهم، فيما كان في جزء منه لتوجيه طاقات القبائل المتمردة إلى أماكن أخرى. وكان العرب قد احتلوا دمشق مسبقاً، وتم إرسال جيش بيزنطي كبير إلى سورية لوضع حد للتهديد العربي. وتحت قيادة القائد العربي خالد بن الوليد، انسحبت القوات العربية التي كانت تغير على سورية وتمركزت في مكان واحد لمقاتلة البيزنطيين. وتمكنت تلك القوة العربية الأصغر حجماً حينذاك من إلحاق الهزيمة بالقوة البيزنطية الأكبر على مدار ستة أيام، باستخدام مجموعة متنوعة من التكتيكات، بالإضافة إلى فشل البيزنطيين في استخدام قوات الخيالة عند الحاجة. وسقطت القدس في يد العرب في وقت قصير بعد ذلك، وبدأت الحقبة الإسلامية للشرق الأوسط من هناك.
معركة نهاوند
كان أمراً مهماً في تاريخ العالم في الحقيقة أن يستطيع العرب في غضون عشر سنوات من وفاة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) أن يهزموا ويحتلوا أجزاء واسعة من كلا الإمبراطوريتين، البيزنطية والفارسية. ولكن، في حين نجا البيزنطيون، فإن الفرس الساسانيين لم يكونوا محظوظين بنفس المقدار. وبينما كان العرب يستولون على بلاد الشام، فقد كانوا يقاتلون الفرس أيضاً، والذين تلقوا هزيمة حاسمة في معركة القادسية في العام 636، حيث تمكن العرب من غزو العراق. وعند تلك النقطة، لم يكن كل شيء قد ضاع من أيدي الفرس الذين كانوا ما يزالون آمنين في إيران وآسيا الوسطى. ولكن، وعلى عكس البيزنطيين وعاصمتهم البعيدة، القسطنطينية، فإن عاصمة الفرس، المدائن (قرب بغداد)، فُقدت. وبالتالي، شعر الفرس بأنهم ملزمون باستعادة العراق، مما أفضى إلى استدراج المزيد من الحملات العربية ضد فارس، والتي لم يكن مخططاً لها قبل ذلك.
وهكذا جاءت معركة نهاوند في العام 642، والتي شكلت كارثة كبيرة للفرس و"انتصار الانتصارات" للعرب. وتقع نهاوند في غرب إيران بالقرب من همدان، وكان يُعتقد أن التضاريس الجبلية ستعطي المزية للفرس. ومرة أخرى، كان عدد قوات العدو يفوق عدد العرب. لكن الأخيرين لجأوا إلى الحيلة، حيث نشروا شائعة تقول إن الخليفة قد مات، وهو ما دفع الفرس إلى الخروج من دفاعاتهم وتحصيناتهم إلى سهل مكشوف، حيث هُزموا في غضون ثلاثة أيام. وبعد هذه المعركة، لم يكن بالوسع إنقاذ فارس التي أصبحت منهكة بسبب الحروب مع العرب والبيزنطيين. ثم أصبحت الهضبة الإيرانية كلها مكشوفة أمام العرب الذين سرعان ما غزو إيران ثم آسيا الوسطى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* محرر مساعد في "ذا ناشيونال إنترست".
* نشر هذا الموضوع تحت عنوان: 5 Battles That Changed the Middle East Forever
* – (ناشيونال إنترست) 23/5/2015 ـ ترجمة الغد ـ 31/5/2015

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف