تتأثر الساحة السياسية الاسرائيلية بالناس الخائفين. فليست رصاصات رجال الاغتيال تخيف السياسيين، ولا التقارير الرقيقة لمراقب الدولة. فهم يخافون من الوقوف في وجه القطيع، للاغلبية ليقولوا في وجهها حقيقتهم، فيكتشفوا بانهم وحيدين.
لقد كان يوسي سريد سياسيا عديم الخوف. على مدى كل حياته السياسية قال وفعل ما اعتقده صحيحا، دون أن يراعي اعتبارات الراحة أو الاضرار المحتملة لحزبه او للمعسكر السياسي الذي كان من قادته. وكان متوحشا تجاه الاقوياء – تجاه نفسه ايضا، وكان رقيقا كالزبدة تجاه الضعفاء. وكلما كان الكفاح ضائعا اكثر، يائسا اكثر، انشد اليه سريد بحبال سحرية. كان لاعبا جماعيا، في حزب العمل وفي ميرتس ايضا، ولكنه قبل كل شيء كان عازفا منفردا.
لقد أجاد الحديث واجاد الكتابة، وهما ميزتان ناقصتان في الخطاب العام اليوم. بعبرية دقيقة، ثرية في اصولها، لامعة، لاذعة. فمه وقلبه كانا متساويان: وعليه فحتى الناس الذين اختلفوا معه كان يمكنهم ان يحبوه.
مثل كثيرين آخرين في السياسة، اتخذ خطواته الاولى في الساحة السياسية كناطق. ولكن بسرعة شديدة تبين بانه في افضل حال ليس عندما يصيغ اقوال الاخرين بل عندما يصيغ افكاره هو نفسه. لم يكن لديه في أي مرة معسكر خاص به، دائرة خاصة به. لم يبنِ قوته على الاخذ والعطاء الدارج في السياسة. فلم يكن يحتاج الى هذا. وطبيعي الامر فقط في أنه لم تعلق به شائبة في أي مرة. فالمال لم يكن يعنيه. والقوة لغرض القوة لم تكن تعنيه. ولم يكن مدينا لاحد.
تعرفنا قبل سنوات عديدة، حتى قبل أن يكون سياسيا وانا صحفيا. كنا متوادين ولكننا لم نكن صديقين قريبين: فالصداقة بين السياسي والصحفي هي موضوع صعب، وربما متعذر. ولكن صدف لي ان استمعت اليه غير قليل على مدى السنين، وتابعت خطواته، واخذت انطباعات عن حدة عقله. فقدرة سريد على تحويل حدث سياسي الى قصة، الى دراما كانت استثنائية. وكانت دقته مثيرة للانطباع وحدته مشوقة. في احدى الرحلات الجوية العديدة الى القاهرة، في ذروة المسيرة التي بدأت باتفاق اوسلو، رحب الطيار قبل الاقلاع بـ "وزير الخارجية شمعون بيرس وحاشيته والوزير يوسي سريد وحاشيته". بيرس كان محوطا برجال الحاشية. اما سريد فجاء وحيدا. ولم يكن مفر من الاستنتاج باننا نحن، الصحفيين، كنا حاشيته.
تطلعه للسلام لم يكن ايثاريا. سريد لم يكن مسالما. نقطة انطلاقه كانت دولة اسرائيل. مصالحها الوجودية، القلق على مستقبلها. وكانت الرؤيا برغماتية، قريبة من الواقعية، ليست مسيحانية، بريئة من الرومانسية. من هذه الناحية، على الاقل، كان وبقي على مدى حياته السياسية في داخل التيار المركزي لحركة العمل.
الانكسار الذي اصاب اليسار بعد فشل محادثات كامب ديفيد في العام 2000 لم يتجاوزه. والامل بتحويل تاريخ دولة اسرائيل الى اتجاه آخر خاب. ويخيل لي ان احساس تفويت الفرصة لم يغب عنه في الـ 15 سنة التالية. فقد رأى صنيع يديه يغرق في البحر، ووجد صعوبة في اطلاق القصيدة.
كان فيه جانب آخر: حساسية كبيرة نحو الظلم، ولا سيما الظلم الذي احيق بالافراد ولكن ايضا الظلم الذي احيق بالجماعات، بالقطاعات، بالسكان بأكملهم. ونزعة لا تتوقف، جد غير سياسية، لكشف كل ما رآه ككذب وكازدواجية. صوته، نقي وجلي ولا يساوم. وضع امام الاسرائيليين مرآة وحشية. وهو سينقصنا جدا.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف